أحمد عبد الحسين
الجمال فائض عن حاجة العالم، وأكثر من أيّ وقتٍ مضى يبدو محاصراً يائساً ولا أحد يلتفت إليه، تحاصره جيوشُ القبح الهابّة مع هواء البنوك كما يحاصره نفوذُ أقوال وافعال عبيد متسلطين، تحاصره قوى ارتكاسيّة هي من الدهاء (دهاء الكهنوت) بحيث خنقت كلّ جميل بإنشائها نسخاً سامة ومشوهة عنه، بذرت في أحشاء كلّ لذاذةٍ بذرة خوف، صارت الحياة مشدودة إلى القيامة، وسرّة الجنين الذي وُلد اليوم مربوطة إلى قبره، صرنا نضرب صدورنا ندماً على ما لم نفعل ونبكي قتلى لم تتلطخ أيدينا ولا أيدي آبائنا بدمائهم، ونندب العالمَ الحيّ الدافقَ بدل أن نعيشه فناً وطلاقة روح.
لم يعد له معنى، سؤالنا عن غياب كلّ ملمح جماليّ في وجه بغداد، وكم هي باردةٌ ومثيرة للشفقة تحليلاتنا، أسوأ منها وأكثر نفاقاً أننا نتحجج بأمنٍ مفقود كلما سألنا أنفسنا عن غياب المسرح، انقراض صالات السينما، تحويل صالات العرض التشكيليّ إلى مقرات أحزاب، تدمير الموسيقى، صمت المطربين، هزال الدراما ... أقول لكم لقد آن الأوان للاعتراف: لا تستغربوا هذا اللون الغباريّ الذي اصطبغت به حياتنا، إنه ينتشر في كلّ دولة يصيبها داء احتقار الجمال الذي أصاب العراق.
في دولة يحتقر ساستها الفنّ والثقافة لا تعود للجمال قيمة، فعبيدُ أنفسهم هؤلاء الذين شُيدت ممالكهم بالقداسة والمال معاً، قد يجدون للفنّ ثمناً لكنهم لن يجدوا له قيمة أبداً، والفارق بين ثمن شيء وقيمته هو الفارق بين شاعرٍ واقف أمام كرش مسؤول يسمعه آخر قصائده، وآخر يجنّ عليه ليله وهو يعوي كذئب جريح بما لا يطيق، بأقاصٍ غريبة ينسجها كلامٌ ليس له ثمن، كلام لا يتحوّل إلى دولارات ولا يستثمره العبد المتسلط لزيادة سلطانه.
أجدى للشاعر، ومَنْ في حكمه من أرباب الجمال، أن يسكن المختلف وأن لا يحدّث نفسه في دخول هذا البيت المظلم الذي يختلط فيه كلّ شيء بكلّ شيء، أجدى له أن يجعل أسلحته النقدية مبثوثة في كل حرف يكتبه لئلا يختلط كلامه بكلام هذه الكائنات التي صنعتها قوى الارتكاس والمال ثم أصعدوهم المنبر وأسموهم شعراء.
وأنتم .. يا من تكرهون السواد ولون الغبار، إذا كان قد بقي منكم أحد، كونوا العلامة الوحيدة على مقاومة الجمال لهذه الصحراء التي تتقدم إلى قلب العراق.<
ahmedwadi@hotmail.com
