المؤلف/ علي محمد الصلابي
3- فرح المسلمون بزوال الدولة الفاطمية:
ولما انتهى الخبر إلى المكل نور الدين بالشام أرسل إلى الخليفة العباسي يعلمه بذلك مع ابن أبي عصرون، فزينت بغداد، وغلقت الأبواب وعملت القباب وفرح المسلمون فرحاً شديداً، وكانت الخطبة قد قطعت من ديار مصر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في خلافة الميطيع العباسي حين تغلب الفاطميون عليها أيام المعز الفاطمي، باني القاهرة إلى هذه الأوان، وذلك مائتا سنة وثماني سنين.
وقد تفاعل الشعراء مع هذا الحدث المدوي في أرجاء الدنيا فقد قال العماد الأصفهاني:
توفي العاضد الدعي فما
يفتح ذو بدعة بمصر فما
وعصر فرعونها انقضى وغدا
يوسفها في الأمور محتكما
قد طفئت جمرة الغواة وقد
داخ من الشرك كل ما اضطرما
وصار شمل الصلاح ملتئماً
بها وعقد السداد منتظما
لما غدا مشعراً شعار بني
العباس حقا والباطل اكتتما
وبات داعي التوحيد منتظراً
ومن دعاة الأشراك منتقما
وظل أهل الضلال في ظلل
داحية من غيابة وعمى
وارتبك الجاهلون في ظلم
لما أضاءت منابر العلما
وعاد بالمستضيء ممتهداً
بناء حق قد كان منهدما
واعتلت الدولة التي اضطهدت
وانتصر الدين بعدما اهتضما
واهتز عطف الإسلام من جذل
وافتر ثغر الإيمان وابتسما
واستبشرت أوجه الهدى فرحاً
فليقرع الكفر سنه ندما
عاد حريم الأعداء منتهك
الحمى وفي الطغاة مقتسما
قصور أهل القصور أخربها
عام بيت من الكمال سما
أزعج بعد السكون ساكنها
ومات ذلاً وأنقه رغما
إن نور الدين محمود كان يرى إزالة الدولة الفاطمية هدفاً إستراتيجياً للقضاء على الوجود النصراني، والنفوذ الباطني في بلاد الشام، ولذلك حرص على إعادة مصر للحكم الإسلامي الصحيح، فوضع الخطط اللازمة وأعد الجيوش المطلوبة وعين الأمراء ذوي الكفاءة المنشودة، فتم الله له ما أراد على يدي المخلص وقائده الأمين صلاح الدين الذي نفذ سياسة نور الدين الحكيمة الرشيدة، وحق للأمة الإسلامية وزعمائها أن تفرح بهذه البشرى الكبيرة من إزالة دولة الباطنيين.
4- اعتبار واتعاظ من زوال الفاطميين من مصر:
كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسراً، فصاروا، كأمس الذاهب وكأن لم يغنوا فيها، وكان أول من ملك منهم: المهدي وكان من أهل سلمية حداداً اسمه سعيد، وكان يهودياً فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله، وادعى أنه شريف علوي فاطمي، وقال: إنه المهدي، وقد ذكر هذا غير واحد من سادت العلماء الكبراء كالقاضي أبي بكر البلاقلاني والشيخ أبي حامد الإسفراييني وغير واحد من سادات الأئمة.... والمقصود أن هذا الدعي المدعي الكذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد وآزره جماعة من جهلة العباد، وصارت له دولة وصولة، فتمكن إلى أن بنى مدينة سماها المهدية نسبة إليه، وصار ملكاً مطاعاً يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض، ثم كان من بعده ابنه القائم ثم المنصور، ثم المعز - وهو أول من دخل مصر منهم وبنيت له القاهرة - ثم العزيز ثم الحاكم، ثم الظاهر، ثم المستنصر ثم المستعلي، ثم الآمر، ثم الحافظ، ثم الظافر، ثم الفائز ثم العاضد وهو آخرهم، فجملتهم أربعة عشر ملكاً، ومدتهم مائتان ونيف وتسعين سنة.... وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد وكثر بأرض الشام النصيرية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكامله، حتى أخذوا القدس الشريف ونابلس وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعشليث وصيدا وبيروت وعكا وصفد وطرابلس وأنطاكية، وجميع ما والى ذلك إلى بلاد آياس وسيس، واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين وبلاد شتى، وقتلوا خلقاً لا يعلمهم إلا الله، وسبوا من ذراري المسلمين من النساء والولدان ما لا يحد ولا يوصف، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق ولكن صانها الله بعنايته وسلمها برعايته، وحين زالت أيامهم وانتفض إبرامهم أعاد الله هذه البلاد كلها على أهلها من السادة المسلمين، ورد الله الكفر خائبين، وأركسهم بما كسبوا في هذه الدنيا ويوم الدين.
