عبدالوارث النجري
عندما تصبح الوظيفة العامة وسيلة للثراء الغير مشروع يحكم البلاد شريعة الغاب وتمنح اللوائح والقوانين إجازة مفتوحة، وتعم الفوضى جميع المحافظات، جميع المديريات، جميع المرافق الحكومية، جميع الأسواق، وحينها تنتشر الجريمة والفاحشة ويتغيب الأمن وينعدم الاستقرار، فالمرؤوس لا يعير الرئيس وتوجيهاته أي اهتمام ما دام هو مطلع على فساده ومخالفاته، وما دام يقدم له الرشوة نهاية كل شهر أو نهاية كل عام مقابل بقاءه في تلك الإدارة أو المحافظة أو الوزارة أو ذلك القسم!! يعتبر توجيهاته مجرد كلام أمام الناس، ولا يمكنه أن يثق به لأنه يعلم بأنه لولا الرشوة التي يقدمها له بانتظام لما رضي عنه وأبقاه في عمله ذلك، ولقام باستبداله بمن قد يخالف ويفسد أكثر ويقدم "المعلوم" بزيادة عن ما كان يقدمه، وبذلك تكون النتيجة لا محالة تجذر الفساد المالي والإداري وغياب الدور الرقابي والإشرافي أو يتحول هو الآخر إلى وسيلة للابتزاز لا للإصلاح ومحاربة الفساد وتهدر الثروات بشكل عبثي، وتنتهك اللوائح والقوانين وتحبس في أدراج مظلمة، كما تنتهك حرمة الوطن وثوابته وقدسيته، وكذلك تنتهك الآدمية وكافة الحقوق والحريات، ويصبح كل شيء ممكناً وكل شيء جائزاً مقابل المال، وما دام الرشوة هي شعار وسلوك الجميع، فإذا كان القاضي هو أول من يخالف تعاليم الشريعة الإسلامية والمحامي هو أول من يتحدى القانون ويسعى لمخالفته، وإذا كان رجل الأمن هو أول من يعتدي على الحقوق والحريات، وإذا كان الوزير رجل الأمن هو أول من يعتدي على الحقوق والحريات، وإذا كان الوزير والمسؤول الكبير هو أول من يسعى لنهب خيرات وثروات البلاد، وإذا كان رئيس الحزب المعارض هو أول من يشجع على الفساد ويغض الطرف عنه ويحلم بالعمالة والخيانة، فمن سيحمي الوطن؟! بخيراته وثرواته وحريته واستغلاله، ومن سينصف المظلوم ويطبق النظام والقانون؟ ومن سيدافع عن الحقوق والحريات؟ ومن؟ ومن؟! .. إلخ إنها قمة الفوضى والهمجية عندما يصل الحال في وطن ما، في بلد ما إلى هذا، ولا يمكن لأي نظام ولأي حكومة ولأي حاكم أن يبقى في حال وصل الأمر إلى ذلك؛ لأن الكل يطمح في الوصول إلى القمة بأي طريقة وبأي صورة، وحينها أي عندما تصل الأمور والفوضى والهمجية إلى قمتها فإنه بلا شك لن يتحمل المسؤولية شخص بعينه أو وزير أو غفير، بل إن المسؤولية مشتركة مثلما النتائج مشتركة وسيعاني منها الجميع المسؤول قبل المواطن العادي عند الوصول إلى القمة، قمة الفوضى والهمجية لا قانون، لا نظام، لا دستور، لا رئيس، لا مرؤوس، لا وطن، وعن تشخيص حالة كهذه بهدف علاجها نجدها ما هي إلا أزمة، أزمة ضمير أزمة قيم وتعاليم دينية، أزمة عادات وتقاليد حميدة وأخلاقيات، أزمة مسؤولية وينتج عنها مئات الأزمات في الشوارع والأسواق، وفي المنازل، أزمة قمع وأزمة ديزل وأزمة بترول وأزمة غاز وأزمة أمن وأزمة استقرار وأزمة تعليم وأزمة وظائف وأزمة موارد، وأزمة قانون، وأزمة نظام، لا تطور، لا بناء، لا تنمية على الواقع، أما لدى الإعلام الرسمي فالدنيا بخير، وكل شيء تمام وعلى ما يرام، وهذا حديث المأزومين وأصحاب النظارات السوداء وغيرهم، والمعارضة التي هي من خبز العدو الخارجي وعجين السلطة، تلك المعارضة التي تفتقد أي مشروع إصلاح ووطني لا هم لقادتها سوى محاورة السلطة تارة ومجافاتها تارة أخرى، والدخول معها في اتهامات ومراشقات إعلامية، مثل هذه المعارضة غيابها خير من وجودها، فهي تساوم وتبتز لما فيه تحقيق المزيد والمزيد من المصالح الشخصية البحتة لقادتها وأذنابهم في المحافظات والمديريات، أما القاعدة الشعبية وأصحاب البطائق الحزبية فليسوا سوى مجرد وسيلة يستخدمونها عندما تستدعي الحاجة لتحقيق تلك المصالح والأهداف.
والحل يكمن فقط عند الحاكم حتى آخر لحظة وآخر نفس عندما يدرك تماماً بأن ذلك السلوك الفاسد الذي يسير به الكبار قبل الصغار وتلك المخالفات التي يرتكبها المعنيون بتطبيق النظام والقانون قبل المواطن العادي - إن هذا لا يخدمه أو يقوي سلطته ويفرض هيبته، بل على العكس يسيء إلى سمعته وينخر أركان دولته، وما الفاسد والمخالف والعميل سوى أعداء يجب محاربتهم والحذر منهم، بل والقضاء عليهم، عندما يدرك الحاكم هذا تماماً وتتوفر النية في تلافي الوضع وإصلاحه فإنه لا مانع من التضحية بألف شخص أو ألفين أو ثلاثة مقابل أمن واستقرار وحياة عشرات الملايين من البشر، ومقابل رخاء وازدهار وتطور وطن بأكمله ليعيد عزه ومجده وحضارته وعراقته التاريخية، ولا بأس في توفير أرضية من أراضي أوقاف أمانة العاصمة لتكون مقبرة لأولئك تسمى "بمقبرة الفاسدين" على غرار مقبرة الشهداء، وهكذا فأي عمل عظيم بحاجة إلى تضحية، ولا شك أن إصلاح حال البلاد والعباد من أعظم الأعمال الوطنية والدينية والإنسانية وأجره عند الله عظيم، نقول هذا ليس من باب التهويل أو التأزم أو اليأس لا والله، بل من باب الحرص على تراب هذا الوطن الغالي وخيراته، ومن باب الحرص على دماء يمنية زكية وشعب طيب وصامد وصبور، ولعل ما يحدث من متغيرات دولية وإقليمية يستوجب علينا الحرص والحذر وتلافي الأوضاع والجد والإخلاص في تحديد نقاط الضعف ومكامن الخلل والقضاء عليها واستئصالها أولاً بأول وهذا ما ننتظره ونتمناه.<