عبدالمجيد السامعي
مفردات اللغة العربية واسعة ومتشعبة ومن جملة المصطلحات أصبح لها حضور مميز ولافت في أدبيات الخطاب العربي المعاصر مصطلح "الحداثة"، هذا المصطلح يأتي مرادفاً لمعاني التطوير والتنوير والتحديد والمعاصرة، أو ما يقترب من هذه المدلولات والمعاني، أن الاتجاهات الثقافية والفكرية في منطقتنا العربية ربما تكون بعيدة عن أهم مكونات الذات الحضارية للأمة، وبسبب الفراغ والغربة عن الذات والجذور والأصول التي تحدد ملامح الهوية، إننا نقع أحياناً في أخطاء منهجية قاتلة قد تتعدد مضاهرها واستعمالاتها، كما تتعدد كذلك صورة إثارة في السلوك العام، ولكنه مع ذلك واحد عند التأمل.
هذا الخطأ هو ما يمكن أن نطلق عليه "الاقتطاع القديم والتاريخي للمفاهيم" فمعظم هؤلاء وبحكم مرجعياتهم الثقافية والعلمية والفكرية يلجؤون إلى التاريخ الغربي، فتجري بعض الأحداث أو يقتطعون منها مصطلحات وشواهد ومواقف ليتم توصيفها فيما بعد، أو نجعلها واجهات للصراع القاضي ومع الأيام ستغلب تلك المصطلحات والرموز والأحداث إلى تحديات تفهم في وجه المنابع الثقافية وأنسجتنا الثقافية والفكرية والسلوكية والحضارية وكأنها معيار ثابت للحكم على تجارب الآخرين، وقياس من جدوى المنجرات على الصعيد القيمي أو العلمي والثقافي، هذا الأمر حدث فعلاً مع مصطلح الحداثة، فمثلاً كانت الكنيسة في أوروبا قبل الثورة الفرنسية تقيد العقل والإبداع وتتحكم في ضمائر الناس واختياراتهم وأذواقهم الأمر الذي أدى بالعقول في الغرب إلى التمرد والانتفاضة ومن ثم الوقوف في وجه الظلم الذي أوجدته الكنيسة مانعة بذلك روح الإبداع والتغير والتطور أو أي فهم يخالف معتقداتها وتصوراتها الجامدة والمتخلفة، بل تصادمت تماماً مع كل ما هو معقول وتجارب العلم والمنطق السديد، وهكذا برزت الحداثة كإفراز موضوعي طبيعي لا غبار عليه يجسد انتصار العقل على الوهم والخرافة واحتكار الرأي والنظر والاجتهاد لتتحول مع الوقت ومع معية المنجزات العلمية التي تحققت في الواقع الماثل إلى منهج حياة وإلى نسق ثقافي وعلمي له مبرراته العلمية وخصوصياته الفكرية والعقلية وارتباطاته الذاتية والموضوعية، أما عندما نحن في الشرق فإن بعض الاتجاهات الفكرية اعتقدت في منعطف الارتطام بالفكر الغربي الواقع تحت طائلة التأثر والخضوع والركون، أنه لا مدخل لنا إلى التقدم ولا سبيل لنا لتحقيق التنمية الكاملة والنهوض والتغير إلا بانتهاج الطريق الذي سلكه العقل العربي، وتحقيق الانجازات ذاتها على جميع المستويات، وبالذات هذه الاتجاهات تروج لمصطلح الحداثة وكانت البداية عبر الأدب والفقه والنقد والتنظير لينتقل الحديث بعد ذلك إلى ضرورة وحتمية تحديث المجتمع عبر التعليم والمناهج والسلوكيات العامة.
غير أننا عندما نتأمل في رغبة أصحاب هذه الاتجاهات وتطلعاتهم وصيغاتهم الثقافية والكفرية المعلنة نجد أن مفهوم الحداثة الذي يؤمنون به ويتبنونه تنضيراً وعملاً في مختلف المجالات نجد سلخ هوية الأمة عن جذورها وتهوين صلتها بمنابع عقيدتها وثقافتها ومرجعياتها التاريخية والحضارية، وإحلال النموذج العربي في الحياة العامة وسلوكيات المجتمع التربوية والقيمية والمنهجية، وكأن السياق التاريخي والاجتماعي الذي ظهرت فيه مفاهيم الحداثة والتنوير هو تاريخ أمننا وليس تاريخ أوروبا وتاريخ الكنيسة، أي بمعنى أكثر وضوحاً كأنهم يقولون أن الإسلام يقف في وجه الإبداع والاجتهاد الحر والحقيقة هي أن الإسلام دين يقبل بالامتزاج الحضاري مع الآخر وفق المستجدات التي تمليها طبيعة الحياة وحيثيات المصالح بين الأمم والشعوب.