سادساً: القضاء على محاولة انقلابية لإعادة الدولة الفاطمية:
كانت الدولة والمجتمع في مصري في ذلك الوقت في فترة التحول الكبرى في تاريخها من خلافة ونظم ومؤسسات ورجال حكموا البلاد قرنين من الزمان وأثروا في كل جوانب مجتمعها، إلى حكم جديد ودولة جديدة لها نظمها ومؤسساتها ورجالها، والتي بدأت بإجراء التغيير بالتدريج، وحاول صلاح الدين اكتساب عامة الناس إلى جانبه إلى درجة كبيرة، لكن بعض مفكري الدولة الفاطمية ورجالها وبعض الجماعات التي فقدت نفوذها وامتيازاتها ظلت على ولائها لما كانت تمثله الدولة السابقة من أفكار وامتيازات، فعملت تلك القوى الموالية للفاطميين من جنود وأمراءي وكتاب وموظفي دواوين، ومن عائلات الوزراء السابقين مثل بني رزيك وبني شاور، راحوا يخططون للقضاء على حكم صلاح الدين وإعادة الدولة الفاطمية.
وقد وصفهم عماد الدين الأصفهاني بقوله: واجتمع جماعة من دعاة الدولة المتعصبة المتشددة المتصلبة، وتوازروا وتزاوروا فيما بينهم خفية وخفية واعتقدوا أمنية عادت بالعقبى عليهم منية، وعينوا الخليفة والوزير، وأحكموا الرأي والتدبير، وبيتوا أمرهم بليل، وستروا عليه بذيل، ويبدو أن مؤامرتهم كانت في غاية التنظيم إذ عينوا خليفة ووزيراً ثم كاتبوا الفرنج أكثر من مرة يدعونهم في إحداها إلى الهجوم على مصر، في وقت كان صلاح الدين غائباً في الكرك، والتف هؤلاء حول عمارة اليمني، الفقيه والأديب السني المذهبي الفاطمي الولاء الذي تولى مهمة المراسلة مع الفرنج، وظن المتآمرون أن سريتهم التامة ستقودهم إلى النجاح، ولكنهم لم يعلموا أن القاضي الفاضل عن طريق ديوان الإنشاء كان يراقبهم مراقبة تامة حتى تحين الفرصة المواتية لكشف سرهم، وتذكر المصادر في كشف مؤامراتهم قصتين تختلفان بعض الاختلاف في التفصيلات: أولاهما: أن أحد الكتاب في الديوان وهو عبدالصمد الكاتب، كان يلقى الفاضل بخضوع زائد، يخدمه ويتقرب إليه ويبالغ في التواضع إليه، فلقيه يوماً، فلم يلتفت إليه فقال القاضي الفاضل : ما هذا إلا لسبب، وخاف أن يكون قد صار له باطن مع صلاح الدين، فأحضر ابن نجا الواعظ وأخبره الحال، وطلب منه كشف الأمر، فلم يجد من جانب صلاح الدين شيئاً فقصد الجانب الآخر، فكشف الحال إليه, فأرسله القاضي الفاضل إلى صلاح الدين وقاله له : تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه، فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع وذكر الحال، عندئذ استدعاهم صلاح الدين وقررهم فأقروا بمؤامرتهم، فاعتقلهم ثم أمر بصلبهم.
