المؤلف/ علي محمد الصلابي
هذه هي العناصر الأساسية للثقافة السنية التي حلفت بها المؤسسات الفكرية في عصر الأيوبيين.
اعتنى الأيوبيون بنشرها، والتمكين لها وبخاصة في مصر ، نتيجة لظروفها التاريخية السابقة، حيث كان المعقل الرئيس للدعوة الشيعية الإسماعيلية، فقد تركزت عناصر الثقافة السنية حول القرآن الكريم، والحديث الشريف والدراسات الفقهية السنية، وأصول العقيدة، ثم تعدت ذلك إلى كل ما يخدم هذه الثقافة من نحو، وأدب، وعلوم لغة ، ولم تكن للدراسات العقلية الفلسفية فيها نصيب بل إن من كانوا يسعون لتحصيل هذا النوع من الثقافة كانوا يحصلونه على استحياء، بسبب استهجان الاشتغال بهذه العلوم من الأوساط العلمية السنية وكان المشتغلون بها لايقلون تقبلاً اجتماعياً ومرفوضين من البيئات العلمية السنية، التي يحلون بها، والأمثلة على هذا كثيرة منها: ان صلاح الدين كان: مبغضاً للفلاسفة والمعطلة والدهرية.
وعلى ما يبدو أن العداء للعلوم الفلسفية في هذه البيئة كان له سببان:
الأول: أن هذا الموقف كان رد فعل ضد المذهب الشيعي الذي اعتمد اعتماداً كبيراً على الفلسفة في تكوين عقائده وفي الدعوة إليها، ومن ثم أنكرها علماء السنة، إيماناً منهم بأن المذهب السني واضح بسيط يسهل على الناس فهمه وإدراكه دون حاجة إلى الاستعانة بالفلسفة أو المنطق كما ذهب إلى ذلك ابن الصلاح في فتواه.
الثاني: أن الفلسفة كانت فقدت بريقها، ونزلت من عليائها منذ أن وجه إليها الإمام الغزالي وابل سهامه في كتابه: تهافت الفلاسفة، وكان تأثير الغزالي ما يزال قوياً مسيطراً على البيئات السنية في العصور التي تلت عصره.
رابعاً: إحياء الأيوبيين لدولة الخالفة العباسية:
استطاعت الدولة الأيوبية في نهاية القرن السادس الهجري ومطلع القرن السابع الهجري إحياء النفوذ السياسي لدولة الخلافة العباسية في أغلب أرجاء بلاد المشرق الإسلامي؛ بعد قضاء الأيوبيين على الخلافة الفاطمية بمصر سنة "567ه/1171م"، وقد نجحوا في سنة "569ه/1173م" في فتح بلاد اليمن وكانت تعد من أقدم وأقوى معاقل الدعوة الفاطمية، واستطاعوا القضاء على الداعي الفاطمي بها عبدالنبي بن مهدي، وخطبوا لبني العباس على منابر اليمن؛ ومن اليمن مدوا نفوذهم إلى الحرمين الشريفين، وخطبوا على منابرها لخليفة بغداد، الذي اكتمل له بهذا الأمر مظاهر نفوذه الروحي في العالم الإسلامي لكونه أصبح حامي حمى الحرمين الشريفين بعد تفرد الخلافة الفاطمية بهذا الأمر دون بني العباس لفترة طويلة، وثمة عدة إشارات ذكرها المؤرخون المصريون واليمنيون والشوام المعاصرون للفتح الأيوبي لليمن، توضح أن هذا الفتح كان خطوة أيديولوجية للإجهاز على الدعوة الفاطمية هدف إليها السلاجقة، ثم الزنكيين ونفذها بنو أيوب، ولم يكن بحال من الأحوال تأييداً لاستقلال الأيوبيين عن نور الدين زنكي، وقد حرص الأيوبيون عند فتحهم لليمن على إدخال كتب الدعوة السنية مع جيوشهم، والعمل على نشرها في بلاد اليمن، وذلك للقضاء على كتب الدعوة الشيعية هناك، مثل كتب المعتزلة والزيدية والفاطميين التي كانت قد اجتلبت الدعوة السنية مع جيوشهم، والعمل على نشرها في بلاد اليمن، وذلك للقضاء على كتب الدعوة الشيعية هناك، مثل كتب المعتزلة والزيدية والفاطميين التي كانت قد اجتلبت إلى بلاد اليمن من بلاد الديلم في عهد أئمة اليمن الزيدية وإبان النفوذ الفاطمي على بلاد