سعيد محمد سالمين
الإنسان -بطبعه- لهّاث وراء الأمن، وراء الطمأنينة، وراء مرفأ السلامة كما لو كان المقابل العملي للوجود الإنساني المهدد أو كما لو كان الوجه الآخر للحرية الإنسانية أو الصيغة الجديدة لحقول الإنسان.
ولكن تذكر مجموعة "الأمنات" الأخرى التي يملأ بعضها الأحاديث السياسية والعسكرية من نوع أمن الخليج و"أمن أوروبا" و"الأمن العالمي"، بل وأمن إسرائيل ويملأ بعضها الآخر أحاديث أهل التنمية والعلوم الاجتماعية والاقتصادية من مثل الأمن الغذائي والنفسي والقومي والصحي، ترى هل حد ثوك ولو مرة واحدة بين كل هذه "الأنواع من الأمن " عن "الأمن الثقافي"؟ عن حفظ الهوية الحضارية للإنسان؟.
إننا رغم كل عصور الحضارة التي يحملها تاريخنا ورغم كل ما أسديناه للجنس البشري، لم ينلنا من الغرب سوى الإذلال، هذا الغرب حين كان بعضه متحضراً في عهد اليونان ثم الرومان هاجمنا وحين كان متخلفاً في العصور الوسطى (. . . . ) وحين استعاد قوته في العصر الحديث استعمرنا، وها نحن أولاء في غمرة الاستعمار الثاني: التبعية الإرغامية وتنمية التخلف.
والمشكلة اليوم في عدوانية الغرب مختلفة، وخاصة في عصر العولمة للألفية الثالثة، إنها الاجتياح المادي والثقافي في وقت معاً، الفشل السياسي الذي يجعل الغرب في "شرقه وغربه" قوة العالم الكبرى والوحيدة، والثقل التكنولوجي الذي يعطيه كل وسائل الأبالسة للسيطرة والتحكم والثقل الاقتصادي الذي يجعله أكثر فأكثر سيطرة على الرغيف العالمي، كل ذلك يصب في ثقله الثقافي ويجعل هذا الثقل "غول" الالتفافات الأخرى.
إنهم "يغَّربون" العالم بتسويق ثقافة الاستهلاك، وبإثارة التفرقات الدينية وباستغلال الجروح التاريخية، وبفرض المخاوف الاجتماعية والمشاكل المستعادة والمصطنعة، وبتشويه القيم، وبتدمير الروح، ونشر الضياع، إنهم الآن لا يسلبون الثروات المادية فحسب، بل يدمرون القوى الفكرية والثقافية والروحية التي يمكن أن تقول ذات يوم "لا! للغاصبين".
ها هنا لابد لي أن أوضح معنى "الأمن الثقافي" الذي أريد التوصل إليه في هذه العجالة فسلت رافضاً ثقافة الغرب، لقد دخلت في تكويننا الفكري شئنا أم أبينا. . ، فعطاء الحضارة الغربية لم يعد الآن غريباً، بل صار إرثاً للإنسانية كلها، مثله تماماً كمثل ما قدمه العرب المسلمون للعالم وللغرب نفسه من دين وفكر وعلم وعطاء صار ملكاً للبشر، جميعاً، ولكن علينا نفرق بين الثقافة الغربية وبين استخدام هذه الثقافة للاستبعاد ولهذا فأني أرفض تماماً أن تحل محل ثقافتي وهويتي، كما أرفض استخدامها العدواني ضد ثقافتي، وجعلها أحد أسلحة الإفناء في طمس هويتي الحضارية الإنسانية والإسلامية.
خلاصة القول: إن "الأمن الثقافي" الذي اقصده لا يعني الرفض ولكن اتخاذ الشروط الموضوعية لدفع الأطماع المبيدة والحماية الإيجابية التي توفر شروط التكوَّن والنمو لبناء ثقافي عربي مميز وأصيل يراعي ثوابتنا الإسلامية وقيم حضارتنا الغربية وتراثنا الفكري والثقافي الوطني والقومي.