المؤلف/ علي محمد الصلابي
الفصل الثاني:
قيام الدولة الأيوبية
المبحث الأول:
أسرة صلاح الدين ونشأته
< أولاً: نسب صلاح الدين:
ينتمي صلاح الدين إلى عائلة كردية، كريمة الأصل ، عظيمة الشرف، وتنتسب هذه العائلة إلى قبيلة كردية تعد من أشراف الأكراد نسباً وعشيرة، وهذه العشيرة تعرف بالروادية، وهي تنحدر من بلدة دوين الواقعة عند آخر حدود أذربيجان بالقرب من مدينة تفليس في أرمينية، وينتسب الأيوبيون إلى أيوب بن شادي، ويعتبرهم ابن الأثير أشرف الأكراد لأنهم لم يجر على أحد منهم رق أبداً، كما أن والد صلاح الدين نجم الدين أيوب، وعمه أسد الدين شيركوه، عندما قدما إلى العراق بلاد الشام لم يكونا من الرعاة وإنما كانا على درجة عالية من الخبرة والشؤون السياسية والإدارية، غير أن بعض الأيوبيين حاول أن ينكر أصلهم الكردي والالتصاق بالدم العربي عامة، وبنسل بني أمية خاصة، ومهما كان أصل البيت الأيوبي، فإن ظهورهم على مسرح الأحداث في المشرق الإسلامي وضع منذ القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي حين تولى شادي جدهم الأكبر بعض الوظائف الإدارية في قلعة تكريت، التي كانت إقطاعاً لبهروز الخادم أحد أمراء السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه وكانت تكريت، الواقعة على الضفة اليمنى لنهر دجلة شمالي سامراء، تتحكم في أغلب الطرق الرئيسة المارة بين العراق وبلاد الشام، وكان أغلب سكانها من الأكراد، وقد انتقل إليها شادي مع ابنيه نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه، وتدرج في المناصب الإدارية فيها حتى ولي وظيفة الشحنة، ولما توفي خلفه ابنه نجم الدين أيوب، ومن العجب أن بعض المؤرخين يتمحلون في بحثهم لينسبوا أسرة صلاح الدين في سلسلة من الآباء تنتهي عند مضر الذي ينتمي إلى عدنان، وكأنهم يريدون من وراء هذا البحث الذي لا يتفق مع منهج البحث العلمي ولا مع الحقيقة المجردة، أن يلحقوا كل شخصية فذة ليست عربية بسلسلة من النسب العربي، وكأن الفضائل كلها، والمكارم جميعها مقصورة على العرب وخاصة بهم، وكأن المسلم غير العربي - في نظرهم القاصر - لا يمكن بحال أن يبني مجداً، أو يشيد حضارة، أو يخلد ذكراً، أو ينصر دينه بالسنان واللسان، ونحن لو استقرأنا التاريخ، وبحثنا عن عظمائنا في بناء الحضارة الإسلامية، لوجدنا أن القوميات المتعددة التي دخلت في دين الإسلام ساهمت في الحضارة الإسلامية، فهذا محمد الفاتح ونور الدين وعماد الدين من الترك، وذلك نظام الملك من الفرس، وهذه الأسرة الأيوبية من الكرد، وذاك يوسف بن تاشفين من البربر، وقد أكرم الله العرب بنشر الرسالة الإسلامية، وقد أعز الله من أخلص لدينه ، فنحن ضد التعصب الأعمى، والعنصرية الممقوتة، فمبدأ الإسلام "إنما المؤمنون إخوة" [الحجرات:10] ومنهجه ثابت لا يتحول "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" [الحجرات:13].
وقد قام نجم الدين بخدمة السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه "فرأى منه أمانة وعقلاً وسداداً وشهامة، فولاه قلعه تكريت، فقام في ولايتها أحسن قيام، وضبطها أكرم ضبط، وأجلى عن أرضها المفسدين وقطاع الطرق حتى عمرت أرضها وحسن حالها".
وكذلك يذكر أبو شامة بأن أسد الدين شيركوه كان من الأمراء المقدمين عند السلاجقة الذين أقطعوه إقطاعاً كبيراً في تكريت وما حولها حتى إن إقطاعه كانت تقدر قيمته بحوالي تسعمائة دينا سنوياً، وهو مبلغ كبير بمقياس ذلك العصر.
< ثانياً: ولادة صلاح الدين:
ولد صلاح الدين الأيوبي عام "532ه/1137م" في قلعة تكريت بلدة قديمة أقرب إلى بغداد منها إلى الموصل، وقد قامت في طرفها الأعلى قلعة حصينة راكبة على دجلة، بناها ملوك الفرس منذ القدم على حجر عظيم، وجعلوها مخازن للذخيرة، ومرصداً لمراقبة العدو، ثم افتتحها المسلمون في السنة السادسة عشرة من الهجرة أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن عجائب القدر أن ولادة صلاح الدين كانت في اليوم الذي أمر فيه" مجاهد الدين بهروز" والي بغداد نجم الدين أيوب وأخاه شيركوه بمغادرة مدينة تكريت لقتل شيركوه عم صلاح الدين أحد قواد القلعة ، وذلك من أجل امرأة آذاها في شرفها، فانتقم " شيركوه" للشرف والمروءة حين استغاثت به فقتله.
