المؤلف/ علي محمد الصلابي
9- السلفي الشاعر وعلاقته بالشعراء:
كان الحافظ السلفي - رحمه الله - شاعراً، ينظم الشعر ويتذوقه وينقده عن دربة ودراية وكان يحب الاستماع للشعراء والمنشدين، ويجزل العطاء لمن يمدحه، وكان يحب حفظ الشعر وروايته والاستشهاد به في مجالسه، وترديد ما كان يعجبه على مسامع جلاسه، فهو كثيراً ما كان يردد قول الشاعر:
قالوا نفوس الدار سكانها
وأنتم عندي نفوس النفوس
وقول الشاعر:
نحن نخشى الإله في كل كرب
ثم ننساه عند كشف الكروب
كيف نرجو استجابة لدعاء
قد سددنا طريقه بالذنوب
وقول الشاعر:
حل المشيب بعارضي ومفارقي
بئس القرين أراه غير مفارقي
رحل الشباب فقلت: قف لي ساعة
حتى أودع. قال: إنك لاحقي
وقال الشاعر:
منزلي منزل الكرام ونفسي
نفس حر ترى المذلة كفرا
وإذا ما قنعت بالقوت دهري
فلما أزور زيداً وعمرا
وكان يعجبه قول أبي إسحاق الشيرازي في الصديق الوفي:
سألت الناس عن خل وفي
فقالوا ما إلى هذا سبيل
تمسك إن ظفرت بود حر
فإن الحر في الدنيا قليل
وقد حفظت لنا بعض الكتب حكايات حدثت له مع بعض الشعراء، نروي منها هذه الحكاية، لما كان لها من أثر في تحريك عواطفه وإثارة مكامن الشوق والحنين لأهله وبلده أصبهان، يقول أبو محمد عبدالله بن محمد التجيبي الأندلسي المعروف بابن المليح: إن أبا الحجاج ابن الشيخ أنشد أبا الطاهر "السلفي" هذه الأبيات:
أياً من حل نور عيني
ويا من حاز كل علا وزين
أنا مذ صرت عبدك زدت فخراً
وزال بملككم نقصي وشيني
أتيتكم لأقرأ أو لأروي
فعدت لمنزلي صفر اليدين
قريح القلب لم أظفر بشيء
كأني لم أكن أهلاً لذين
يروح الناس عنك بكل خير
وأرجع لابساً خفي حنين
وما ذنبي سوى أني غريب
وقومي حيل بينهم وبيني
يقول أبو محمد ابن المليح: قال لي أبو الحجاج: لما وقف الشيخ أبو طاهر على هذه الأبيات وبلغ قولي:
وما ذنبي سوى أني غريب
وقومي حيل بينهم وبيني
تواجد وبكى، وصاح بأعلى صوته: "وقومي حيل بينهم وبيني" حنيناً إلى وطنه أصبهان، وشوقاً إلى ما خلف من القرابة والإخوان وأغشي عليه، فجعل طلبته يلومونني ويقولون لي: ما هذا الذي جنيت علينا اليوم؟ وأدخل الشيخ داره فلم يخرج إلا بعد أربعة أيام.
وكان يقرض الشعر ومما قاله:
إن علم الحديث علم رجال
تركوا الابتداع للاتباع
فإذا جن ليلهم كتبوه
وإذا أصبحوا غدوا للسماع
وقال معتزاً بما أكرمه الله به من معرفة بعلم الحديث:
إذا ذكرت بحار العلم يوماً
فقول المصطفى لا غير بحري
هو البحر المحيط وما عداه
فأنهار صغار منه تجري
ومدح الإمام الشافعي في قصيدة طويلة جاء فيها:
فعليك يا من رام دين محمد
بالشافعي وما أتاه وقالا
أعني محمد بن إدريس الذي
فاق البرية رتبة وكمالا
وعلا على النظراء طراً واغتدى
شمس الهدى والغير كان هلالا
وأبحث كذا عن صحبه وأحبهم
وأجلهم لله جل جلالا
وتجملن بهم وكن من حزبهم
فهم الجمال لئن أردت جمالا
ورد في هذه القصيدة على أصحاب التجسيم والمعطلة وتناول فيها مشاهير المذهب الشافعي واحداً إلى أن وصل إلى قوله:
وأعلم بأن أعزهم وأجلهم
شيخ الأنام سجية وفعالا
من لم يخف في الله لومة لائم
وبما رآه من الآذى ما بالا
ذاك ابن حنبل الإمام المقتدى
من فاق بين العالمين خصالا
10- وفاته:
في صباح يوم الجمعة وقيل ليلة الجمعة الخامس من ربيع الثاني سنة "576ه" غربت شمس حياة السلفي من الوجود وأقل نجمه من سماء الإسكندرية إلى الأبد، فانتهت بذلك حياة طويلة عامرة، دامت قرناً من الزمن، قضاها صاحبها في رحاب العلم والتدريس، والمطالعة والكتابة والتحصيل والإفادة، ولم يتوقف عن ذلك يوماً من الأيام ولم يمنعه مانع، وإنما ظل يتابع ويفيد حتى آخر أمسية من أمسيات حياته، وصلى عليه صاحبه أبو طاهر بن عوف، فقيه الإسكندرية المالكي بعد ظهر الجمعة بجامع عبدالله بن عمرو بن العاص، ودفن في مقبرة "وعلة" التي ذكرها ابن خلكان بقوله: وهي مقبرة داخل السور عند الباب الأخضر، فيها جماعة من الصالحين كالطرطوشي وغيره.
