سعيد محمد سالمين
ابتكر الغرب علم الصحة المهنية كفرع من فروع علم الصحة العامة لكي يبحث في تأثير البيئة على صحة العامل ومقدرته الإنتاجية والبيئية تشمل البيئة العمالية سواء في المصنع أو في المتجر أو الكتب أو الحقل، كما تشمل أيضاً بيئات الأعمال الأخرى.
ولهذا يسمى هذا الفرع اليوم بالصحة المهنية بعد أن كان يسمى بالصحة الصناعية، إذ ليس العمل والإنتاج وقفاً على الصناعة وحدها، بل يشملان كل عمل في دنيا الإنتاج والخدمات.
وتؤكد التجارب أهمية العنصر الإنساني في إنتاجية العامل بالمصنع، والموظف بالمكتب أو المتجر، إذ أن الإنسان مسيّر بعواطفه، ولا يعتمد على المنطق في حياته اليومية، ولكي يستنفذ كل عامل أو موظف قواه العقلية وروحه المعنوية في الإنتاج.
ومع نشوء الصناعات ونموها في الغرب، كان الإرهاق للطبقة العاملة المنتجة شنيعاً، إذا كان على الجميع أن يعملوا حتى الموت الذي يصنع حداً لآلامهم وشقائهم، ثم أخذت الصناعة وسائر المهن في التطور على مر الأجيال، ولم يكن هذا التطور ناجماً عن ارتقاء الآلات والأساليب الفنية التكنولوجية، بل نشأ نتيجة لازدهار القيم الاجتماعية الجديدة، إذ عندما تهيأت الظروف وتنبهت الأفكار وراعى المصلحون في أوروبا سوء الحالة البيئية، وبانتشار الأمراض بين الطبقات العاملة، وارتفاع نسبة الوفيات بينهم، ظهور الاهتمام بالعامل، واستيقظت الروح الإنسانية، واستيقظ الوعي الداخلي في النفس البشرية، وكما جرى هنا في النفس البشرية، جرى بالضبط بدوره في المجتمع، وهذا معناه الثورة على الطغاة، وقيام الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ففي دنيا الإنتاج أصبح العامل المنتج هو المحور الذي يدور عليه نظام الصناعة والإنتاج أياً كان نوعه، بعد أن كان محور الإنتاج هو المصلحة الشخصية والربح الوفير لأرباب الصناعات.
ولهذا تولي الأمم المتحضرة المتقدمة في شؤون العلم اهتمامها البالغ في تحسين ظروف البيئة العمالية والمهنية، لما في ذلك من أثر واضح على سعادة الفرد أولاً، وعلى زيادة الإنتاج وتحسينه ثانياً.
ومن البديهي اليوم أن الإنتاج وكفايته لا يقوم على تقدم الوسائل الفنية والتكنولوجية، وزيادة رؤوس الأموال المستثمرة فحسب، بل يعتمد كل الاعتماد على طاقة العاملين وكفايتهم، ولا تصدر هذه الطاقة وهذه الكفاية عن الخبرة وحدها، بل تصدر عن استعداد الفرد وحالته الصحية من الناحية البدنية والعقلية على حد سواء، وأساس الدافع والرغبة والنشاط في العمل.
ترى هل نحن نتعامل مع إجراءات الصحة المهنية في بلادنا ، ونولي جل اهتمامنا في تحسين ظروف البيئة العمالية والمهنية ورعاية العامل والموظف صحياً واقتصادياً واجتماعياً إلى الحد الذي يشعر فيه بالرضاء والطمأنينة؟ نرجو ذلك.