اليمن، ومن ناحية أخرى حاول الأيوبيون ضم المغرب الإسلامي وانتزاعه من الموحدين لصالح العباسيين، ولقد حرص صلاح الدين على احترام الخلفاء العباسيين، وكان منهجه امتداداً لمنهج نور الدين الذي وصفه سبط ابن الجوزي بأنه: كان يتدين بطاعة الخليفة، وكان هذا الاحترام نابعاً من إيمانه بوجوب الطاعة للخلفاء العباسيين، ويظهر هذا بوضوح في إحدى رسائل القاضي الفاضل إلى الخليفة الناصر بعد استيلاء صلاح الدين على حلب إذ جاء فيها: وهذه المقاصد الثلاثة: الجهاد في سبيل الله، والكف عن مظالم عباد الله، والطاعة لخليفة الله هي مراد الخادم من البلاد إذا فتحها، ومغنمة من الدنيا إذا منحها، والله العالم أنه لا يقاتل لعيش ألين من عيش، ولا يريد إلا هذه الأمور التي توسم أنها تلزم، وعندما أرسل الخليفة الناصر لدين الله إلى صلاح الدين يعاتبه في تلقبه بالملك الناصر مع أنه لقب أمير المؤمنين، أرسل إليه يعتذر بأن ذلك كان من أيام الخليفة المستضيء، وأنه إن لقبه أمير المؤمنين بلقب آخر فهو لا يعدل عنه: وتأدب مع الخليفة غاية الأدب، وسار على هذا النهج - تجاه الخلفاء - معظم الأيوبيين.
خامساً: حماية سلاطين بني أيوب لطريق الحج والحرمين الشريفين:
يرجع الفضل بعد الله إلى عودة السيادة العباسية على الحجاز إلى مساعي السلاجقة لنزع الأماكن المقدسة من هيمنة الدولة الفاطمية الشيعية، وفي عهد نور الدين زنكي ظهرت جهوده الميمونة في الإحسان لأهل مكة والمدينة، وبعث العساكر لحفظ المدينة النبوية، وأقطع أمير مكة إقطاعاً، وأقطع أمراء العرب إقطاعات لحفظ لحج فيما بين دمشق والحجاز، وأكمل سور المدينة النبوية، واستخرج لها العين، فدعي له بالحرمين على منبريهما بعد اسم الخليفة العباسي، وثمة معلومة على جانب كبير من الأهمية لدارس تاريخ الأسرة الأيوبية ونشأتها تشير إلى أن تولي مؤسس هذه الأسرة لإمارة لواء الحج الشامي إبان خدمتها لنور الدين زنكي، وكان من أهم عوامل استقواء هذه الأسرة الطموحة فنعرف أن نجم الدين أيوب كبير البيت الأيوبي، كان قد تولى إمارة الحج الشامي لنور الدين زنكي منذ سنة "551ه/1156م" وقد ورثه هذا المنصب أخوه أسد الدين شيركوه الذي وصف أنه قد تقدم عند نور الدين زنكي، وبعثه أمير الحاج من دمشق.
وكان شيركوه في حياته فقد أنفق من أمواله المبالغ الضخمة في سبيل إقامة الشعائر الدينية والخيرية بالحرمين هو وصديقه الوزير جمال الدين وزير صاحب الموصل، وأوصى صديقه بأن يدفن في تربة بجوار المسجد النبوي بالمدينة المنورة، وقد حرص ملوك بني أيوب على تحقيق هذه الأمنية والوصية، فقاموا بنقل وفاة نجم الدين أيوب وأخيه شيركوه بعد دفنهما بمصر، وأعادوا دفنهما بالمدينة، طبقاً لوصيتهما.
استمرت السيادة العباسية على الحجاز على يد سلاطين وملوك الدولة الأيوبية، وبدت مظاهر عودة هذه السيادة في الخطبة للخليفة العباسي بالحرم المكي قبل أمير مكة، وقبل السلطان الأيوبي صاحب مصر، وملك اليمن من بني أيوب، وفي إرسال التقاليد الخليفية بالإمارة لكل من أمير مكة والمدينة، صحبه أمير الحاج العراقي، وكان تقليد أو عزل أمير المدينة ومكة وأولياء عهدهما يقرأ بجوار المسجد النبوي، وإرسال كسوة الكعبة كل سنة بشعار بني العباس وهو السواد وبطرز حمراء تحمل اسم الخليفة العباسي وعبارات دعائية له، كما تولى خلفاء بني العباس عمارة الحج المكي والمسجد النبوي.
