عبدالجليل النعيمي
في الأسبوع الماضي ذكرنا بأن المبلغ الذي يسعى إليه الرئيس لتمرير ما أسماه بخطة الإنقاذ هو ما بين 700 - 800 مليار دولار. وأن الاعتراض جاء من وجهتي نظر متضادتين: الأعباء على دافعي الضرائب وكون المبلغ يشكل نصف المطلوب تقريبا. وقلنا كذلك بناء على سوابق مماثلة : «. . اليوم أيضا لا يجب أن يشك أحد في أن الرئيس سيمضي على هذا الطريق».
في البدء بدت الأمور وكأنها لا تسير حسب تلك التوقعات. يوم الاثنين الماضي رفض الكونجرس خطة السبعمائة مليار. وقد أطلق على ذلك اليوم «الاثنين الأسود الجديد»، إذ تسبب في خسائر لأسواق الأسهم في وول ستريت بقيمة 1 تريليون دولار. لقد عكس ذلك مزاج التشويش والذعر السائدين في المؤسسات المالية والسياسية الأميركية. وعلى خلفية هذا المزاج جرت اللعبة الكبرى من أجل احتلال المواقع.
وفي إطار هذه اللعبة يمكن فهم أن الذي أسقط «خطة بوش» في التصويت الأول هي في الأساس أصوات أولئك الأعضاء الذين سيتوجب إعادة انتخابهم في الرابع من نوفمبر المقبل. ولهذا فقد فضلوا إرسال إشارات للناخبين بأنهم ليسوا ممن يلعب دور «مولدات التضخم». وليس أكثر من ذلك.
بعدها صادق مجلس الشيوخ على الخطة بعد أن كبرت الوثيقة من ثلاث صفحات فقط إلى 450 صفحة نظرت في إجراءات إضافية أخرى تخاطب الناخب العادي كما لاحظ المراقبون. وأحيل المشروع من جديد إلى الغرفة التشريعية الدنيا - الكونجرس.
في مجرى البحث عن حلول مساومة ازداد المشروع وزنا - بمقدار 150 مليار دولار إضافية كتسهيلات ضريبية جديدة للشركات الخاصة والأفراد، أي لتشجيع المؤسسات على استخدام مصادر الطاقة البديلة وأخرى لتسهيل حال عدد من صنوف مالكي المنازل والمواطنين المهمشين اجتماعيا.
أما بالنسبة ل 700 مليار الأصلية فقد أعطى القانون لوزير المالية الحق بأن يستخدم فورا من الميزانية الفيدرالية 250 مليار دولار لشراء الأصول المالية التي تعاني من مشاكل، ولاستقرار أسواق المال. مائة مليار أخرى يمكن أن تخصص لوزارة المالية بأمر من الرئيس الأميركي لهذه الأهداف أيضا. الباقي، وهو 350 مليار دولار يمكن تخصيصها من قبل الكونجرس حسب ما يراه مناسبا.
تنفس الساسة الأوربيون الصعداء مبدين ارتياحهم لما حدث. أما خبراء اقتصاديون معروفون كالخبير في مجالات الاستثمار جيم روجرز فقد استهجنوا الحلول السياسية. ففي مقابلة أجرتها معه الصحيفة الاقتصادية الألمانية الرائدة «Handelsblatt» في 3 أكتوبر 2008 انتقد بمرارة إجراءات السياسيين مؤكدا أن «السياسة لا تستطيع اجتثاث المشكلة من جذورها».
ورأى أن ما سيفعله دعم المصارف المفلسة هو ترحيل للمشاكل الكبرى إلى حين، بينما الحديث يجب أن يدور عن تنظيف النظام المالي وليس استمرار الدعم له.
