;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة الستون 794

2008-11-04 03:22:47

المؤلف/ علي محمد الصلابي

* نزوح عدد كبير من علماء صقلية المسلمين إلى الإسكندرية بعد أن احتل النورمان جزيرتهم في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري ونزوح عدد آخر من علماء الأندلس على إثر الهزات السياسية المتلاحقة التي أصيبت بها بعض المدن الأندلسية، مما دفع الكثيرين من العلماء إلى الهجرة وطلب الأمن، كما فعل الفقيه المالكي المشهور أبو بكر الطرطوشي وغيره.

* تمتع أهل الإسكندرية بحرية الاعتقاد الديني - إذا قورنوا بأهل القاهرة - رغم انضوائهم رسمياً تحت نفوذ الخلافة الفاطمية الشيعية، فقد كانوا سنيين على مذهب الإمام مالك، وهذه الحرية النسبية جعلت الوافدين إلى مصر يتوجهون إلى الإسكندرية - بدلاً من القاهرة - للإقامة فيها بعيدين عن ضغوط المذهب الفاطمي الشيعي الذي يتنافى مع اعتقادهم السني، هذه الأسباب وغيرها رغبت الحافظ السلفي في البداية في أن يقيم في الإسكندرية، ثم ما لبث أن رسخت فيها قدمه، وتقدمت به سنه، وأخيراً تزوج - وقد قارب الستين عاماً - من "ست الأهل" الإسكندرانية، فثقل بذلك حمله، ثم ألقى عصا الترحال بعد ذلك نهائياً عندما بنى له والي الإسكندرية العادل ابن السلار " مدرسته العادلية" وعهد إليه بالإشراف عليها والتدريس فيها ، فاستقر به المقام وطاب له الحال، ولم يبرح تلك المدينة التي أحبها إلى أن توفاه الله تعالى.

2- نشاطه العلمي ومدرسته:

بدأ الحافظ السلفي تدريسه للحديث منذ وصل إليها سنة "511ه" حتى إذا ما توفي - محدث الإسكندرية آنذاك - الشيخ أبو عبدالله الرازي المعروف بابن الخطاب سنة "525ه"، جلس مكانه وأصبح بذلك شيخ الإسكندرية ومحدثها المتفرد دون منازع، ثم أخذت شهرته وسمعته تتزايد يوماً بعد يوم، وراح حجاج الأندلس يتناقلون أخباره في كل مكان نزلوا به، فتسامع به طلاب الحديث في مصر وخارجها، فشدوا إليه الرحال، وتوافدوا على الإسكندرية من كل حدب وصوب ليلتقوا بمحدثها الكبير وحافظها المتقن، فنشطت بذلك دراسة الحديث وروايته فيها، وأصبحت لها مكانتها المرموقة في هذا الميدان من الدراسة، يقول: والإسكندية تبع لمصر، ما زال بها الحديث قليلاً حتى سكنها " السلفي" فصارت مرحولاً إليها في الحديث والقراءات.

3- المدرسة العادلية " السلفية":

ظل السلفي يلقي دروسه في المسجد حيناً وفي منزله حيناً آخر، زهاء ربع قرن إلى أن ولي المدينة أبو الحسن علي بن السلار الملقب بالملك العادل فاحتفل به وزاد في إكرامه وبنى له مدرسة سميت "المدرسة العادلية" نسبة إلى منشئها " العادل" ثم عرفت بعد ذلك بالمدرسة السلفية نسبة إلى مدرسها السلفي، وقد بين الدكتور/ جمال الدين الشيال في كتابه أعلام الإسكندرية ، أنها أنشئت في سنة "544ه"، وكذلك ذكر الدكتور حسن عبدالحميد صالح بأن المدرسة بنيت سنة "544ه"، وقد أشارت المصادر التاريخية إلى أن ابن السلار كان سنياً من أصل كردي، وأنه أظهر اعتنافه لعقيدة أهل السنة أثناء ولايته لثغر الإسكندرية ، ثم أخذ يراسل نور الدين محمود حاكم حلب طمعاً في مساندته ضد السلطة الفاطمية، فتوطدت بينهما صداقة وود، وأمده بالعون المادي لأن ابن السلار كان سنياً مثله ولأن نور الدين كان يطمع أن يفتح مصر أيضاً، وربما أشار نور الدين محمود على ابن السلار في مراسلتهما أن يطبق نفس التجربة التي طبقت في سوريا بشأن تقويض المذهب الفاطمي الشيعي والقضاء عليه عن طريق بناء المدارس، فبنى ابن السلار هذه المدرسة، ووكل رعايتها والتدريس فيها إلى محدث الإسكندرية السني الحافظ "السلفي"، وكان طبيعياً أن يكون هذا كله أثناء ولاية ابن السلار على الإسكندرية وقبل أن يستولي على الوزارة في 15 شعبان سنة "544ه" وقد تخوف الخليفة الفاطمي "الظافر" وأحس بخطورة ابن السلار وآثار مدرسته السنية واستقطاب أهل السنة حوله فتخوف منه وأخذ يكيد له، وعهد بالوزارة إلى نجم الدين ابن مصال الوزير الشيعي، الذي ينحدر من أصل مغربي، فأغضب ذلك ابن السلار الرجل السني، فجمع أنصاره من أهل الإسكندرية السنيين وسار بهم إلى القاهرة، فد خلها بعد أن هزم ابن مصال عند الجزيرة في 14 رمضان سنة "544ه"، وقد لا نكون مغالين إذا قلنا إن السبب الحقيقي للخلاف بين ابن السلار وبين ابن مصال إنما هو نزاع بين عقيدة أهل السنة التي يساند الدعوة إليها نور الدين محمود، وبين المذهب الفاطمي الشيعي الذي يمثله الخليفة الفاطمي.

