المؤلف/ علي محمد الصلابي
6- القاضي الفاضل والقضاء على الدولة الفاطمية:
لقد أشار المؤرخ المصري المقريزي إلى الدور الذي قام به القاضي الفاضل في الانقلاب على الفاطميين بقوله: واستعان صلاح الدين به "أي بالقاضي الفاضل" على ما أراد من إزالة الدولة الفاطمية حتى تم مراده، فجعله وزيره ومستشاره.
وإن كلمة استعان تشير إلى دور القاضي الفاضل في تنفيذ مخطط صلاح الدين في القضاء على الدولة الفاطمية، كما أن اختيار صلاح الدين القاضي الفاضل وزيراً ما هو إلا تعبير عن تقدير صلاح الدين لدور القاضي الفاضل في المخطط الخطير، وفي تأسيس قواعد الدولة الأيوبية التي سبقت هذا المخطط، وهذا الاختيار يشير أيضاً إلى اعتراف واضح من صلاح الدين بدور القاضي الفاضل في إطاحة الفاطميين، وبأهمية القاضي الفاضل لخطط صلاح الدين المستقبلية، ولقد ظل صلاح الدين يجني ثمرة اختياره القاضي الفاضل وزيراً له حتى وفاته، ولقد كانت أعمال القاضي الفاضل في الإدارة المصرية منذ عهد أسد الدين، وأقواله في كتاباته في عهد صلاح الدين تشير إلى دوره الكبير في دعم الوجود السني في مصر، ولقد سعى من خلال مخطط سني واسع للقضاء على عوامل الانقسام الديني في العالم الإسلامي وحماية مصر من الدين وسارع إلى تحقيقها، فقد رأى في صلاح الدين مثالاً للقائد القادر على أن ينقذ مصر من الخطر الفرنجي من ناحية، وأن يقدم لأمته الكثير - ولذلك منح صلاح الدين مصادره الوافرة من معلومات وتجربة وإدارة وأدب وشعر، واسس بمساعدته والتعاون معه شيئاً من الاستقرار الداخلي لمصر، بعد كل ما دهاها ودهى شعبها من محن ومصائب ، وادرك صلاح الدين أن القاضي الفاضل إنسان عظيم عقلاً وعلماً ومكانة وفي إمكانه أن يوصله إلى أهدافه في مصر من خلال مصادره الوافرة، وهكذا تضافر الرجلان على تحقيق غاية كبرى أحسَا بها، كل في ميدانه، وعملاً على تحقيقها.
لقد كان القاضي الفاضل سياسياً ورجل دولة عظيماً، جمع بين واقعه السياسي ومرونته ودهائه، وبين هدف كبير نذر نفسه له وصبر مع الأيام لتحقيقه، واستنشق رياح التاريخ حين هبت، واعتقد أن طريق الإسلام هو طريق أهل السنة، وكل طريق غيره لا يوصل إلا إلى الخلاف وتبديد الإيمان والقوى، وما غابت أرض فلسطين عن باله، وعندما لاحت فرصة استعادتها، وأيقن بصدق صلاح الدين في الجهاد من أجلها، اشتدت عزيمته وشدت رحاله، ولئن أوصله اختياره إلى سدة عالية، فأصبح في دولة صلاح الدين وزير الدولة والرجل الثاني فيها، فإنه حقق بذلك كل ما يطمح رجل السياسة إليه من نجاح أهدافه وقضيته، بمساهمته في التخطيط والعمل، كما حقق نجاحه هو وعلو أمره، وتلك مطابقة تشهد له بالمواهب العريضة والدهاء الفائق.
كان القاضي الفاضل المتحدث الرسمي بلسان السلطان صلاح الدين في الداخل والخارج، وكان على حد قول ابن كثير: أعز من أهله وولده، وكان السلطان يشيد بفضله فيقول: لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم بل بقلم الفاضل، وقد بلغ القاضي الفاضل مكانة سامية في الدولة، فكان الساعد الأيمن لصلاح الدين، إذ جعله: وزيره، ومشيره بحيث كان لا يصدر أمراً إلا عن مشورته، ولا ينفذ شيئاً إلا عن رأيه، ولا يحكم في قضيته إلا بتدبيره.
