ممدوح طه
التطرف نظرياً، هو الميل نحو أقصى طرفي الخط المستقيم الأيمن أو الأيسر بعيداً عن الموقع الأوسط الذي هو مركز التوازن بين الطرفين، وبعيدا عن مركز الدائرة التي تقف على مسافات متساوية مع أي نقطة على المحيط، ومساوية بين كل الأقطار الواصلة بين المحيط والمحيط بل وبين أنصاف الأقطار الواصلة بين المركز والمحيط، بما يحقق التوازن بين طرف وطرف في خط ثابت، أو مع دوران الدائرة ولا يصيبها بالترنح..
وهو واقعيا، المغالاة في الإفراط بدافع الاستغلال أو الطمع في شيء أو في كل الأشياء، أو الإسراف في التفريط بدافع الإهمال أو الجهل بشيء يصيب كل الأشياء.. كالإفراط في الغذاء بما يصيب بأمراض التخمة، أو التفريط في تلقى الدواء بما يزيد المريض مرضا، وهذه أزمات التطرف في الغنى والاستهلاك.
أو هو من طرف آخر الاضطرار إلى التفريط في تلقي الغذاء بما يسبب المرض، أو الإفراط في التعرض للمرض بسبب الجوع، وهذه أزمات التطرف في الفقر لعدم القدرة على الإنتاج! ومشكلتنا سواء كمفكرين أو سياسيين أو اقتصاديين أو عسكريين ربما تنبع من إسرافنا إلى حد التطرف أحيانا في التمسك بما هو نظري على حساب ما هو واقعي أو العكس.
أو بما هو علمي على حساب ما هو عملي أو العكس، أو ما هو فكري على حساب ما هو ديني أو العكس، ومن نسياننا أو تناسينا لبعض البديهيات البسيطة التركيب والعميقة المعنى، المشحونة بالخبرة المجربة في جمل مكثفة كبطاريات مضيئة أو ككبسولات شافية.
وبالحكمة الشعبية المستلهمة غالبا من مبادئ سماوية ثابتة أعيد عرضها بلغة الشعب، والغريب أنها تمثل في أحيان كثيرة ملخصات سهلة الصياغة والحفظ لحقائق علمية وعملية ثابتة بذاتها وليست بحاجة إلى إثبات، وترقى إلى مستوى قوانين ونظريات احتاج طرحها إلى كتاب ضخم واحتاج شرحها إلى عشرات السنين واحتاج الاقتناع بها إلى مئات الكتب!
إحدى هذه البديهيات البسيطة تقول «إذا زاد الشيء عن حده انقلب إلى ضده».. وهى بكلماتها القليلة إذ تحذر من نشأة المشكلة، فإنها في ذات الوقت تشير إلى الحل، أي أنها سر العديد من أزماتنا العالمية أو الإقليمية أو المحلية، الفكرية والسياسية والاقتصادية والعسكرية.
فالحرية إذا زادت عن حدها وخرجت عن ضوابطها انقلبت إلى فوضى، والفوضى إذا زادت عن حدها انقلبت إلى أزمات بلا نهاية وكوارث بلا حدود، والإباحة إذا زادت عن حدها وخرجت عن مشروعيتها انقلبت إلى فساد.
والقيود إذا زادت عن حدها وخرجت عن ضروراتها انقلبت إلى قهر، والقهر إذا زاد عن حده تحول إلى انفجار، والعدل إذا خرج عن حدوده ينقلب إلى ظلم، والاستبداد إذا زاد عن حده انقلب إلى ثورة مضادة.. وكل فعل له رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه.
وهذا درس الأزمة المالية للنظام الاقتصادي الأميركي الذي سمح للأغنياء بحرية الغنى بغير عدالة، بما أجبر الفقراء أن يزدادوا فقرا بغير اختيار، والتي تحولت بفعل العولمة إلى أزمة عالمية، هو درس لدعاة التطرف الرأسمالي أو الشيوعي ولكل أنصار التبعية للنظريات الغربية الجاهزة التي ثبت ترنحها لافتقارها إلى التوازن بين ضرورة العدالة الاجتماعية وفق الشرائع الإلهية، وحدود الحرية الاقتصادية وفق الحقوق الإنسانية.<