المؤلف/ علي محمد الصلابي
أولاً: القاضي الفاضل:
الإمام العلامة البليغ القاضي الفاضل
محي الدين، يمين المملكة، سيد الفصحاء، أبو علي عبدالرحيم بن علي بن الحسن العسقلاني، صاحب ديوان الإنشاء الصلاحي، ولد سنة "529ه"، يسمع في الكهولة من أبي الطاهرة السلفي، وأبي محمد العثماني، وأبي القاسم بن عساكر، وأبي الطاهر بن عوف، وعثمان بن فرج العبدري.
انتهت إلى القاضي الفاضل براعة الترسل وبلاغة الإنشاء، وله في ذلك الفن اليد البيضاء، والمعاني المبتكرة، والباع الأطول، لا يدرك شأوه، ولا يشق غباره، مع الكثرة.
أخذ الصنعة عن الموفق يوسف بن الخلال صاحب الإنشاء للعاضد، ثم خدم بالثغر مدة، ثم طلبه ولد الصالح بن رزيك واستخدمه في ديوان الإنشاء قال العماد: قضى سعيداً، ولم يبق عملاً صالحاً إلا قدمه، ولا عهداً في الجنة إلا أحكمه، ولا عقد بر إلا أبرمه، فإن صنائعه في الرقاب وأوقافه متجاوزة الحساب، لاسيما أوقافه لفكاك الأسرى، وأعان المالكية والشافعية بالمدرسة، والأيتام بالكتاب، كان للحقوق قاضياً، وفي الحقائق ماضياً، والسلطان له مطبع، ما افتتح الأقاليم إلا بأقاليد آرائه ومقاليد غناه وغنائه، وكنت من حسناته محسوباً، وإلى آلائه منسوباً، وكانت كتابته كتائب النصر، وبراعته رائعة الدهر، وبراعته بارية للبر، وعبارته نافثة في عقد السحر، وبلاغته للدولة مجملة وللمملكة مكملة، وللعصر الصلاحي على سائر الأعصار مفضلة، نسخ أساليب القدماء بما أقدمه في الأساليب، وأعربه من الإبداع، ما ألفيته كرر دعاء في مكاتبة، ولاردد لفظاً في مخاطبة.
وقال عنه في كتابه الخريدة: وقبل شروعي في أعيان مصر أقدم ذكر من جميع أفاضل العصر كالقطرة في بحره المولى القاضي الفاضل.
إلى أن قال: فهو كالشريعة المحمدية نسخت الشرائع، يخترع الأفكار، ويفترع الأبكار، هو ضابط الملك بآرائه، ورابط السلك بآلائه إن شاء، أنشأ في يوم مالو دون لكان لأهل الصناعة خير بضاعة، أين قس من فصاحته، وقيس في حصافته، ومن حاتم وعمرو في سماحته وحماسته، لا من في فعله، ولا مين في قوله، ذو الوفاء والمروءة والصفاء والفتوة، وهو من الأولياء الذين خصوا بالكرامة، لا يفتر مع ما يتولاه من نوافل صلاته.
وقال عنه الحافظ المنذري: ركن إليه السلطان ركوناً تاماً، وتقدم عنده كثيراً، وكان كثير البر، وله آثار جميلة.