إن هذا العالم الرباني يعلمنا دروساً مهمة منها: عدم الانعزال عن الشأن العام والعمل الاجتماعي والحكومي، والحرص على كسب الخبرات وأهمية التميز في أداء العمل والتمسك بمنهج أهل السنة والتعاون مع إخوانه في العقيدة الصحيحة، وتوظيف القدرات والإمكانات لخدمة المشروع السني، وقدم لصلاح الدين النماذج السنية القيادية والخطط العملية ولم يبخل عليه برأي ولا مشوره ولا تجربة، كما أن حياة هذا الرجل مدرسة في فهم مقاصد الشريعة وفقه المصالح والمفاسد، وبناء الدول وزوالها، كما نتعلم منه وهو الرجل المفكر والمفتي الكبير في دولة صلاح الدين، أهمية معاملة عامة الشيعة بقوانين العدل ومحبة الخير لهم وعدم سفك دمائهم والحرص على تعليمهم، وإنما يكون استخدام القوة ضد المؤامرات والتكتلات العسكرية ومع من لا يجدي معهم إلا استخدام القوة.
7- القاضي الفاضل والجهاد:
صحب القاضي الفاضل صلاح الدين في جميع غزواته ببلاد الشام، ثم أقام بمصر ليشرف على الإدارة المالية ويعمل على تجهيز الجيش والأسطول، وبعدئذ عاد إلى بلاد الشام بجوار صلاح الدين وظل بالقرب منه حتى مرضه الأخير ووفاته مع القاضي ابن شداد سنة "589ه/1193م" وهناك مواقف حاسمة للقاضي الفاضل تؤكد مكانته وعلو منزلته في الدولة الصلاحية، فعندما كان السلطان صلاح الدين مقيماً على مرج الصفر في بلاد الشام عام "571ه/1176م" طلب الصليبيون الهدنة منه فأجابهم إلى ذلك مضطراً "لأن الشام كان مجدياً" ثم أرسل جيشه في صحبة القاضي الفاضل إلى الديار المصرية، حتى يستريح أفراد الجيش بها من ناحية ولخوفه من حدوث أي اضطرابات في مصر أثناء غيابه عنها من ناحية أخرى، ولذلك كان إرساله للجيش بصحبة القاضي الفاضل: غاية الحزم والتدبير، ليحفظ ما استجد من الممالك خوفاً عليه ممن هنالك، وإلى جانب ذلك كان القاضي الفاضل دائماً يلازم السلطان صلاح الدين في جهاده، ولعل ما يؤكد ذلك تلك الرسالة التي بعث بها إلى السلطان صلاح الدين يعتذر فيها عن عدم مشاركته في الجهاد ضد الصليبيين على حارم سنة "573ه/1177م" لرغبته في أداء فريضة الحج، فيقول ابن واصل: وتخلف القاضي الفاضل بمصر بنية الحج في السنة القابلة، ووصل منه كتاب إلى السلطان يذكر فيه: وأما تأسف المولى على أوقات تنقضي عاطلة من الفريضة التي خرج من بيته لأجلها، وتجدد العوائق التي لا يوصل إلى آخرها حبلها، فللمولى نية راشدة، أو ليس الله بعالم بعبده، وهو سبحانه لا يسأل الفاعل عن تمام فعله؛ لأنه غير مقدور له، ولكن عن النية لأنها محل تكليف الطاعة وعن مقدور الطرق إلى المراد، وهو في طاعة قد من الله عليه بطول أمدها، وهو منه على أمل في نجاح موعدها، والصواب على قدر مشقته، وإنما عظم الحج لأجل جهده وبعد شقته، ولو أن المولى فتح الفتوح العظام في أول الأيام، وفصل القضية بين أهل الشرك وأهل الإسلام، لكانت تكاليف الجهاد قد قضيت وصحائف البر المكتسبة بالمرابطة والانتظار قد طويت.