ولكن بهروز وقع في حيرة من نفسه: هل يبقيهما عنده؟ أم يأمر بمغادرتهما؟ فإن أبقاهما يخشى عليهما من انتقام القواد أن يصيبهما الأذى، فلم يجد بدا سوى أن يأمرهما بالمغادرة، فجاء بهما مظهراً الخوف عليهما، وطلب إليهما أن يخرجا في ليلتهما من تكريت، فخرج الرجلان يقصدان "الموصل" وقد حملا أسرتيهما، وفي رحل نجم الدين ولد يوسف ابنه الطفل المولود صلاح ويذكر صاحب وفيات الأعيان: " أن أيوب قد تشاءم بمولوده الجديد صلاح الدين، وقد هم أيوب بقتل ولده عندما كان يصيح وهو طفل وهم خارجون من المدينة، ولكن أحد أتباعه حذره من هذا العمل قائلاً: يا مولاي، قد رأيت ما حدث عندك من الطيرة والتشاؤم بهذا الصبي، وأي شيء له من الذنب؟ وبم استحق ذلك منك وهو لا ينفع ولا يضر، ولا يغني شيئاً، وهذا الذي جرى عليك قضاء من الله سبحانه وقدر، ثم ما يدريك أن هذا الطفل يكون ملكاً عظيم الصيت، جليل المقدار، ولعل الله جاعل له شأناً، فاستبقه فهو طفل، ليس له ذنب ولا يعرف ما أنت فيه من الكدر والغم.
ولقد أثرت هذه الكلمات في نفس أيوب، وسرعان ما رجع إلى الحق، وثاب إلى الرشد، واتبع طريق الإسلام الصحيح.
< ثالثاً: نشأة صلاح الدين:
هاجر الإخوان نجم الدين أيوب وشيركوه من بغداد إلى الموصل، حيث نزلا عند " عماد الدين زنكي" الذي رحب بالأخوين ترحيباً عظيماً، وأجرى عليهما المنح والعطايا وما هذا الترحيب والإكرام إلا مكافأه على موقفهما المخلص من إنقاذهما له من القتل أو الأسر، ذلك لأن عماد الدين زنكي صاحب الموصل قد حارب السلجوقية عند " تكريت" أيام كان "بهروز" ولياً على بغداد من قبل السلجوقيين، وسبق أن ذكرنا أن نجم الدين أيوب، وشيركوه كانا قائمين على تكريت وأصبحت حياته هو وجيشه في يد نجم الدين أيوب والي تكريت يومئذ إن شاء أبقاهم أحياء وإن شاء قتلهم، ففضل نجم الدين الإحسان على الإساءة فقام هو وأخوه شيركوه بمساعدة عماد الدين وسهلا له أمر النجاة والسلامة حتى وصل إلى الموصل، فكان لهذه المعاملة الحسنة والموقف النبيل أكرم الأثر، وأحسن النتائج في بناء ملك أيوب، وإقامة مجد الإسلام على يد صلاح الدين.
ولما وصل الرجلان إلى الموصل لقيهما عماد الدين - كما ذكرنا - بالترحاب وجازاهما على ما صنعا معه من الجميل له في تكريت، فأقطعهما أرضاً ليعيشا عنده معززين مكرمين، وفي رحاب عماد الدين تطورت الأسرة الأيوبية، فقد أصبح نجم الدين وأخوه شيركوه من خيرة القادة، وقتل عماد الدين بعد ذلك وأصبح نور الدين صاحب اليد الطولى وكان ذلك بمساعدة الأيوبيين، واستطاع أن يضم دمشق لملكه، وفي دمشق ترعرع صلاح الدين وتلقى علومه الإسلامية ومارس فنون الفروسية والصيد والرمي بالسهام وغيرهما من ضرورات البطولة، وعندما فتح نور الدين محمود زنكي بعلبك سنة "534ه" ولى عليها نجم الدين أيوب، إلا أن صاحب دمشق مجير الدين، قام بحصار نجم الدين أيوب في بعلبك، وكاتب نجم الدين نور الدين محمود، وسيف الدين غازي، وطلب منهما النجدة، فاشتغلا عنه، وبعد حصار طويل تم الصلح بين الطرفين على الحال، وانتقل إلى دمشق وصار من كبار أمرائها، وهكذا عاش صلاح الدين طفولته الأولى في بعلبلك سنة "534/ 1140م"، وكان يشاهد ويسمع بين حين وآخر، اعتداء الصليبيين على البلاد الإسلامية، ولما قام الصليبيون بالهجوم على سهل البقاع والمجاور لبعلبك سنة "546ه" تصدى لهم نجم الدين وأسد الدين شيركوه وهزمهما وأخذ منهم أسارى، وفي السنة نفسها التحق صلاح الدين في خدمه عمة أسد الدين شيركوه وكان أسد الدين مرافقاً لنور الدين الذي تولى قيادة الزنكيين بعد مقتل والده، ويبدو أن نور الدين كان قد أدرك قدرات صلاح الدين العسكرية والإدارية، فقد ذكر أبو شامة أن صلاح الدين تقدم بين يدي نور الدين فقبله وأقطعه إقطاعاً حسناً، وعول عليه ونظر إليه، وقربه، وخصصه، ولم يزل يتقدم تقدماً تبدو منه أسباب تقضي تقديمه إلى ما هو أعلى. <
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.