المؤلف/ علي محمد الصلابي
2- وأما أبو شامة: فقد عمد إلى تفنيذ اتهامات ابن الأثير لصلاح الدين بخصوص خروجه عن طاعة نور الدين، وفي رأي أبي شامة أن نور الدين لم ينتقد على صلاح الدين إسرافه في تفريق الأموال وصرفها واستبداده بذلك من غير مشاورته ويؤكد أبو شامة رأيه بوثيقة وقف عليها بنفسه بخط نور الدين، يقرر فيها للقاضي شرف الدين بن أبي عصرون الذي تولى القضاء له بالشام، ثم لصلاح الدين بمصر، وإعجابه الشديد بما قام به صلاح الدين من نصرة المذهب السني بمصر، والقضاء على الدولة الفاطمية والمذهب الشيعي، ويطلب من أبي عصرون مساندة صلاح الدين في هذا الأمر الجلل.
3- والواقع أن جميع الخطوات الحاسمة التي اتخذها صلاح الدين لإسقاط الدولة الفاطمية بمصر والقضاء على الدعوة الإسماعيلية بها جاءت بأمر مباشر من نور الدين، ولم تتم إلا بعد أن وصل نجم الدين أيوب والد صلاح الدين من طرف نور الدين إلى مصر، ليشرف بنفسه ويساعد ابنه في القضاء على الدعوة الشيعية الإسماعيلية.
4- وليس أدل على التبعية الكاملة لصلاح الدين تجاه نور الدين وكونه نائباً عنه في حكم مصر من كونه كان يخطب له على المنابر في أرجاء الدولة الفاطمية إبان وزارته للخليفة الفاطمي العاضد وأثر نقل الخطبة للعباسيين، كان الخطيب بمصر وأعمالها يدعو لنور الدين بعد الخليفة، وقررت السك باسم المستضيء بأمر الله وباسم الملك العادل نور الدين فنقش اسم كل منهما في وجه.
5- وكان مجيء ابن القيسراني وزير نور الدين إلى مصر سنة "568ه- 569ه" لكشف البلاد وارتفاعها ومراجعة حساباتها لتقرير القطيعة أو الوظيفة السنوية التي يدفعها صلاح الدين لنور الدين، أمراً طبيعياً يؤكد تبعية مصر لنور الدين.
6- لقد أدركت الخلافة العباسية، هذه الحقيقة الجوهرية، فميزت بوضوح بين الخلع الخليفية لنور الدين وبين الخلع الخليفية لصلاح الدين وجعلت خلع صلاح الدين أقل من خلع نور الدين، في حين قلدت نور الدين بالسيفين، إشارة إلى تقليده لقطري الشام ومصر، وفي نفس الوقت أرسل نور الدين من قبله خلع سيرها من بلاد الشام إلى صلاح الدين وأهله وأمرائه بمصر، تأكيداً لتبعيتهم المباشرة له.
7- كان صلاح الدين يراعي التأدب في رسوم الملك، فلا يساوي نفسه بسيده نور الدين، فقد أرسل الرسل من القاهرة إلى نور الدين لتخبره بلبس صلاح الدين للخلع وباستجابة صلاح الدين على مداومة إرسال ما قرر عليه من مال إلى نور الدين في كل سنة.
8- وإذا كانت جميع الإجراءات التي اتخذها صلاح الدين لإسقاط الخلافة الفاطمية والخطبة لبني العباس والقضاء على الدعوة الإسماعيلية بمصر قد تمت بتوجيه مباشر من نور الدين وبعد إرساله لنجم الدين والد صلاح الدين، فإن ضم صلاح الدين لليمن تم بإذن نور الدين للقضاء على الدعوة الشيعية الإسماعيلية هناك وضم اليمن لجبهة المقاومة بحيث أرسل نور الدين هذه البشارة بنفسه للخليفة العباسي، وكذلك في ضم المغرب الأدنى وغزو مملكة النوبة وبشر الخليفة العباسي بقرب فتح القسطنطينية وبيت المقدس، فقد كتب نور الدين إلى الخليفة العباسي: "وقسطنطينية والقدس يجريان إلى أمد الفتوح في مضمار المنافسة والله تعالى بكرمه يدني قطاف الفاتحين لأهل الإسلام ويوفق الخادم لحيازة مراضي الإمام ومن جملة حسنات هذه الأيام الزاهرة، ما تيسر في هذه النوبة من افتتاح بعض بلاد النوبة، والوصول إلى مواضع منها، لم تطرقها سنابك الخيل الإسلامية في العصور الحالية، وكذلك استولى عساكر مصر أيصاً على برقة وحصونها حتى بلغوا حدود المغرب.
