المؤلف/ علي محمد الصلابي
وقد كان الرشيد سأل مالكاً رحمه الله أن يجعل له ولولديه: الأمين والمأمون مجلساً خاصاً لإسماع مصنفه، فقال له ما معناه: إنها سنة ابن عمك وغيرك من سترها، ومثلك من نشرها، فهذه رحلة ثانية في الزمان، وأولى في الإيمان، يكتبها الله للمولى بقلم كاتب اليمين، ويقوم فيها مقام الرشيد، ويقوم عليه وعثمانه مقام ولديه المأمون والأمين، وكان أصل الموطأ بسماع الرشيد على مالك - رحمة الله عليه - في خزانة الكتب المصرية، فإن كان قد حصل بالخزانة فهو بركة عظيمة، ومنقبة كريمة، وذخيرة قديمة وإلا فليلتمس وكذلك خط موسى بن جعفر في فتيا المأمون - رحمهما الله - كان أيضاً فيها، وكلاهما يتبرك بمثله، ويعلم به فضل العلم، لا خلا المولى - أبقاه الله - من فضله، وقف المملوك على ما بشر من صنع المولى وتوفيقه، وصحة مزاجه في طريقه، وانقطاع ما كان من دم، واسترواح القلب من كل هم، وقد استفتحت هذا الطريق بكل قال، مباركة الكبر والفأل، مأثورة عن سيد البشر، فمن ذلك صحة جسمه، فلتهنه الصحة، وفسحة قلبه دامت له الفسحة، وانقطاع الدم، وطريقه إلى الشام ينقطع به الدم ويتصل النصر له وينتظم السلم وأخرى أنه رحل إلى الموطأ رحم الله مالكه، ويرحل فيما يطلب من الشام إلى الموطأ أسعد الله به ممالكه والله تعالى يحقق الخير ويصرف الضير ويبارك لمولانا في المقام والسير إن شاء الله.
وأصبحت لابن عوف عند صلاح الدين منذ ذلك الحين مكانة كبيرة يجله ويحترمه ويقدره ويوقره وإذا اعترضته مشكلة الدين أو الدولة أرسل إليه يسأله الرأي والفتوى ويؤكد هذا قول ابن فرحون: وكان السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب يعظم ابن عوف ويراسله ويستفتيه وقد روى الصفدي في كتابه "نكت الهيمان" قصة مراسلة من هذه المراسلات عن ترجمته للقاضي شرف الدين عبدالله بن أبي عصرون فقد أضر هذا القاضي آخر عمره أثناء توليه القضاء وثار الجدل حول جواز بقائه في منصبه بعد إصابته بالعمى، وكان ابن أبي عصرون نفسه حريصاً على أن يظل قاضياً، فألف رسالة أيد فيها جواز أن يكون القاضي أعمى، وهو رأي تقوله به القلة من الفقهاء وترفضه الكثرة، ويبدو أن صلاح الدين كان حريصاً على إرضاء ابن أبي عصرون وعدم المساس بشعوره في شيخوخته، فأرسل يستفتي ابن عوف في الأمر، قال اصفدي: وكتب السلطان صلاح الدين بخطه إلى القاضي الفاضل يقول فيه: إن القاضي قال: إن قضاء الأعمى جائز، فتجتمع بالشيخ أبي الطاهر ابن عوف الإسكندري وتسأله عما ورد من الأحاديث في قضاء الأعمى وكان صلاح الدين يستجيب لرأي ابن عوف ومشورته، فقد أسرع بتلبية رغبته عندما أشار عليه بإعادة ضريبة الصادر، وهي ضريبة كانت تفرض على تجارة الفرنج الصادرة من الإسكندرية وتوزع حصيلتها على فقهاء الثغر وقد أشارت المراجع إلى أن نشاط ابن عوف لم يكن مقصوراً على التدريس وحسب، بل كان له نشاط مماثل في ميدان التأليف، فقد قال السيوطي: وله مؤلفات، وللشيخ أبي الطاهر تذكرة التذكرة في أصول الدين وغير ذلك في التأليف وفي سنة (581ه) توفي ابن عوف ودفن في الإسكندرية وله ست وتسعون سنة.
إن ما قام به أبو الطاهر السلفي وأبو الطاهر ابن عوف من طلب العلم ونشره بين الناس والعمل على إحياء المذهب السني من أعظم الجهاد، فإن الاشتغال بطلب العلم وتعليمه من أعظم الجهاد لمن صحت نيته ولا يوازنه عمل من الأعمال لما فيه من إحياء العلم والدين وإرشاد الجاهلين والدعوة إلى الخير والنهي عن الشر والخير الكثير الذي لا يستغني العباد عنه.
فالعلم عبادة تجمع عدة قربات منها: التقرب إلى الله بالاشتغال به، فإن أكثر الأئمة نصوا على تفضيله على أمهات العبادات، وذلك في أوقاته الزاهرة بالعلم، فكيف بهذه الأوقات التي تلاشى بها وكاد أن يضمحل، والاستكثار من ميراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة ونفعه واصل لصاحبه، ومتعد إلى غيره، ونافع لصاحبه حياً وميتاً، وإذا انقطعت الأعمال بالموت، وطويت صحيفة العبد، فأهل العلم حسناتهم تتزايد كلما انتفع بإرشادهم واهتدي بأقوالهم فحقيق بالعاقل الموفق أن ينفق فيه نفائس أوقاته، وجوهر عمره، وأن يعده ليوم فقره، وفاقته.
رابعاً: عبدالله بن أبي عصرون:
الشيخ الإمام العلامة، الفقيه البارع المقرئ الأوحد شيخ الشافعية قاضي القضاة شرف الدين عالم أهل الشام أبو أسعد عبدالله بن محمد بن هبة الله ابن المطهر بن علي ابن أبي عصرون ابن أبي السري التميمي الحديثي الأصل، الموصلي الشافعي وقد تولى ابن أبي عصرون في عهد نور الدين قضاء سنجار ونصيبين وحران وغيرها من مدن ديار بكر، وأصبح هناك أشبه بقاضي القضاة ينوب عنه في سائر المدن نواب أشرف على تعيينهم بنفسه فقد ولد بالموصل سنة (492ه) أو (493ه) وتفقه على جماعة من العلماء وانتقل إلى حلب سنة (545ه- 1150م) ثم قدم دمشق لدى دخول نور الدين إليها عام (549ه- 1154م) ودرس في جامع حلب وأقام بها وصنف كتباً كثيرة في الفقه والمذاهب ودرس على يديه عدد كبير من التلاميذ وانتفعوا به وكان فقيهاً من طراز أول، ووصف بأنه من أفقه أهل عصره وأنه إمام أصحاب الشافعي يومذاك، وكان متوحداً في العلم والعمل وسرعان ما تقدم عند نور الدين فكلفه بالإشراف على بناء المدارس في حلب وحمص وبعلبك وغيرها، ثم ما لبث أن ولاه قضاء ديار بكر ومنحه صلاحيات واسعة كما اعتمده عام (566ه - 1170م) رسولاً إلى الخليفة المستضيء في بغداد.
1- عبدالله بن أبي عصرون وصلاح الدين الأيوبي:
كان صلاحي الدين على معرفة تامة بعبدالله بن أبي عصرون منذ أيام نور الدين محمود زنكي، فكلاهما نشأ في ظله وتحت رعايته خاصة صلاح الدين، وكان الاثنان من رجاله الأكفاء أحدهما: يشتغل بالقضاء والحكم والفتيا والتعليم والعلم، والآخر: يشتغل بالأمور العسكرية ويوليها اهتماماً زائداً، وتدل مجريات الحوادث منذ أيام نور الدين محمود زنكي على أن العلاقات بين الرجلين كانت سليمة تسودها روح الود والمحبة والتقدير، فقد عرف كل منهما الآخر حق المعرفة وبادله الاحترام بمثله، والدليل على ذلك الرسالة التي بعثها صلاحي الدين من مصر للشام إلى ابن عصرون ولعل اختياره بالذات تفضيل له على غيره واعتراف بقدرته على التأثير في الأحداث، لذا كانت رسالته تحمل في طياتها نوعاً من العتب عليه وأملاً في أن يعمل بجد لإفشال تلك الاتفاقية الغادرة، وكان عبدالله بن أبي عصرون لا يحبذ تلك الاتفاقية، ولم يوافق عليها مع من وافق ولعله كان يعاني الألم النفسي لما حل بالمسلمين من الضعف، بل كان يحبذ مجيء صلاح الدين من مصر ليعملا سوياً وبانسجام تام لتحطيم مثل هذه الاتفاقية، والانطلاق إلى تحقيق الهدف المعلن، وهو طرد المحتل الصليبي الجاثم فوق الأرض الإسلامية في بلاد الشام ويبدو أن ابن أبي عصرون كان يحبذ قدوم صلاح الدين من مصر إلى الشام - بعد وفاة نور الدين واختلاف الأمراء من بعده - ويؤيد هذا القول أنه لم يوقع أولاً على الاتفاقية شأنه في ذلك شأن أمراء الشام وقضاته خاصة وأنه كان من الشخصيات الكبيرة في المجتمع وثانياً أنه وقف ضد الأمراء الذين طلبوا الاستمرار في معاداة صلاح الدين الأيوبي والعمل ضد قدومه إلى بلاد الشام الأمر الذي جعل صلاح الدين يوليه قضاء مصر ومع ذلك ذهب عبدالله بن أبي عصرون من دمشق إلى حلب مع الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود زنكي قبل قدوم صلاح الدين إلى دمشق، ولم يمكث طويلاً بل عاد إلى دمشق ثانية، وكان بها صلاح الدين الأيوبي عام (572ه) وذلك عندما أشرف كمال الدين الشهرزوري قاضي الشام أيام صلاح الدين على الموت، بل كان من الذين غسلوه وكفنوه وسار على رأس المشيعين بجنازته بعد الموت.