وتشير الرواية الثانية إلى أن المتآمرين أدخلوا الواعظ زين الدين بن نجا بينهم، فتظاهر بمساندته لهم في البداية ثم أعلم صلاد الدين بأمرهم، وطلب منه أن يعطيه ما لابن كامل من أملاك، فوافق وأمر بمخالطتهم وتعريف شأنهم، فصار يعلمه بما يجد من أمرهم، ثم وصل رسول من الفرنج على صلاح الدين بهدية ورسالة ظاهرية وبرسالة باطنية للمتآمرين، فوصل خبره إلى صلاح الدين.
وقد أشار القاضي الفاضل بنفسه على تفصيلات هذه المؤامرة في رسالة كتبها عن صلاح الدين إلى نور الدين بدمشق، وتنم عن اطلاعه الدقيق على المؤامرة، بل اشتراكه في إحباطها، فلعله هو الذي دس من أعلمه بتفصيلات المؤامرة، كما يشير في رسالته إلى عيون لديوان الإنشاء المصري من الفرنج، وآخرين بينهم على اتصال بالديوان.
وجاء في الكتاب الذين كتب بقلم القاضي الفاضل من صلاح الدين إلى نور الدين بعدما تمت التحقيقات التي أجراها صلاح الدين، ويخص الكتاب بتركيز وشمول: بدايات المؤامراة وتطوراتها، وكيفية كشفها، وصلب رؤوس المتآمرين أمام بيوتهم.
1- أن صلاح الدين كان لا يزال، بعد قضائه على الخلافة الفاطمية يعتبر جند مصر..
وأهل القصر الفاطمي أعداء لدولته وضد وجوده، ويتوقع منهم القيام بعمل ضده، ولذلك فقد كان متحرزاً منهم، ووضع عليهم من عيونه ورجاله الموثوقين من يراقبهم باستمرار، ومع ذلك فقد استمر عملهم سرياً بمختلف الوسائل التي كانت متاحة لهم.
2- وأنهم كانوا - من إعلان الخطبة العباسية وحتى القبض عليهم - لا يمر عليهم شهر ولا سنة إلا وهم يدبرون المكائد ويعقدون الاجتماعات ويبعثون الرسل على الصليبيين لموافقتهم على ما يريدون، "وكان أكثر ما يتعللون به، ويستريحون إليه, المكاتبات المتواترة والمراسلات المتقاطرة إلى الفرنج يوسعون لهم فيها سبل المطامع .. ويزينون لهم الإقدام والقدوم".
لكن الفرنج لم يستجيبوا بداية لخوفهم من صلاح الدين، وفي ذات الوقت يؤملونهم بالمساعدة ف الوقت المناسب.
3- ووصل الأمر إلى أنهم كاتبوا ملك الصليبيين عندما قام صلاح الدين بحملته الثانية على بلاد الكرك والشوبك في قسم كبير من قواته يطلبون منه القيام بالدور المتفق عليه، وقالوا في كتبهم: إنه بعيد، والفرصة قد أمكنت، فإذا تقدم عموري بقواته إلى صور أو أيلة، فإنه سيقطع الطريق على صلاح الدين ويمنعه من العودة، وعند ذلك تثور في القاهرة "حاشية القصر، وكافة الجند الفاطمي السابق في مصر" وطائفة السودان، وجموع الأرمن، وعامة الإسماعيلية، وتفتك بأهل صلاح الدين ومعاونيه ورجال دولته العاصمة.
لكن يقظة صلاح الدين والتكتيكات والمناورات التي قام بها أربكت عموري الذي كان يحاول جاهداً معرفة حركات صلاح الدين في النقب جنوبي الأردن، وجمدته عند مياه الكرمل في جبال الخليل لخوفه من أن يستغل صلاح الدين فرصة حركة الملك الخاطئة، فيتوجه إلى المناطق غربي نهر الأردن والبحر الميت.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.