لقد كان لإنشاء هذه المدرسة فرحة عظيمة في نفوس أهل الإسكندرية واعتبروا بناءها هدية كبيرة من واليهم ابن السلار ومن واجبهم أن يشكروه عليها، فانبرى شعراؤهم يمد حونه ويثنون عليه، ويعبرون له عما في نفوسهم من الغبطة والابتهاج.

وقد تولى الحافظ" السلفي" الإشراف على هذه المدرسة ، فجعل منها مركز إشعاع لإعادة أهل مصر لعقيدة أهل السنة، ومنتدى لأهل الفكر والثقافة، فكان يلتقي فيها علماء الحديث وطلابه، ورجال الفقه والقراءات والأدباء والشعراء ورجال التاريخ وأصحاب الحكايات، فنمت وازدهرت وكثر روادها والمتأثرون بما يلقى من دروس، وما يعقد فيها من لقاءات وندوات ومحاضرات، وقد تجلى تأثيرها واضحاً في أهل الإسكندرية بالذات من موقفين واضحين: أولهما: يوم خرجوا مع واليهم ابن السلار للاستيلاء على الوزارة في القاهرة، وثانيهما: يوم وقفوا يحاربون مع صلاح الدين ويناصرونه ضد الوزير الفاطمي "شاور" وحلفائه الصليبيين فلم يخذلوه أو يتخلوا عنه رغم الحصار الشديد الذي فرض عليهم ثلاثة أشهر، بل حاربوا معه جنباً إلى جنب وبذلوا له كل ما يملكون من قوة ومال ورجال، إلى أن فك شاور والصليبيون الحصار، وقد احتفظ صلاح الدين الأيوبي لأهل الإسكندرية بهذا الجميل، فلما أزال الدولة الفاطمية وأقام على أنقاضها دولته الأيوبية، أولى الإسكندرية اهتماماً خاصاً ورعاية كبيرة وذلك لأهمية موقعها الإستراتيجي في الدفاع عن مصر من ناحية ، ولما كان لأهل الإسكندرية من مكانة طيبة عنده لما ساندوه في وقفتهم البطولية حين حاصره "شاور" في مدينتهم سنة "562ه"، فوقفوا يذودون عنه ويقدمون له كل ما يملكون من رجال ومال وسلاح، ولهذا ليس بمستغرب أن نرى صلاح الدين يأمر منذ اللحظة الأولى لتوليه سلطنة مصر بإصلاح سور الإسكندرية وتحصين أبراجها وقلاعها وإقامة بعض المنشآت فيها.