كذلك كان الخليفة العباسي وحده هو صاحب الحق في رفع لوائه يوم الوقوف بعرفات، وتأكيداً لإشراف الخلافة العباسية على الحرم المكي، كان أمير الحج العراقي يقوم بنفسه بكسوة الكعبة مع خواصه، كما كانت خلع الخليفة شعار السواد العباسي ترسل من بغداد إلى خطيب الحرم المكي، شأنه شأن خطباء البلاد التابعة للخلافة العباسية على حد قول ابن جبير، وذلك كي يلبسها عند صعوده للخطبة الجامعة.
1- صلاح الدين الأيوبي خادم الحرمين الشريفين:
ورث صلاح الدين عن أستاذه نور الدين زنكي السلطنة العامة، ورسالته في توحيد الجبهة الإسلامية لجهاد الصليبيين، عن طريق إحياء الخلافة العباسية، ونصرة الدعوة السنية ، وورث عن أستاذه أيضاً مهمة الحجاج وتأمين طريق الحج، فأمر في سنة "572ه" بإبطال الغفارة، التي كانت تؤخذ بجدة من المسافرين على طريق البحر الأحمر، وعوض صاحب مكة في كل سنة ثمانية آلاف أردب قمح تحمل إليه في البحر، ويحمل مثلها فتفرق في أهل المارستان بمكة، كما أوقف على الحجاج وعلى الحرمين الأوقاف، وذلك للصرف على مؤنتهم إبان أداء الفريضة، كما اقطع أمير مكة الإقطاعات بصعيد مصر وباليمن، وأيضاً أوقف على أمير المدينة الأمير جماز وأولاده أوقافاً بصعيد مصر، لم تذكرها المصادر الأيوبية وإن أكدتها وثائق المحكمة الشرعية المحفوظة اليوم بسجلات مصلحة الشهر العقاري؛ وقد شفع صلاح الدين ذلك برفع جميع المكوس، وهي ضرائب غير شرعية كانت تجبى من التجار عن الحجاج، فتسهل سبيل الحج بعد أن كاد ينقطع، ولم يعد في استطاعة الحجاج أداء فريضة الحج، وكل هذه الأيادي البيضاء التي أسداها صلاح الدين لحجاج بيت الله الحرام جعلت منه حامي حمى الحرمين الشريفين، وهو مظهر من مظاهر الزعامة السياسية في العالم الإسلامي كله.
وقد تأثر العالم الإسلامي بجهود صلاح الدين ولذلك عندما يذكر صلاح الدين بالدعاء على منابر الحرمين بعد الخليفة العباسي وأمير مكة، تخفف الألسنة بالتأمين عليه من كل مكان، وإذا أحب الله يوماً عبده ألقى عليه محبة الناس، وحق ذلك عليهم لما يبذله من جميل الاعتناء بهم، وحسن النظر لهم، ولما رفعه من وظائف المكوس عنهم، ويقول ابن جبير بعد ذكره لدعاء الخطيب لصلاح الدين: أنه ذو المآثر الشهيرة، والمناقب الشريفة، فإذا انتهى ذكره بالدعاء، ارتفعت أصوات الطائفتين بالتأمين، بألسنة تمدها القلوب الخالصة والنيات الصادقة ، وتخفق الألسنة بذلك خفقاً، يذيب القلوب خشوعاً، لما وهب الله لهذا السلطان العادل من الثناء الجميل، وألقى عليه من محبة الناس ، وعباد الله شهدائه في أرضه.
يقول ابن جبير : أعلمنا بأن كتابه "صلاح الدين" وصل إلى الأمير مكثر، وأهم فصوله: التوجيه بالحاج والتأكيد في مبرتهم وتأنيسهم، ورفع أيدي الاعتداء عنهم وإلإ يعاز في ذلك إلى الخدام والأتباع.
وقال: إنما نحن وأنتم متقلبون في بركة الحاج، فتأمل هذا المنزع الشريف والمقصد الكريم.
وإحسان الله يتضاعف إلى من أحسن إلى عباده واعتناؤه موصول لمن جعل همه الاعتناء بهم، والله عز وجل كفيل بجزاء المحسنين.
والواقع أن صلاح الدين لم يدخر وسعاً لاستمرار تأمين طريق الحج بحيث جعل هذا الأمر هجيراه، ودام على مكاتبة أمير مكة يوصيه برعاية الحجاج عند وصولهم إلى الحرم المكي، كما كاتب أمير برقة من قبله، يوصيه بحماية الحجاج المغاربة والأندلسيين المارين بولايته ، كما حرص على تبادل السفارات الودية مع أمير المدينة النبوية وتعظيم رسوله والاعتزاز بهداياه، لكونها من قبل أمير المدينة النبوية الشريفة. <