المؤلف/ علي محمد الصلابي
ومما يدل على عدله سهره على مصالح الرعية وإزالته بعض المكوس والضرائب تخفيفاً عن الناس، ورفعاً للظلم عن كواهلهم، وقد ذكر ابن جبير من مناقب صلاح الدين وآثاره التي أبقاها ذكراً جميلاً للدين والدنيا أنه أزال كثيراً من المكوس والضرائب التي كانت مفروضة على الناس على كل ما يباع ويشترى مما دق أو جل، حتى أنه كان يؤدي على شرب ماء النيل المكس، فألغى صلاح الدين هذا كله، وقد كانت هناك ضريبة قدرها سبعة دنانير ونصف تفرض على كل حاج في طريقه إلى الحجاز لتعمير مكة والمدينة، ومساعدة الناس هناك، وقد اشتط الفاطميون في جمع هذه الضرائب، ومن يعجز عن دفعها يعذب عذاباً أليماً، ولكن صلاح الدين ألغى ذلك المكس، واستعاض عنه معونة مالية تعادل قيمة ما يؤخذ من الحجاج تدفع كل عام لأهل الحجاز، وبذلك أراح الحجاج من عنت الجباة، ولا سيما أن نسبة كبيرة منهم كانوا فقراء لا يستطيعون دفع ما يؤخذ منهم، فكفى الله المؤمنين على يدي هذا السلطان العادل حادثاً عظيماً وخطاباً أليماً، إن العدل أشرف أوصاف الملك وأقوم لدولته؛ لأنه يبعث على الطاعة ويدعو إلى الألفة، وبه تصلح الأعمال وتنمي الأموال وتنتعش الرعية وتكمل المزية وقد ندب الله عز وجل الخلق إليه وحثهم عليه.
ثالثاً: شجاعته:
إن الشجاعة من أحمد الأوصاف التي لزم الملك أن يتصف بها ضرورة، وأن تكون له طبعاً فيتطبع بها ليحسم بهيبته مواد الأطماع المتعلقة بقلوب نظرائه، ويحصل منه حماية "البيضة" ورعاية المملكة والذب عن الرعية، ولقد كان صلاح الدين من عظماء الشجعان، قوي النفس، شديد البأس عظيم الثبات، لا يهوله أمر، ولقد رأيته رحمه الله مرابطاً في مقابلة عدة عظيمة من الفرنج، ونجدهم تتواصل، وعساكرهم تتواتر، وهو لا يزداد إلا قوة نفس وصبر، ولقد وصل في ليلة واحدة منهم نيف وسبعون مركباً على عكا وأنا أعدها من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهو لا يزداد إلا قوة نفس، ولقد كان رحمه الله يعطي دستوراً في الأوائل ويبقى في شرذمة يسيرة في مقابلة عدتهم الكثيرة، يقول ابن شداد: وقد سألت باليان بن بارزان، وهو من كبار ملوك الساحل وهو جالس بين يديه رحمه الله، يوم انعقاد الصلاح عن عدتهم فقال الترجمان عنه إنه يقول: كنت وصاحب صيدا وكان أيضاً من ملوكهم وعقلائهم قاصدين عسكرنا من صور، فلما أشرفنا عليه تحاورناه، فحزره هو بخمسمائة ألف وحزرتهم أنا بستمائة ألف، أو قال عكس ذلك، فقلت: فكم هلك منهم؟ فقال: أما بالقتل فقريب من مائة ألف، وأما بالموت والغرق فلا نعلم، وما رجع من هذا العالم إلا الأقل، وكان لا بد له من أن يطوف حول العدو في كل يوم مرة أو مرتين إذا كنا قريباً منهم، وكان صلاح الدين إذا اشتدت الحرب يطوف بين الصفين ومعه صبي واحد وعلى يده جنيب، ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة، ويرتب الأطلاب، ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها، وكان يشارف العدو ويجاوره، قال ابن شداد: ولقد قرئ عليه جزء من الحديث بين الصفين وذلك أني قلت له: قد سمع الحديث في جميع المواطن الشريفة ولم ينقل أنه سمع بين الصفين، فإن رأى المولى أن يؤثر عنه ذلك كان حسناً، فأذن في ذلك، فأحضر جزءاً وهناك أحضر من له به سماع، فقرئ عليه ونحن على ظهور الدواب بين الصفين، ونمشي تارة، ونقف أخرى، وما رأيته استكثر العدو أصلاً، ولا استعظم أمرهم قط، وكان مع ذلك في حال الفكر والتدبير، يذكر بين يديه الأقسام كلها، ويرتب على كل قسم مقتضاه من غير حدة ولا غضب يعتريه رحمه الله، ولقد انهزمن المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا، حتى القلب ورجاله، ووقع الكوس والعلم وهو رضي الله عنه ثابت القدم في نفر يسير قد انحاز إلى الجبل يجمع الناس ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا، ولم يزل كذلك حتى نصر عسكر المسلمين على العدو في ذلك اليوم، وقتل منهم زهاء سبعة آلاف ما بين راجل وفارس، ولم يزل مصابراً لهم وهم في العدو الوافرة إلى أن ظهر له ضعف المسلمين، فصالح وهو مسؤول من جانبهم، فإن الضعف والهلاك كان فيهم أكثر، ولكنهم كانوا يتوقعون النجد، ونحن لا نتوقعها، وكانت المصلحة في الصلح، وظهر ذلك لما أبدت الأقضية والأقدار ما كان في مكنونها.
