محمد أمين الداهية
بعد يوم شاق من العمل المكثف والحسابات المرهقة والتنقل من مكان لآخر للإشراف على سير العمل والعمال الذين يعملون لديه في محلاته التجارية المترامية الأطراف، عاد إلى منزله، ولكن ما إن استراح هنيهة من الوقت حتى شعر ببعض الألم في معدته أزعجه وأفسد عليه وقت راحته، لم يطق ذلك الإزعاج فقرر أن يزور أقرب مستشفى للمعاينة وأخذ بعض المسكنات، كانت الساعة تشير إلى تمام الثانية عشرة ليلاً، ففي مثل هذا الوقت لا توجد عيادة معاينة مناوبة في ذلك المستشفى، فما كان منه إلا أن توجه إلى قسم الطوارئ، عرض حالته على أحد الأطباء المناوبين، أعطي بعض المسكنات، فبينما هو يشكر الطبيب الذي عالجه إذا برجل في نفس عمره يدخل على الطبيب باكياً ومستنجداً ويطلب من الطبيب أن ينقذ حالة والدته، ويرمي إليه بمفتاح سيارته ويعده بأنه سيعطيه السيارة إذا نجح في إنقاذ والدته التي أصيبت بجلطة، تأمل في ذلك الرجل وهو يتوسل إلى الطبيب فلم يشعر إلا وقطرات من الدمع قد عبرت خديه، رجع إلى منزله وصورة ذلك الرجل وموقفه مع الطبيب في إنقاذ حياة والدته لم تفارقه لحظة واحدة، فبينما هو مستلق على سريره الفاخر عادت به الذكريات إلى وطنه وأمه وأول شيء خطر على باله والدته التي فارقها منذ سنين وهي تعاني مرضاً في إحدى كليتيها، فبينما هو غارق في تفكيره ساند دموعه الغزيرة بصرخات وتؤهات انبعثت من صميم صدره، فقد كانت تلك الدموع والأوجاع مدفونة بداخله منذ اثنا عشر عاماً، فنجاحه في عمله وتجارته قد أنسته نفسه وأهله ووطنه قد نسي أنه غادر وطنه ووالدته المسكينة في عراك شديد مع المرض ونسي أيضاً أن والده كان يعجز أحياناً عن توفير حقنة مهدأة لوالدته المريضة، ولم يعرف طوال هذه السنين أن أخته التي تركها وهي في العاشرة من العمر قد توفيت، وأن زوجته التي طلقها قد تزوجت ورمت بابنته التي تركها وهي في سنها الثاني إلى والده ووالدته.. وبعد أن غرق بدموعه وشفى بكاءه غليله، قرر أن يعود إلى وطنه وأهله، أخذ هاتفه السيار واتصل برقم منزلهم والذي من العجيب أنه مازال يذكره، ولكن للأسف الذي رد عليه رجل آخر وأخبره أنه قد اشترى المنزل من والده منذ سبعة أعوام وأنه يعرف أين مصير من كانوا أصحاباً للمنزل، لقد تلقى صدمة قاسية هدت من تماسكه، وبقلق وحيرة وثورة عارمة أعلن استنفاره، وجهز نفسه في أسرع وقت وعاد إلى وطنه حاملاً دلالات من الشوق إلى أسرته وأهله، وصل إلى منزلهم الذي قد عرف وهو في غربته أنه لم يعد منزلهم، فما كان منه إلا أن توجه إلى صاحب البقالة الذي يعتبر من الجيران والأصدقاء المقربين إلى والده، فبعد أن تعرف عليه بصعوبة أخبره بأن والده قد ترك منزلهم منذ سبعة أعوام، وأنه قد باع المنزل بسبب السفر إلى الخارج لمعالجة أخته، وأن أسرته أجبرتهم الظروف إلى العيش في القرية، وبعد كل ما سمعه من جارهم صاحب البقالة.. اتجه بسيارته نحو القرية.. وصل إلى القرية.. لم يعرفه أحد من سكان القرية، اتجه نحو منزلهم وطرق الباب، فتحت والدته العجوز فإذا به أمام امرأة هزيلة حزينة.. والدموع تنهمر منه وجه لها سؤالاً أمي هل عرفتيني؟ وهي واقفة أمامه لقد عرفتك منذ أول طرقة طرقتها، ولكن ما الذي جاء بك ولماذا عدت، هل عدت لترى والدك الذي مات حسرة وكمداً بسبب طاعتك وما وصلنا إليه، أم عدت لترى ابنتك المشلولة والتي لم نستطع أن نعالجها أو نعرف سبب مرضها، أم عدت لتقدم الهدايا لأختك التي سبقت أبوك إلى القبر، أم عدت لترى حالة العجوز التي أمامك وهي تصارع الحياة الحالية وحيدة، إذا كنت تريد ابنتك فخذها، أما أنا فلا حاجة لي بك أبداً.