وليس هذا فحسب بل نراه يسافر بنفسه في سنة "572ه" إلى الإسكندرية ليشاهدها ويرتب قواعدها، وأمر بعمارة أسوارها وأبراجها، في هذه الزيارة تفقد صلاح الدين الأسطول الحربي، ورأى ما آل إليه من خراب وإهمال فأمر بتجديده وتعميره، وبناء سفن جديدة تضاف إليه، وأفرد له ميزانية خاصة، وأنشأ له ديواناً خاصاً، وعين له قائد سماه "صاحب الأسطول"، وظلت الإسكندرية محل رعاية صلاح الدين وعنايته، يوصي بالإنشاءات فيها ويتفقد أحوالها ويتابع الاهتمام بها إلى أن وافته الفرصة لزيارتها مرة ثانية في سنة "577ه"، فزارها ووقف بنفسه على ما تم فيها من إصلاحات وتفقد المنشآت التي أمر ببنائها، وأمر بسرعة إنجازه، يقول العماد الأصفهاني في وصف هذه الزيارة: وتوجه السلطان بعد شهر رمضان سنة "577ه" إلى الإسكندرية على طريق البحيرة، وخيم عند السواري، وشاهد الأسوار التي جددها والعمارات التي مهدها وأمر بالإتمام والاهتمام.

وفي هذه الزيارة حظيت الإسكندرية من صلاح الدين بتأسيس كثير من المنشآت العمرانية والمرافق العامة، فأنشأ فيها مدرسة كبيراً للطلاب الغرباء، يتعلمون فيها مختلف العلوم والآداب، وبنى لهم داراً يقيمون فيها وحمامات يستحمون فيها، ومارستاناً يعالجون فيه بالمجان ويشرف عليه أطباء متفرغون، ثم تتابع بناء المدارس في الإسكندرية في عهد صلاح الدين تتابعاً سريعاً، وفقاً لسياسته العامة في الإكثار من تشييد المدارس كوسيلة فكرية للقضاء على الفكر الفاطمي الشيعي، وقد كثر عدد المدارس في سنوات قليلة، كثرة لفتت أنظار المؤرخين الذين زاروا الإسكندرية وكتبوا عنها، يقول ابن خزيمة الذي زار الإسكندرية سنة "561ه - 1164م" وأقام فيها وكتب وصفاً لها: وبها مائة وثمانون مدرسة لطلب العلم بها، وأمر صلاح الدين في هذه الزيارة الثانية بإنشاء مسجده الجامع الكبير ونقل الخطبة إليه، بعد أن كانت تقام في عهد الفاطميين في مسجد العطارين أكبر مسجد في المدينة، ثم تبع ذلك بناء عدد كبير من المساجد بالإضافة إلى ما كان فيها من مساجد من قبل.

وقد بلغ عدد المساجد في هذه الفترة رقماً عالياً لفت أنظار المؤرخين الذين زاروا المدينة فأخذوا يقدرونها تقديرات مختلفة يصلون فيها أحياناً إلى حد المبالغة، وقد وصف ابن الجبير الذي زار الإسكندرية في سنة "578ه" - أي في زمن صلاح الدين - فيصف كثرة المساجد بها فيقول: وهي أكثر بلاد الله مساجداً حتى أن تقدير الناس لها يطفف، فمنهم المكثر والمقل، فالمكثر ينتهي في تقديره إلى أثني عشر ألف مسجد، والمقل دون ذلك لا ينضبط فمنهم من يقول ثمانية آلاف، ومنهم من يقول غير ذلك وبالجملة فهي كثيرة جداً تكون منها الأربعة والخمسة في موضع واحد، وربما كانت مركبة، ولكنها بأئمة مرتبين من قبل السلطان.

وظلت عناية الأيوبيين بتعمير الإسكندرية مستمرة بعد صلاح الدين على نفس السياسة حتى نهاية القرن السادس الهجري.

4- مميزات شخصية أبي الطاهر السلفي:

أ - جديته في الحياة:

كرس الحافظ السلفي حياته كلها للتدريس والمطالعة والكتابة وإلقاء المحاضرات دون أن يؤثر عنه ملل أو سأم، وكانت حياته كلها جادة صارمة كما وصفها تلميذه الحافظ عبدالقادر الرهاوي بقوله: وبلغني أن مدة مقامه بالإسكندرية ما خرج منها إلى بستان ولا فرجة سوى مرة واحدة بل كان لازماً مدرسته، وما كنا ندخل عليه إلا ونراه مطالعاً في شيء. . . وأنه ما رأى منارة الإسكندرية إلا من طاقة كانت في داره، ووصفه ابن العماد ايضاً بقوله: واستوطن "السلفي" الإسكندرية بضعاً وستين سنة مكباً على الاشتغال بالعلم والمطالعة وتحصيل الكتب. <

 

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2024-11-29 03:22:14

نوفمبر المتجدد

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد