المؤلف/ علي محمد الصلابي
4- ولم ييأس المتآمرون:
فعندما وصل المدعو جرج "جورج أ - جورجيوس"، كانت الملك عموري، إلى القاهرة في مراسلة إلى صلاح الدين ويبدو أن الرسالة كانت متصلة في اوقات السلم، اتصلوا به ، وأرسلوا معه كتاباً إلى الملك عموري: أن العساكر متباعدة في نواحي إقطاعاتهم، وعلى قرب من موسم غلاتهم، وأنه لم يبق في القاهرة إلا بعضهم، وإذا بعثت أسطولاً إلى بعض الثغور، أنهض فلاناً من عنده، وبقي صلاح الدين في البلد وحده ففعلنا ما تقدم ذكره في الثورة.
وهذا دليل آخر على محاولة استغلالهم كل الظروف المناسبة، ذلك أن وقت جمع الغلات من الحقول هو الوقت الذي يذهب فيه الأمراء المقطعين وأجنادهم إلى إقطاعاتهم لأخذ حصتهم من الناتج وتوزيعه، هذه كانت حالة عادية معروفة في تاريخ المنطقة في العصور الوسطى.
5- أن الملك عموري كان كلما أراد التعرف على الأوضاع في مصر والاتصال بالمتآمرين والتفاوض معهم، كان يبعث ب"جرح" رسولاً إلى صلاح الدين: "ظاهراُ إلينا، وباطناً إليهم ، عارضاً علينا الجميل الذي ما قبلته قط أنفسنا، وعاقداً معهم القبيح الذي يشتمل عليه علمنا، ولأهل القص والمصريين " الجند" في أثناء هذه المدد رسل تتردد، وكتب إلى الفرنج تتجدد".
6- كانت سياسة صلاح الدين أثناء هذه الفترة إذا شك أعوانه بأحد من الجماعات المذكورة وقام باعتقاله ولم يتمكنوا من إثبات التهمة ضده، أطلق سراحهم، وخلى سبيلهم فلا يزيدهم العفو إلا ضراوة، ولا الرقة عليهم إلا قساوة.
7- واتصل المتآمرون في ذات الوقت "
بشيخ الجبل سنان"، زعيم الإسماعيلية النزارية في بلاد الشام ، طالبين مساعدته محتجين: بأن الدعوة واحدة، والكلمة جامعة، وأن ما بين أهلها خلاف إلا فيما لا يفترق به كلمة ولا يجب به قعود عن نصرة.
وطلبوا منه بصورة خاصة اغتيال "الملوك" كما كانت عادتهم أو نصب المكائد لهم، وكان الرسول إليهم صاحب الجبل عند اكتشاف المؤامرة فالتجأوا إلى الصليبيين.
8- ولا نعرف إذا كان المتآمرون اتصلوا
بملك صقلية لإرسال الأسطول مباشرة أم عن طريق ملك الصليبيين ، لكن الأسطول قدم بعد فشل المؤامرة، إلى الإسكندرية، وكان مكوناًُ من 200 سفينة ويحمل أعداداً كبير من الخيالة والرجالة، فمني بخسائر كبيرة خاصة وأن الملك عموري لم يتقدم في البر كما كان الاتفاق بسبب القضاء على المتآمرين بحزم.
9- وفي المرة الأخيرة التي قدم فيها
"جرح" برسالة إلى ديوان صلاح الدين وصل كتاب إلى الديوان "ممن لا نرتاب به من قومه "الصليبيون" يذكرون أنه رسول مخاتلة "خداع" لا رسول مجامله" فاتخذ رجال صلاح الدين الاحتياطات المناسبة لمراقبته دون أن يشعر، ولم يظهروا له أي شك فيه، وقام "جرج" بالاتصال بجماعة القصر الفاطمي، ومدبري المؤامرة، وأمراء الجند الفاطمي السابقين، وجماعة من النصارى واليهود، عند ذلك توصل رجال دول صلاح الدين إلى إدخال العيون إليهم من جماعتهم" فدسسنا إليهم من طائفتهم من داخلهم"، فصار ينقل إلينا أخبارهم ويرفع إلينا أحوالهم.
10- وبدأت تنتشر الإشاعات والأقاويل بين الناس حول المؤامرة، وخاف رجال دولة صلاح الدين من انكشاف الأمر، وهرب رؤساء الفتنة، فقرروا اعتقالهم، ثم أحضروا واحداً واحداً أمام صلاح الدين: وقرر هم على هذه الحالة فأقروا واعترفوا واعتذروا بكونهم قطعت أرزاقهم واخذت أموالهم.