رابعاً: كرمه:
والكرم لباب الأخلاق الفاضلة، ومدارج الفضيلة وصفت الأخلاق به وشرفت بالانتساب إليه من باب إضافة الصفة للموصوف، فكل شيء يشرف في بابه يوصف به، وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، وعن جابر رضي الله عنه قال: ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قط فقال: "لا".
وقال الشافعي:
وإن كثرت عيوبك في البرايا
وسرك أن يكون لها غطاء
تستر بالسخاء فكل عيب
يغطيه كما قيل السخاء
ولقد كان كرم السلطان صلاح الدين الأيوبي أظهر من أن يسطر وأشهر من أن يذكر، لكن ننبه عليه جملة وذلك انه ملك ما ملك ومات، ولم يوجد في خزائنه من الفضة إلا سبعة وأربعون درهماً ناصرية، ومن الذهب إلا جرم واحدي صوري وقد اشتهر صلاح الدين بالكرم ووزع ما احتوته قصور الفاطميين من جواهر وأموال على أمرائه وأصحابه، ولم يحتفظ لنفسه بشيء، وكان يهب الأقاليم، فعندما فتح آمد طلبها منه قرأ أرسلان، فأعطاها إياه، يعطي في وقت الشدة كما يعطي في وقت السعة، وقال مرة وهو يعبر عن كرمه: والله لو وهبت الدنيا للقاصد الآمل لما كنت أستكثرها له، ولو استفرغت له جميع ما في خزانتي، لما كان عوضاً مما أراقه من حر ماء وجهه في استمناحه إياي.
وكان من شدة كرمه: أنه إذا علم أن في خزائنه مالاً، لا يستطيب تلك الليلة حتى يفرق هذا المال جوداً، وإذا منح إنساناً مالاً ثم قيل له إن هذا القدر لا يكفيه زاده الضعف، ولا يرى شيخاً إلا ويرق له ويعطيه ويحسن إليه، وما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحم على والديه، وجبر قلبه ومصابه وأعطاه، وإن كان له من أهله كبيرة يعتمد عليه سلمه إليه، وإلا أبقى له من الخير ما يكفي حاجته، وسلمه إلى ما يعتني بتربيته ويفلها، وقد وصف العماد الأصفهاني كرمه فقال: كان بإخراج ما يدخل من الأموال في المكرمات والغرامات مغرماً.
وكان يجود بالمال قبل الحصول ويقطعه عن خزانته بالحوالات عن الوصول، فإذا عرف بالوصول حمل، وقع عليه بأضعافه، و لا يجيبه أحد بالرد إذا سأله، بل يلطف له كأنه استمهله ويقول: ما عندنا شيء الساعة، ويعطي فوق ما يؤمل الطالب، ويبسط وجهه للمعطي بسط من لم يعطه شيئاً، وقد قدر ما وهبه من الخيل للحاضرين معه في الجهاد مدة ثلاث سنين منذ أن نزل الفرنج على عكا في رجب سنة "585ه" إلى يوم انفصالهم بالسلم في شعبان سنة "588ه" باثني عشر ألف رأس من حصان وحجر، وإكديش طمر، ويعلق ابن شداد على ذلك بقوله: ومن شاهد عطاياه يستقل هذا القدر، هذا بالإضافة إلى ما كان يطلقه من المال من أثمان الخيل المصابة في القتال؛ لأنه ما عقر في سبيل الله فرس أو جرح إلا وعوض مالكه بمثله، ولم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به وصاحبه ملازم في طلبه، وقد توفي ولم يحفظ عنده ما يجب فيه الزكاة، لأن صدقة التطوع استنزفت جميع ما ملكه من الأموال، وقد ملك ما ملك ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً، وديناراً واحداً ذهباً، ولم يخلف داراً ولا عقاراً، ولا بستاناً، ولا قرية، ولا مزرعة، ولا شيئاً من أنواع الأملاك وهذا دليل واضح على شدة كرمه، وقال القاضي ابن شداد: وسمعت منه يقول في معرض حديث جرى: يمكن أن يكون في الناس من ينظر إلى المال كمن ينظر في التراب، فكأنه أراد بذلك نفسه.