9- ومنذ استقرار صلاح الدين بمصر حتى وفاة نور الدين داوم صلاح الدين على إرسال تحف القصر الفاطمي إلى سيده نور الدين رمزاً للولاء والتبعية، وداوم صلاح الدين على إطلاع نور الدين على كل صغيرة وكبيرة داخل مصر، فنجده مثلاً يرسل إليه كتاباً يتضمن ذكر ثورة بقايا الفاطميين والتي كان من ضمنها عمارة اليمني، وليس أدل على تعاون كل من صلاح الدين ونور الدين من تفاهمهما الإستراتيجي في قتال الفرنج، فيذكر أبو شامة أنه في سنة "568ه/1172م": تولى السلطانان نور الدين في الشام وصلاح الدين في مصر في هذه السنة جهاد الصليبيين، ولقد وصف العماد هذا الحدث ب "جهاد السلطانين للفرنج"، وهذا ما أكده صلاح الدين في كتاب له للخليفة العباسي بقوله أنه: كان انعقد بينه وبين نور الدين رحمه الله، في أن يتجاذبنا طرفي الغزاة من مصر والشام، والمملوك "أي صلاح الدين" بعسكره وبره وبحره، ونور الدين من جانب سهل الشام ووعره.
10- ولقد أبدى صلاح الدين تبعيته لبيت نور الدين حتى بعد وفاته سنة "569ه/1173م"، بحيث خطب صلاح الدين لابنه الصالح إسماعيل، وضرب السكة باسمه، ووافى إرسال الرسائل في العزاء بنور الدين، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نقول أنه حتى وفاة نور الدين كانت مصر والشام قد توحدتا تحت زعامة نور الدين وما كان صلاح الدين إلا عاملاً له على مصر، وهذا ما عبر عنه العماد الأصفهاني حين امتدح نور الدين فقال:
بملك مصر أهنىء مالك الأمم
فثق وأبشر بنصر الله عن أمم
فملك مصر وملك الشام قد نظما
في عقد عز من الإسلام منتظم
وفي كل الأحوال لم تصل علاقة نور الدين بصلاح الدين إلى درجة العداء ولا مسوغ لاعتبار الاختلاف في الرأي وحشة ونفرة كما يقرر ذلك عدد من المؤرخين والكتاب، وكل ما هنالك أن نور الدين كان يتطلع إلى مصر على أنها مصدر للواردات ويسد بها نفقات الجهاد ضد الصليبيين في الشام، وأنها مصدر للطاقة البشرية المجاهدة، وكان صلاح الدين أكثر معرفة من نور الدين لما يجري في مصر من أخطار ناجمة على استعداد أنصار الفاطميين للانضمام إلى الفرنج فوجه اهتمامه إلى بناء جيش قوي، بحيث يستطيع السيطرة على مصر، ورأى أن تثبيت كيان الدولة الجديدة في مصر أولى من الانشغال بمسائل الشام، وهذا يتفق مع ما قاله نور الدين للرسول الذي بعثه صلاح الدين يعتذر عن موقفه من حصار الكرك، حيث قال: حفظ مصر أهم عندنا من غيرنا.
إن صلاح الدين سار على نهج نور الدين في التمكين للمشروع السني، والقيادة في الإسلام ليست حكراً على الأسرة الزنكية ولا الأيوبية أو عائلة معينة مهما علا شأنها، ولكن من تقدمه أعماله بعد توفيق الله له ويلقى من المسلمين المحبة والتقدير والدعم والتأييد فهو المقدم، فأبو بكر رضي الله عنه قدمته الأمة بعد نبيها وبايعته، وكذلك عمر فأكمل المسيرة، وسار عثمان من بعده وعلي رضي الله عنه، فخدمة الدين والمسلمين مقدمة على كل شيء في ثقافة صلاح الدين.