11- وقد تبين من التحقيقات والإقرارات أنهم عينوا خليفة ووزيراً، وأنه وقع خلاف بينهم حول الخليفة وحول الوزير "آل رزيك أو آل شاور".
12- استفتى صلاح الدين العلماء
في أمرهم، فأفتوا بقتلهم، وعندما تردد صلاح الدين في التنفيذ طالب أهل الفتوى وأهل المشورة بالإسراع على الجذوع المواجهة لدورهم".
وكان المشهورون الذين شنقوا: الشاعر عمارة بن علي اليمني، وعبدالصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة أبن عبدالقوي.
وقد حاول القاضي الفاضل صادقاً الشفاعة لدى صلاح الدين في عمارة، على الرغم من العداوة القديمة بينهما إلا أن عمارة اعتقد أنها خدعة فرفض قبولها، فتم صلبه مثل غيره.
13- وأما أهل القصر فقد اعتقلوا بداية،
ثم نقلوا إلى أماكن مختلفة، وأعطى القصر إلى أخيه العادل، ذلك أن صلاح الدين رأى: "فإنهم مهما بقوا فيه بقيت مادة لا تنحسم الأطماع عنها، فإنه "القصر" حبالة للضلال منصوبة، وبيعة "مقام " للبدع محجوبة".
14- وشردت طائفة الإسماعيلية من
بلاد مصر ونفوا، أمام البقية فقد أعلن في القلاهرة: بأن يرحل كافة الأجناد وحاشية القصر وراجل السودان إلى أقصى بلاد الصعيد.
15- وكشفت التحريات والبحث هذه
القضية عن وجود داعية يسمى:
"قديد القفاص" في الإسكندرية ، التي كان غالبية أهلها من أهل السنة، وأن دعوته انتشرت في بلاد الشام ومصر، وأن أرباب المايش" الحرف والصناعات" في ثغر الإسكندرية يحملون إليه جزءاً من كسبهم، والنسوان يبعثن إليه شطراً وافياً من أموالهن.
كما وجد لديه كتب ورقاع تدل على الكفر الصريح.
وهكذا فقد تمكن صلاح الدين - بفضل الله ثم بصبره وقيادته الحازمة - من القضاء على هذه المؤامرة الفتنة التي دفعته أخيراً إلى اتخاذ القرار الحاسم بالنسبة لكل بقايا الدولة الفاطمية من بيت الخلافة، وكبار رجالها، والحاشية، والجند والسودان.
عمارة بن علي اليمني الشاعر:
قال عنه الذهبي: أبو محمد، عمارة بن علي بن زيدان الحكمي المذحجي اليمني الشافعي الفرضي، الشاعرن صاحب الديوان المشهور ولد سنة خمس عشرة وخمس مئة وتفقه بزبيد مدة، وحج سنة تسع وأربعين ونفذه أمير مكة قاسم بن فليته رسولاً إلى الفائز بمصر فامتدحه بالشعر.
وكان واضح الاعتقاد في أبي بكر وعمر، فقد حكى عمارة أن الصالح بن رزيك فاوضه وقال: ما تعتقد في أبين بكر وعمر؟ قلت: أعتقد أنه لولاهما لم يبق الإسلام علينا ولا عليكم، وأن محبتهما واجبة.
فضحك، وكان مرتاضاً حصيفاً، قد سمع كلام فقهاء السنة قال الذهبي: هذا حلم من الصالح على رفضه.
وقال ابن واصل في سبب موالاة عمارة اليمني للفاطميين:
وكان عمارة بن علي اليمني شديد التعصب لهم، لأنه قدم عليهم من اليمن فأحسنوا إليه وخولوه، فرعى ذلك ووفى لهم، والإنسان - كما قيل - صنيعة الإحسان، ولم يكن على مذهبهم وإنما كان شافعياً وسنياً، فلما زال أمرهم رثاهم بأحسن الشعر وذب عنهم باللسان إذ لم يمكنه الذب عنهم باليد، ثم لما تحرك جماعة في عود الأمر إليهم، كان من جملة المساعدين على ذلك، شكراً لهم على إحسانهم إليه، فأدى به ذلك إلى أن شنق، كما مر ذكره - وقد ذكر عمارة ميوله لمذهب القوم في قصيدة يقول فيها:
أفاعيلهم في الجود أفعال سنة
وإن خالفوني في اعتقاد التشيع
وقد علق الذهبي على هذا البيت فقال: يا ليته تشيع فقط، بل يا ليته ترفض، وإنما يقال: هو انحلال وزندقة.