وقال الموفق عبد اللطيف: القاضي الفاضل كان ذا غرام بالكتابة وبالكتب أيضاً، له الدين والعفاف والتقى، مواظب على أوراد الليل والصيام والتلاوة، لما تملك أسد الدين أحضره، فأعجب به، ثم استخلصه صلاح الدين لنفسه، وكان قليل اللذات، كثير الحسنات، دائم التهجد، يشتغل بالتفسير والأدب، وكان قليل النحو، لكنه له دربة قوية، كتب من الإنشاء ما لم يكتبه أحد، أعرف عند ابن سناء الملك من إنشائه اثنين وعشرين مجلداً، وعند ابن القطان عشرين مجلداًَ، وكان متقللا في مطعمه ومنكحه وملبسه، لباسه البياض، ويركب معه غلام وركابي، ولا يمكن أحد أن يصحبه، ويكثر تشييع الجنائز، وعيادة المرضى، وله معروف معروف في السر والعلانية، ضعيف البنية، ورقيق الصورة ، له حدبة يغطيها الطيلسان، وكان فيه سوء خلق يكمد به نفسه ولا يضر أحداً به، ولأصحاب العلم عنده نفاق ، يحسن إليهم، ولم يكن له انتقام من أعدائه إلا بالإحسان أو الإعراض عنهم، وكان دخله ومعلومه في العام نحوا من خمسين ألف دينار سوى متاجر الهند والمغرب، توفي مسكوتاً، أحوج ما كان إلى الموت عند تولي الإقبال، وإقبال الإدبار، وهذا يدل على أن لله به عناية، وقال عنه أبو شامة: كان ذا رأي سديد وعقل رشيد، معظماً عند السلطان صلاح الدين، يأخذ برأيه ويستشيره في الملمات، والسلطان له مطيع وما فتح السلطان الأقاليم إلا بأقاليد آرائه، وكانت كتابته كتائب النصر، وقد تولى القاضي الفاضل وساهم في أعمال كثيرة في عهد صلاح الدين والتي منها:
1- رئاسة ديوان الإنشاء:
عندما كان صلاح الدين وزيراً للدولة الفاطمية في مصر كان يعتبر بمنزلة السلطان ويلقب بلقبه، بينما كان القاضي الفاضل، رئيساً لديوان الإنشاء ويعتبر بمثابة وزيره، ظل القاضي الفاضل يعمل في يوان الإنشاء رئيساً له، مع أنه حافظ على لقب نائب رئيس ديوان الإنشاء احتراماً لأستاذه وراعيه ورئيسه الشيخ الموفق أبي الحجاج يوسف بن الخلال.
ولم يشعر ابن الخلال يوماً بأنه حل محله، مع أن ابن الخلال ربما رغب في ذلك لتقديره للقاضي الفاضل وتعلقه به، وتطلعه إلى الاستمرارية في الأسلوب والآراء.
ولم يخب ظنه في تلميذه الذي عامله في اواخر سني حياته معاملة الابن البار للوالد.
وكانت رئاسة ديوان الإنشاء أقصى ما تمناه القاضي الفاضل من مناصب، فبعد صراع دام واحداً وعشرين عاماً في مصر تعرض خلالها لشتى أنواع المعاناة، توصل إلى المنصب الذي كان بعض الكتاب المصريين يحاول الحيلولة دونه.
وقد أصبح بعدما تولى المنصب يلقب بالسيد الأجل وبالشيخ الأجل، كاتب الدست الشريف، وصاحب ديوان الإنشاء، وغلب عليه لقب القاضي الفاضل، الذي أصبح يعرف به أكثر من اسمه الأصلي عبدالرحيم البيساني العسقلاني، الذي يشير إلى موطنه، ومسقط رأسه، ولاسيما في الكتابات عنه، وهو وإن تقبل اللقب شكلياً ورسمياً، فقد تبنى الصراع المستمد من موطنه ومسقط رأسه.
وتولى القاضي الفاضل ديوان الإنشاء في مصر، وعلى الرغم من وجود كتاب أكبر منه سناً قابلهم عند أول دخوله الديوان تلميذاً، وتدرب على يد بعضهم، مثل القاضي الأثير بن بيان، وعاصرهم، ثم عمل معهم وهو يقفز في ترفعه وهم ثابتون في أماكنهم، وذكاءه الحاد، وحدسه الشديد في معرفة مواطن القوة والضعف في القادة، من العوامل التي أدت إلى ارتقائه السريع، ولكن أسلوبه الفني فسح أمامه مجالات وآفاقاً وهذا يدل على أهمية الأدب في السياسة، وعلى تقدير رجالات الدولة في ذلك العصر للأدب والأدباء ، رعايتهم لذوي المواهب منهم وحالما تولى القاضي الفاضل رئاسة ديوان الإنشاء، راح يعمل مع صلاح الدين على الإعداد المتدرج للقضاء على الدولة الفاطمية، وكانت أولى الخطوات في هذا الاتجاه إعداد جيش أيوبي ينفذ به مخطط الانقلاب.