عاشراً: وفاة نور الدين محمود:
قال العماد الأصفهاني: وأمر نور الدين رحمه الله تعالى بتطهير "ختان" ولده الملك الصالح إسماعيل يوم عيد الفطر، واحتفلنا لهذا الأمر، وغلقت محال دمشق أياماً، قال: ونظمت للهناء بالعيد والطهر قصيدة منها:
عيدان: فطر وطهر
فتح قريب ونصر
كلاهما لك فيه
حقاً هناء وأجر
وفيهما بالتهاني
رسم لنا مستمر
طهارة طاب منها
أصل وفرع وذكر
قال: وفي يوم العيد يوم الأحد ركب نور الدين على الرسم المعتاد محفوفاً من الله بالإسعاد، مكنوفاً من السماء والأرض بالأجناد، والقدر يقول له: هذا آخر الأعياد ووقف في الميدان الأخصر الشمالي لطعن الحلق، ورمي القبق وكان قد ضرب خيمته في الميدان القبلي الأخضر، وأمر بوضع المنبر، وخطب له القاضي شمس الدين ابن الفراشي قاضي العسكر، بعد أن صلى به وذكر، وعاد القلعة، طالع البهجة بهيج الطلعة، وأنهب سماطه العام على رسم الأتراك، وأكابر الأملاك، ثم حضرنا على خوانة الخاصه، وله عقد كمال مصون على الانتقاض والانتقاص، وفي يوم الاثنين والعظماء يسايرونه، والفهماء يحاورونه، وفيهم همام الدين مودود، وهو في الأكابر معدود، وكان قديماً في أول دولته والي حلب وقد جرب الدهر بحنكته، فقال لنور الدين في كلامه عظة لمن يغتر بأيامه: هل نكون ههنا في مثل هذا اليوم في العام القابل؟ فقال نور الدين: قل هل نكون بعد شهر، فإن السنة بعيدة، فجرى على منطقهما ما جرى به القضاء السابق، فإن نور الدين لم يصل إلى الشهر والهمام لم يصل إلى العام، ثم شرع نور الدين في اللعب بالكرة مع خواصه، فاعترضه في حاله أمير آخر اسمه يرنفشى وقال له: باش، فأحدث الغيظ والاستيحاش واغتاظ على خلاف مذهبه وخلقه الحليم، فزجره وزبره ونهاه ونهره، وساق ودخل القلعة ونزل، واحتجب واعتزل، فبقي أسبوعاً في منزله، مشغولاً بنازله، مغلوباً عن عاجله بحديث آجله والناس من الختان لاهون بأوطارهم في الأوطان، فهذا يروح بجوده، وذاك يجود بروحه، فما انتهت تلك الأفراح إلا بالأتراح، وما صلح الملك بعده إلا بملك الصالح، قال: واتصل مرض نور الدين وأشار عليه الأطباء بالفصد فامتنع، وكان مهيباً فما روجع، وانتقل حادي عشر شوال يوم الأربعاء من مربع الفناء إلى مرتع البقاء، ولقد كان من أولياء الله المؤمنين وعباده الصالحين، وكانت وفاة نور الدين رحمه الله تعالى بسبب خوانيق اعترته عجز الأطباء عن علاجها، وقد توفي يوم الأربعاء الحادي عشر من شوال سنة تسع وستين وخمسة مئة، ودفن بقلعة دمشق ثم نقل إلى تربة تجاور مدرسته التي بناها لأصحاب أبي حنيفة رحمه الله جوار الخواص في الشارع الغربي رحمه الله تعالى، وكان رحمه الله حريصاً على الشهادة وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة فلم أدركها، وقال الذهبي: قد أدركها على فراشه وعلى ألسنة الناس: نور الدين الشهيد.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.