وقد زار قبره من المؤرخين الشهورين أبو شامة صاحب كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، وذكر ذلك في أحداث سنة "576ه" فقال: وفيها توفي الحافظ السلفي، وقد زرت قبره داخل الباب الأخضر.
إن الحافظ أبا الطاهر السلفي من علماء الأمة الكبار، وقد أكسب الإسكندرية بوجوده بها شهرة عالمية في علم الحديث والقراءات طول القرن السادس الهجري، وعلى أهل الإسكندرية أن يفتخروا بهذا العالم الجليل ويردوا له الجميل فيعرفوا الأجيال بمكانته أو يعيدوا للأذهان اسمه بإطلاقه على أحد المعاهد أو المدارس، أو أن ينشروا تراثه.
ثالثاً: أبو طاهر بن عوف الإسكندراني:
الشيخ الإمام، صدر الإسلام، شيخ المالكية، إسماعيل بن مكي بن إسماعيل بن عيسى بن عوف بن يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبدالملك بن حميد ابن صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، القرشي الزهري العوفي الإسكندري المالكي، من ذرية عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، ولد سنة خمس وثمانين وأربع مئة، وتفقه على الأستاذ أبي بكر الطرطوشي وبرع، وفاق الأقران، وتخرج به الأصحاب.
وروي عن الطرطوشي "الموطأ" وعن أبي عبدالله الرازي، وكان إمام عصره، وفريد دهره في الفقه، وعليه مدار الفتوى مع الورع والزهادة وكثرة العبادة، والتواضع التام، ونزاهة النفس، وقد شهد أبو الطاهر بن عوف نهاية الدولة الفاطمية الشيعية وقيام الدولة الأيوبية، وقد زار صلاح الدين الإسكندرية في سنة "577ه"، وحرص في هذه الزيارة أن يحضر هو وأولاده وكبار دولته دروس أبي الطاهر بن عوف، وسمعوا عليه جميعاً "موطأ مالك" بروايته عن أستاذه الطرطوشي، روى خبر هذه الزيارة وهذا السماع العماد الأصفهاني، فقد كان مصاحباً لصلاح الدين فيهما، قال: وتوجه السلطان بعد شهر رمضان "577ه" إلى الإسكندرية على طريق البحيرة وخيم عند السواري وشاهد الأسوار التي جددها والعمارات التي مهدها وأمر بالإتمام والاهتمام، وقال السلطان: نغتنم حياة الشيخ أبي طاهر بن عوف، فحضرنا عنده وسمعنا عليه موطأ مالك رضي الله عنه بروايته عن الطرطوشي في العشر الأخيرة من شوال، وتم له ولأولاده ولنا به السماع، واعتقد الجميع أن صلاح الدين قد حصل خيراً كثيراً بتتلمذه عن ابن عوف وسماعه منه، فقد أرسل القاضي الفاضل/ عبدالرحيم بن علي البيساني رسالة جميلة بليغة إلى صلاح الدين يهنئه فيها بهذا السماع ويقارن فيها بين رحلة صلاح الدين مع ولديه لسماع الموطأ على ابن عوف ورحلة هارون الرشيد مع ولديه لسماع نفس الكتاب على مؤلفه الإمام مالك، وفيما يلي نص الرسالة: أدام الله دولة المولى الملك الناصر، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، محيي دولة أمير المؤمنين، وأسعد برحلته للعلم وأثابه عليها، وأوصل ذخائر الخير إليه، وأوزع الخلق شكراً لنعمته فيه فإنها نعمة لا توصل إلى شكرها إلا بإيزاعه، وأودع قلبه نور اليقين فإنه مستقر لا يودع فيه إلا ما كان مستنداً إلى إيداعه، ولله في الله رحلتاه، وفي سبيل الله يوماه، وما منهما إلا أغر محجل.
والحمد لله الذي جعله ذا يومين: يوم يسفك دم المحابر تحت قلمه، ويوم يسفك دم الكافر تحت علمه، ففي الأول يطلب حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم فيجعل أثره عيناً لا تستر، وفي الثاني يحفل لنصرة شريعة هداه على الضلال فيجعل عينه أثراً لا يظهر، وقد استغرق الناس همم العلماء في رحلتهم لنقل الحديث وسماعه والموالاة في طلب ثقته وانتجاعه، وصنفوا في ذلك تصانيف قصدوا بها التحريض للهمم والتنبيه، والرفع من أقدار أهله والتنويه، فقالوا: رحل فلان لسماع مسند فلان وسار زيد إلى عمرو على بعد المكان، هذا وصاحب الرحلة قد نصب نفسه للعلم وشغل به دهره، ووقف عليه فكره، فلا يتجاذب عنان همته الكبائر، فما القول في ملك خواطره كأبوابه مطروقة وأمور خلق الله كأمور دينه به معذوقة، إذ هاجر إلى بقية الخير في أضيق أوقاته، وترك للعلم أشد ضروراته، ووهب له أياماً مع أنه في الغزاة يحاسب لها نفسه على لحظاته وساعاته، وما يحسب الملوك أن كاتب اليمين كتب لملك رحلة في طلب العلم إلا للرشيد هارون - رحمة الله عليه - على أنه خلط زيارة نبوية بطلب، ورحل بولديه إلى مالك - رحمة الله عليه - لسماع هذا الموطأ، الذي اتفقت الرشيدية والناصرية على الرغبة في سماعه، والرحلة لانتجاعه. <