د. محمد سلمان العبودي
لقد قلبت الحروب أوراق الدولة الأعظم على سطح الكرة الأرضية رأسا على عقب بعد أن استنزفت كل شيء، بدءا من مواردها المالية إلى خسائرها البشرية إلى استقرارها النفسي إلى سمعتها العالمية. وها هي اليوم الدولة الأعظم تعود لنقطة الصفر تجر ذيول خيبتها خلفها بعد عقود من الحروب الدامية محملة بخفي حنين.
وحيث أن المصائب لا تأتي فرادى كما يقال، فقد جاءت الكوارث الطبيعية متمثلة في بعض الأعاصير التي لا يمكن صدها أو ردها لتضرب خاصرتها بكل قوة مخلفة دمارا مبكيا ومضحكا في آن واحد. مبكيا لأنه خلف آلاف الأسر والعائلات والبشر وقد تقطعت بهم السبل، ومضحكا لأن دولة بكل تلك الترسانة العسكرية التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا لم تستطع أن تؤجل لمدة ربع دقيقة فقط اجتياح قطعة سحاب حلزونية الشكل بحجم ولاية تكساس.
وبعد أن أفاقت بعض الولايات المتحدة من ضربة الإعصار إيك، وجدت نفسها أمام غريمتها روسيا، الدولة العظمى الثانية في المرتبة، تنادي برد اعتبارها الذي فقدته منذ معاهدات الحد من الأسلحة النووية. فإذا بها اليوم تتوعد وتهدد بحرب باردة جديدة وبأسلحة قديمة نوعا ما مطورة بعض الشيء. وهذا يثبت بأن الدولة الأعظم لم تعد تخيف أحدا وأنه يمكن مواجهتها حتى بأسلحة صدئة.
غير أن الخوف يأتي بالدرجة الأولى مما قد يترتب على تراجع هيمنة القوة العظمى إلى درجات لا تستطيع معها لعب دور مختار العالم. فكثير من الأنظمة الحاكمة التي تعاني من ازدياد الإرهاب على أراضيها ومن تحدي المنظمات المسلحة التي لا تعرف إلا لغة العنف والتفجيرات والنسف، فقد وجدت نفسها بعدما احتمت لفترات زمنية طويلة تحت عباءة رامبو ذي العضلات المفتولة، معرضة للضوء وللهواء الطلق. وهكذا ورطت الدولة العظمى نفسها أولا ومن احتمى تحتها ثانيا.
هناك مرارة لدى الشعب الأميركي لا يحسده عليها أحد من أن مئات المليارات من الدولارات التي صرفت على الحرب على طالبان والقاعدة (تحت شعار مكافحة الإرهاب العالمي) لم يقطفوا ثمارها ولم يتذوقوا حلاوتها. فها هي طالبان وأختها القاعدة تعودان بقوة تذكرنا بشراستهما أيام شبابهما قبيل مهاجمة برجي التجارة في نيويورك. وكأن عملية ضرب البرجين قبل سبع سنوات لم تكن سوى خطة محكمة السيناريو هدفها جرجرة الدولة العظمى إلى حرب استنزاف اقتصادي توصلها في النهاية إلى ما وصلت إليه حالها اليوم.
واليوم يلتمس الرئيس قرضاي وساطة السعودية للمصالحة مع حركة طالبان! وقبله بيومين يتعهد الملا عمر - وكأنه يمسك بزمام الأمور - بضمان أمن القوات الأجنبية في حال انسحابها، وهناك دول رأت منذ فترة قريبة عدم جدوى بقائها هناك. ترى ما الذي حققته الدولة العظمى من «سنوات الضياع» تلك؟
أما في العراق فالأمر أسوأ بكثير. وإذا نحينا جانبا ما يزيد على الأربعة آلاف قتيل أميركي منذ احتلال العراق، فإن مكاسبها المادية من النفط ذهبت أدراج الرياح في عدة ساعات فقط هي نتيجة الدمار الذي خلفه واحد من الأعاصير التي تضرب سواحل الولايات المتحدة سنويا.
فإعصار إيك الأخير على سبيل المثال لا الحصر كلف الولايات المتحدة أكثر من 100 مليار دولار في أقل من ساعة! إضافة إلى الملايين من السكان الذين شردوا من ديارهم والملايين الأخرى التي ظلت في العراء بدون ماء ولا كهرباء في حال تشبه حال العراقيين أثناء الغزو بل وأكثر سوءا. والصور التي تناقلتها وسائل الإعلام تظهر وكأن القيامة قد قامت في تكساس حيث سوى الإعصار المساكن بالأرض، أما ما بقي منها فقد غرقت بالكامل تحت الماء.
وجاءت قبل أيام ضربة أخرى بإعلان كوريا الشمالية قرارها نزع الأقفال وكاميرات المراقبة عن مفاعلها النووي كتحد سافر لأعظم قوة في العالم.
وإذا بكل مناورات الولايات المتحدة مع كوريا الشمالية بخصوص برنامجها النووي وعلى مدى كل تلك السنين تذهب أدراج الرياح هي أيضا.
ثم حصل ما لم يكن - أو ما كان بالفعل - في الحسبان. فالأزمة المالية التي تمر بها الدولة الأعظم لا تعدو كونها مجرد أزمة قلبية قد تودي بصاحبها. فإمبراطوريات التاريخ تقوم عادة على خزائنها قبل جيوشها. واليوم بات المواطن الأميركي مرغما على أن يدفع 700 مليار دولار من جيبه الخاص لحل أزمة بلده المالية التي لم تنشأ من فراغ وإنما بسبب سوء التدبير وسوء الطالع وسخرية القدر في آن واحد.
نحن نخاف على أميركا، تماما كما نخاف على موت أبو عنتر في مسلسل (صح النوم) فتصبح الدنيا فوضى. أما المرشحون الآخرون لخلافة الإمبراطورية الأميركية فإنهم لا يرقون لا إلى عظمتها العلمية ولا إلى هيبة مساحتها الجغرافية ولا إلى قدراتها الخلاقة. فجان بول بلموندو ممثل المغامرات الفرنسي وروجر مور الجيمس بوند البريطاني لا ولن يمتلكا قدرات ولا عضلات ولا قساوة سيلفستر ستالون الذي دار عليه الزمن هو بدوره فأصبح كهلا يحتفل وحيد بعامه الخامس والستين في شقة نائية متحسرا على أيام شبابه وفتوته.
فهل ستكتشف المختبرات الأميركية إكسيرا جديدا يعيد الشباب إلى من فقدوه؟
إنها سنة الحياة...