8- القاضي الفاضل والأديب:
برز القاضي في عصره كأديب، ونسبت إليه مدرسة نثرية عرفت بمدرسة القاضي الفاضل في النثر، خلدته بين الأدباء، وكإداري قدير، وضعته إدارته في صف الوزراء النابغين، وكإنسان كرس حياته لخدمة الشعوب التي احتك بها، وفي الجهاد لتحرير مناطق إسلامية اغتصبتها شعوب غريبة قسراً، وقد أجاد القيام بأدواره العديدة كل الإجادة، حتى أن المؤرخين اعتبروه نموذجاً للإنسان المثالي في عصره، ويقف الكثيرون في حيرة أمام أسلوب القاضي الفاضل، وأن صعب على البعض فهمه، فهو يدل على ثقافة واسعة واطلاع دقيق على الأدب، والحديث والفقه وغيرها من العلوم، وعلى فهم عميق للقرآن، فالقاضي الفاضل كان يملك أكبر مكتبة في عصره، تغنى المؤرخون بها وأشادوا بمحتواها، كما ذكروا أن فيها بلغ المئة ألف، فكيف يوصف إنسان أو عصره بانحطاط التعبير؟ وهذا الإنسان لم يكن إدارياً أو سياسياً فحسب، بل كان أيضاً أستاذاً كبيراً من أساتذة عصره، أمضى فترة تقاعده في التدريس وتثقيف الأجيال المقبلة، يمثل أسلوب القاضي طريقة ثالثة في التعبير اختصت اللغة العربية بها إلى جانب الطريقتين الشائعتين في الآداب الأخرى، وهما الشعر والنثر المرسل، لكن التعبير الأدبي العربي يحتوي على ثلاثة نماذج: أولها وأقدمها النموذج الشعري الذي تصل منابعه إلى الشعر الجاهلي ويمتد تدفقه إلى عصرنا الحالي، والأسلوب الثاني أسلوب النثر المرسل، وهو الذي كتبت به كتب التاريخ والفلسفة والفقه والأصول والتفسير والعلوم، وغيرها مما أبدعه العقل العربي والإسلامي، وأما الأسلوب الثالث فهو أسلوب النثر الفني ونجد في هذا الباب: أدب المقامات، وأدب الرسائل الذي يعود إلى بداية التغيير الأدبي النثري متمثلاً في عبدالحميد الكاتب، وكان هذا الأسلوب في عصر القاضي الفاضل وأمثاله من أبناء عصره هو الأسلوب المقبول في التعبير لا من ناحية بلاغته فحسب، بل من ناحية تأثيره أيضاً، فالرسائل التي كتبها القاضي الفاضل وأمثاله من أبناء عصره كانت بيانات سياسية واجتماعية، ومقامات تحمل مختلف المعاني، ومما ينفي عن هذه الرسائل أية شبهة بالنسبة إلى مستوى الأسلوب والتعبير اللغوي، ما تحتويه في صلبها من إشارات إلى الأدب والحكم والأمثال والأحاديث الشريفة، واقتباس من كتاب الله، فضلاً عن الصور التي تستخدمها لتواكب الأحداث.
9- دعوته إلى الوحدة بعد وفاة صلاح الدين:
ظل القاضي الفاضل محافظاً على مكانته المعنوية في البلاد بعد وفاة صلاح الدين، فاهتم العزيز عثمان ملك مصر بأمره وأكرمه، واتخذ منه ناصحاً ومشيراً، إلا أن القاضي الفاضل لم يظهر تهافتاً أو اندفاعاً إلى التدخل في أمور الدولة، فقد أثر الانعزال عن العالم السياسي وتكريس الأعوام الباقية من حياته لمدرسته الفاضلية، ولا شك في أن اعتزاله السياسة في هذه الفترة يعود إلى أسباب عدة منها: أنه فقد بوفاة صلاح الدين الرجل الذي فيه وضع كل آماله وتوصل في عهده إلى مركز عالٍ لم يكن غيره يحلم بالوصول إليه في عهده، كما كرس قسماً كبيراً من حياته في نصحه وإرشاده ووهبه كل ما في وسعه من محبة وإخلاص، حتى أصبح لا يطيق الابتعاد عنه في حياته، فكيف بعد موته؟ وافتقاده صلاح الدين وبأسه من الحياة بعد موته ظاهران في عدد من رسائله التي أشار فيها إلى أمنيته بلقاء صلاح الدين في الآخرة "وما بايعنا الدنيا على أنا خالدون فيها مع الأحبة ولا أن الموت غير زائرنا وأن أطال الغياب، والأحبة الراحلون عنا، إن اشتقنا إليهم فإن الأيام مراحلنا التي تدنينا منهم، والأنفاس خطواتنا التي تخطو بنا نحوهم، فنحن في كل يوم سائرون إليهم، وفي كل يوم قادمون إليهم، فكيف لا ينقص الحزن بمقدار ما ينقص من المسافة"، ولم يترك مناسبة تمر من دون ذكر صلاح الدين، فقد كان إذا رأى معارفه تذكره، وإذا رأى الناس من حوله وردت صورته لخاطره، ذكر لعماد الدين في إحدى رسائله قوله: ولسلوة الأيام موعد هو الحشر، وأن ليلة لقائه هي ليلة القدر، ولقد حيي فطابت الحياة، وتوفاه الله فطابت الوفاة وإن امرءاً يحسن به الظن وهما ما هما، ومولى يطيب به الطوران، والحياة بالطيب أولاهما، لمعزوره فيه القلوب إذا خضعت تحت وطأة الخفقان، والجفون إذا أمردت عليها مؤرة الهملان. <