وقد قال عمارة في رثاء الفاطميين والعاضد:
أسفي على زمن الإمام العاضد
أسف العقيم على فراق الواحد
جالست من وزرائه وصحبت من
أمرائه أهل الثناء الخالد
لهفي على حجرات قصرك إذ خلت
يا ابن النبي من ازدحام الوافد
وعلى انفرادك من عساكرك الذي
يا ابن النبي من ازدحام الوافد
فلدت مؤتمن الخلافة أمرهم
فكبا وقصر عن صلاح الفاسد
فعسى الليالي أن ترد إليكم
ما عودتكم من جميل عوائد
وله من جملة قصيدة:
يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة
لك الملامة إن قصرت في عذلي
بالله زر ساحة القصرين وابك معي
عليهما لا على صفين والجمل
وقال لأهلهما والله ما التحمت
فيكم قروحي ولا جرحي بمندمل
ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة
في نسل آل أمير المؤمنين علي
وأنا أستغرب من عمارة اليمني في نعيه لأيام الفاطميين وحنينه إلى بدعهم وأعيادهم وقصورهم، وتحديه للدولة السنية الجديدة في مصر ودفاعه عن الفاطميين وأكاذيبهم في زعمهم بأنهم من النسل النبوي الكريم، فهل متاع الدنيا الزائل يفعل بالعقائد الصحيحة ما فعله بعمارة اليمني؟ وهل العطايا والجاه والمناصب تجعل الإنسان يترك عقيدته الصحيحة ويبكي على أطلال الدولة الفاطمية الشيعية والرافضية؟ وينخرط في عمل تآمري ضد المشروع الإسلامي المقاوم للصليبين في بلاد الإسلام؟ إن هذا لشيء عجاب.
- حصار الإسكندرية:
إن أهل الإسكندرية ساهموا في نجاح المشروع السني بمصر، ودافعوا عن صلاح الدين عندما حوصر بها وهم يدافعون عن المدينة بشجاعة فائقة ورجولة منقطعة النظير، ومسلمو مصر عموماً وأهل الإسكندرية منهم خصوصاً دائماً وأبداً في الخندق المدافع عن قضايا الأمة قديماً وحديثاً، ولهم من الطاقات الفكرية والإمكانات المادية، والأقلام السيالة وصفاء الفطرة ما يجعلهم في مصاف من يتصدى للمشروع الشيعي الرافضي الباطني والمشروع الأميركي الغربي، وقد قاوم المصريون قديماً النفوذ الشيعي الباطني والحملات الصليبية وتعاونوا مع إخوانهم من أهل السنة، فكرياً وعقائدياً وسياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً، حتى تم القضاء على المشروع الشيعي الباطني، ولذلك نجد كتاب الشيعة الرافضة يحقدون على مصر ويقولون عن أهلها: أبناء مصر لعنوا على لسان دواد عليه السلام فجعل الله منهم القردة أبناء مصر؛ والخنازير، وما غضب الله على بني إسرائيل إلا أدخلهم مصر، ولا رضي عنهم إلا أخرجهم منها إلى غيرها، وقالوا: بئس البلاد مصر، أما إنها سجن من سخط الله عليه من بني إسرائيل، وقالوا: انتحوا مصر ولا تطلبوا المكث فيها لأنه يورث الدياثة، وجاءت عندهم عدة روايات في ذم مصر، وهجاء أهلها، والتحذير من سكانها، ونسبوا هذه الروايات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى محمد الباقر،وهذا رأي الشيعة الرافض في مصر في تلك العصور الإسلامية الزاهرة، وقد عقب المجلس الشيعي الرافضي على هذه النصوص بقوله بأن مصر صارت من شر البلاد في تلك الأزمنة، لأن أهلها صاروا من أشقى الناس وأكفرهم، ويبدو أن هذه النصوص هي تعبير عن حقد الرافضة وغيظهم على مصر وأهلها بسبب سقوط إخوانهم الإسماعيليين العبيديين على يد صلاح الدين، الذي طهر أرض الكنانة من دنسهم ورجسهم، وأين هذه الكلمات المظلمة في مصر وأهلها الأحبة من وصية حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم بأهل مصر؟
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.