وأنه إذا استعادت مصارف الإصدار ووزراء المال أنفاسهم بعد تحصيل حزمة المساعدات الطارئة الضخمة ففي العام القادم ستصطدم أسواق المال بكم أكبر من المشاكل. لذا، حسب روجرز، فقد كان يتعين على السياسيين أن يتركوا المجال كي تفلس كل المصارف الاستثمارية التي لم تتم إدارتها بكفاءة في السابق لأنها لم تحترم مبادئ العمل المصرفي الجاد، وتسببت في جر العالم كله إلى الأزمة.
ومع هذه الدعوة المحقة إلى حدود، إلا أننا نجد أنفسنا من جديد أمام اقتصادي مشدود بقوة إلى فكرة أن السوق تمتلك قوة سحرية لتصحيح كل الأمور. وهو مؤمن بذلك رغم قناعته بأن ما يدعو إليه سيعمم مزيدا من الفوضى في أسواق المال الأميركية والعالمية.
ويعتقد بأن العلاج بالصدمات على غرار ما جرى في روسيا في التسعينات هو ما يمكن أن يحدث التغييرات المبدئية التي سترفع من جاهزية وقوة المؤسسات المالية من جديد. ولم نجده في تلك المقابلة يعير اهتماما للآثار الاجتماعية لتلك «الصدمات» التي سبق وأن فعلت فعلها السلبي بنتيجة تجارب روسيا والتشيلي والأرجنتين وغيرها من البلدان.
المشكلة في أن كلا الاتجاهين، اتجاه تدخل الدولة لإنقاذ المؤسسات المفلسة واتجاه استبعاد الدولة وترك الأمور لآليات السوق يعرفان جيدا بأن المشكلة مزمنة وأن لا حلول مرجوة في الأمد المنظور.
الرئيس بوش بعد أن كرر مرارا في السابق بضرورة خطته كإجراء عاجل عاد قرب إقرارها فحذر بأن الحل لن يكون قريبا. أما روجرز فيعتقد بأن أميركا ستحتاج إلى وقت طويل كي تتعافى من الأزمة، ما يذكر بالوضع الذي مرت به اليابان في سنوات الثمانينات، والذي عرف على أنه العقد الضائع.
وهكذا، فإن «الاقتصاديين» الذين يعالجون الأزمة في إطارها الاقتصادي سيبقون عاجزين عن طرح الحلول الجذرية التي تنطلق من مصالح فئات ضيقة في المجتمع.
للفلاسفة نظرة مختلفة تقول إن ما يجري يشير إلى أننا نقف على مشارف حقبة تاريخية جديدة. لنقترب من الفيلسوف جون غري، الذي أنهى للتو عمله التدريسي كأستاذ في جامعة الاقتصاد اللندنية. كتب غري في صحيفة Observer مقالا رأى فيه بأن عهد القيادة الأميركية للعالم الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية انتهى الآن.
لقد تدمرت ذاتيا المقولة الأميركية حول السوق الحر، في الوقت الذي استطاعت البلدان التي أبقت سيطرتها على الأسواق اجتياز المحن». وبرغم انهيار النموذج السوفييتي إلا أن غري ككثير من الفلاسفة لا يرون ما رآه فوكوياما على أنه نهاية التاريخ.
ويشير غري إلى «أنه لأمر ذو دلالة أن يخرج رجل فضاء صيني إلى الفضاء، بينما يجثو وزير المالية الأميركي بركبتيه على الأرض». ويقرأ هذه التحولات المتعاكسة على أننا هنا نشهد انزياحا تاريخيا جيوسياسيا يرافقه تغير غير قابل للارتداد في توازنات القوى العالمية».
قد لا يتفق الجميع على أن أميركا وصلت إلى حدود تاريخية محددة، لكن الأمر يتعدى مجرد الانتقال من عهد القطبية الواحدة إلى التعددية القطبية. السؤال الأبعد هو: ما الحالة النوعية التي سيسفر عنها للعالم هذا الانزياح التاريخي الجيوسياسي غير القابل للارتداد الذي ينبئنا به الفيلسوف جون غري؟