2- القاضي الفاضل وجيش صلاح الدين:
أخذ صلاح الدين يعمل حال تولي الوزارة على إعداد جيش أيوبي ليكون نواة لجيش مصري جديد يدافع به عن مصر من الغزو الإفرنجي، ولم يخف عليه تدهور وضع الجيش الفاطمي، لأنه خبره في أثناء رحلاته الثلاث إلى مصر بين سنة "559ه" وسنة "564ه" وعرفه معرفة جيدة من حيث مصادر البشرية والمالية والحربية ومن حيث تنظيمه وفرقه المبنية على أساس عرقي، مثل السودان والأرمن والمصريين والديلم والأتراك والعربان، وكان يعرف بالتفصيل وضع كل فرقة من هذه الفرق، وكان القاضي الفاضل قد عمل في إدارة هذه القوات في عهد رزيك بن الصالح وساهم معها في بعض وقائعها الحربية خلال الحملة الفرنجية الشامية الثانية على مصر، وشاهد قادة الفرق المختلفة من هذه القوات وهم يتنافسون في شأن السلطة، الأمر الذي أنهك القوات وأضعف مصر إلى حد أصبحت تعجز معه عن الدفاع عن استقلالها، أو حتى عن بقائها، وعرف القاضي الفاضل الكثير من القوات المصرية عن طريق عمله معها في ديوان الجيش وفي ديوان الإنشاء الذي كان يتعامل مع ديوان الجيش ويشرف على العيون والرسل؛ فألم بهذه القوات ، وعرف دخائلها واطلع على كل فرقة منها، جيشه الأيوبي وإدارته، وظل طوال مدة عمله مع صلاح الدين يشرف على عساكره، يراقب إعدادها وتنظيمها ومواردها المالية، يصحبها من مصر إلى الشام لتحارب مع صلاح الدين، ومن الشام إلى مصر لتستعد وتتجهز لحملات مقبلة ضد الفرنج، ومع أن القاضي الفاضل كان رئيساً لديوان الإنشاء ووزيراً لدولة صلاح الدين، إلا أنه كان يلم بكل صغيرة وكبيرة في الجيش بحكم علاقة ديوان الإنشاء بديوان الجيش، وكان يساهم في إعداد الخطط الحربية،ويشرف على تمويل الجيش والأسطول وتزويدهما، وتجهيزهما للجهاد، وقد واظب على هذه المسؤوليات طوال مدة عمله مع صلاح الدين.
3- القاضي الفاضل والقضاء على المعارضة الفاطمية:
استمد القاضي الفاضل أسس تحركاته السياسية في بداية وزارة صلاح الدين من خبرته في القصور الفاطمية، وضمن الجيوش، ومع الوزراء والمديرين.
وأدرك أن هذه المؤسسات وما تضمه من شخصيات وكر للمؤامرات التي لا تنتهي ، ومعين للدسائس التي لا تنضب، وقد تعامل معها جميعاً وشاهدها من قبل، وأيقن أيضاً أنها لن تتوانى عن استنجاد بالفرنج على الرغم من كل ما مربها وبالشعب المصري من مصائب ومحن، في سبيل الحفاظ على نفوذها، ولاسيما إذا رأت في سلطة صلاح الدين، أو في سلطة الأيوبيين عامة، خطراً عليها، ومن ثم فإنه أخذ - حالما خوله صلاح الدين ما خوله من مسؤوليات مطلقة في الإدارة يبث عيونه صمن هذه المؤسسات والمجموعات والأفراد الذين عرفهم وخاف شرهم.
وأما المؤسسات والمجمومات هذه فقد أخذت تخطط بدورها للقضاء على حكم صلاح الدين، وقد نزع مؤتمن الخلافة تلك المجموعات، وبدأ تحركاته مذ تولى صلاح الدين.
وقد كان اكتشاف المؤامرة من مسؤوليات ديوان الإنشاء، وبالذات القاضي الفاضل الذي ظل يراقب كتاب ديوان الإنشاء، والمسرحين منهم بصورة خاصة، وقد ساهمت جهود القاضي الفاضل في كشف مؤامرة مؤتمن الخلافة وتم القضاء على شوكته وفل صلاح الدين شوكة الأرمن، وهم الفرقة التالية للسودان قوة وعدداً، فأحرق داراً للأرمن بين القصرين وفيها عدد كبير من الجنود الأرمن، معظمهم من الرماة ولهم رواتب من الحكومة، وكان هؤلاء قد حاولوا أن يعرقلوا حركة قوات صلاح الدين أثناء المعركة مع السودان برميهم بالنشاب فلقوا جزاءهم، وأما من تبقى منهم فنفاهم صلاح الدين إلى الصعيد.
ولقد تم إضعاف شوكة الفاطميين، بل كسرها، خلال الأشهر الخمسة الأولى من وزارة صلاح الدين، ثم تلاها عامان تم خلالهما تغيير النظام الإداري المصري وتحويله إلى نظام أيوبي جديد سني، ولقد ساهم القاضي الفاضل في هذا التغيير الذي مهد لحكم صلاح الدين المطلق في مصر، وتوليته هو "القاضي الفاضل" وزارة صلاح الدين، والقضاء على الخلافة الفاطمية. <