خامساً: اهتمامه بالجهاد:
كان صلاح الدين شديد المواظبة على الجهاد، عظيم الاهتمام به، ولو حلف حالف أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد ديناراً ولا درهماً إلا في الجهاد أو في الإرفاد لصدق وبر في يمينه، ولقد كان الجهاد وحبه والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاء عظيماً، بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلته، ولا اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا على ما يذكره ويحث عليه، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر ملاذه، وقنع من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهب بها الرياح يمنة ويسرة، ولقد وقعت عليه الخيمة في ليلة ريح على برج عكا، فلو لم يكن من البرج وإلا قتلته، ولا يزيده ذلك إلا رغبة ومصابرة واهتماماً، وكان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثه على الجهاد أو يذكر له شيئاً من أخبار الجهاد، ولقد ألفت له كتب عدة في الجهاد، قال ابن شداد: وأنا ممن جمع له فيه كتاباً جمعت فيه آدابه، وكل آية وردت فيه، وكل حديث روي فيه، وشرحت غريبها؛ وكان كثيراً ما يطالعه حتى أخذه منه ولده الملك الأفضل وقال: ولأحكين عنه ما سمعته منه، وذلك أنه كان قد أخذ كوكب، في ذلك القعدة سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وأعطى العساكر دستوراً، وأخذ عسكر مصر في العودة إلى مصر وكان مقدمه أخاه الملك العادل فسار معه ليودعه ويحظى بصلاح العيد في القدس الشريف وسرنا في خدمته، ولما صلى العيد في القدس وقع له أنه يمضي معهم إلى عسقلان ويودعهم بعسلقان ثم يعود على طريق الساحل يتفقد البلاد الساحلية إلى عكا، ويرتب أحوالها، فأشاروا عليه أن لا يفعل، فإن العساكر إذا فارقتنا نبقى في عدة يسيرة، والفرنج كلهم بصور وهذه مخاطرة عظيمة، فلم يلتفت وودع أخاه والعسكر بعسقلان، ثم سرنا في خدمته على الساحل طالبين عكا، وكان الزمان شتاء عظيماً والبحر هائجاً هيجاناً شديداً، وموجه كالجبال كما قال الله تعالى وكنت حديث عهد برؤية البحر، فعظم أمر البحر عندي حتى خيل إلي كما قال الله تعالى: وكنت حديث عهد برؤية البحر، فعظم أمر البحر عندي حتى خيل إلي أنني لو قال لي قائل: إن جزت في البحر ميلاً واحداً ملكتك الدنيا، لما كنت أفعل واستسخفت رأي من ركب البحر رجاء لكسب دينار أو درهم، واستحسنت رأي من لا يقبل شهادة راكب بحر هذا كله خطر لي لعظم الهول الذي شاهدته من حركة البحر وتموجه فبينما أنا في ذلك إذ التفت إلي رحمه الله وقال: أما أحكي لك شيئاً؟ قلت: بلى، قال: في نفسي؛ أنه متى يسر الله تعالى فتح بقية الساحل قسمت البلاد، وأوصيت وودعت، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم أتتبعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت.
صلاح الدين الأيوبي مؤلَّف جديد يضيء شمعة أخرى في الموسوعة التاريخية التي نسعى لإخراجها، وهو امتداد لما سبقه من كتب درست الحروب الصليبية، ويتناول الدكتور/ علي محمد الصلابي في هذا الكتاب صراع المشاريع: المشروع الصليبي، والمشروع الإسلامي، ولخص الحملات الصليبية التي سبقت قيام الدولة الأيوبية، والرصيد الخلقي لصلاح الدين وصفاته، وتوسعه في إنشاء المدارس، ومكانة العلماء والفقهاء عنده ، ثم أفرد المؤلف فصلاً كاملاً لمعركة حطين وفتح بيت المقدس، وأسباب الانتصار في تلك المعركة الفاصلة والحاسمة، ثم الحملة الصليبية الثالثة وردة فعل الغرب الأوروبي من تحرير بيت المقدس والتعبئة الشاملة التي حدثت، وأخيراً وفاة صلاح الدين وتأثر الناس بوفاته حتى المؤرخون الأوروبيون أشادوا بعدله وبقوته وتسامحه واعتبروه أعظم شخصية شهدها عصر الحروب الصليبية قاطبة، وستظل سيرته تمد أبناء المسلمين بالعزائم الصلاحية التي تعيد إلى الحياة روعة الأيام الجميلة الماضية وبهاءها.
ونظراً لأهمية هذا الكتاب وما يحتويه من معلومات تهم القارىء الكريم ونزولاً عند رغبته تعمل أخبار اليوم عن نشره كاملاً في حلقات.