2- تعيين ابن أبي عصرون على القضاء:
عندما شعر كمال الدين الشهرزوري بدنو أجله فوض القضاء في بلاد الشام إلى ابن أخيه، أبي الفضائل القاسم بن يحيى بن عبدالله الملقب ضياء الدين، ولم يسع صلاح الدين سوى الموافقة على هذا التفويض لأن ضياء الدين أهل للقضاء ليس إلا ولأن القضاء من الرتب العليا التي لا تنفع فيها توريث وقد كانت لكمال الدين الشهرزوري جهود في تهيئة الأمور بدمشق لاستقبال صلاح الدين لأنه اعتقد أنه أكفأ من باقي الأمراء لمنازلة العدو الصليبي وهذا العمل من الأعمال المجيدة التي تحسب لكمال الدين الشهروزري حيث وضع المصلحة العامة للمسلمين فوق كل اعتبار وفضل صلاح الدين على باقي مجموع الأمراء في بلاد الشام الذين أمضوا الصلح مع العدو الصليبي وسيأتي بيان ذلك مفصلاً في حينه بإذن الله تعالى.
إلا أن صلاح الدين بعد وفاة كمال الدين الشهروزري كان ميله لتعيين ابن أبي عصرون على القضاء للأسباب التالية:
1- قوة شخصية عبدالله بن أبي عصرون العلمية والأدبية ومكانته كشيخ للمذهب الشافعي في زمنه وقد شهد له معظم المعاصرين بهذا.
2- حب صلاح الدين لأتباع مذهب الشافعي وتقديرهم لا سيما وأنه كان شافعياً إلى درجة التعصب أحياناً وأنه أراد أن يوحد الدولة على أساس المذهب الشافعي.
3- احتضان صلاح الدين لعبدالله بن أبي عصرون عندما قدم إليه إلى دمشق لا بل تفويض قضاء مصر له كما روى المقريزي عام (570ه) وتوجيه كتاب له يحضه على إبطال مفعول معاهدة دمشق مع الصليبيين في نفوس العام لدليل على أن صلاح الدين يكن له الحب والتقدير ويتمنى أن يكون قاضيه بل تعتبر الرسالة تمهيداً لاختياره في المستقبل.
4- ثم إن علاقات صلاح الدين وابن أبي عصرون كانت على درجة كبيرة من المتانة وكان أبن أبي عصرون هو الذي تولى الإشراف على تزويج صلاح الدين بالخاتون عصمة الدين بنت الأمير معين الدين أنر وزوجة السلطان نور الدين - قبل وفاته - التي كانت تقيم بقلعة دمشق عام (572ه).
5- وجود شخصيات هامة في دولة صلاح الدين الأيوبي تحبذ أن يسند قضاء قضاة الشام إلى عبدالله بن أبي عصرون أمثال القاضي الفاضل الذي كانت علاقاته به متميزة وكان ابن أبي عصرون كثيراً ما يخاطبه في مراسلاته بمجير الدين القاضي الفاضل دليلاً على احترامه وعلو شأنه وكذلك الفقيه عيسى الكهاري أحد أمراء صلاح الدين والذي تتلمذ على يد عبدالله بن أبي عصرون والذي كان يميل إلى أستاذه ويتمنى أن يراه قاضياً لقضاة الشام ولا شك في أن لهاتين الشخصيتين أثر كبير في جعل صلاح الدين يميل إلى عبدالله بن أبي عصرون ويسند إليه القضاء، فالناس فيما يذهبون ويهوون مشارب ومذاهب.
6- خطة عبدالله بن أبي عصرون وأعوانه الذين بدأوا يذيعون أن ضياء الدين سيعزل وربما يناله المكروه فتحرج موقف الرجل ودفعه هذا العمل إلى تفضيل السلامة وقدم استقالته من القضاء والتي قبلت بسرعة ودون تردد مما يفسر لنا أن صلاح الدين يميل إلى عبدالله بن أبي عصرون مع أنه لا يريد الإحراج لضياء الدين وإقالته ومهما قيل فإن مجمل هذه الأسباب مجتمعة هيأت الظروف لأن يتولى شرف الدين بن أبي عصرون قضاء القضاة في جميع ممالك بلاد الشام الخاضعة لصلاح الدين الأيوبي عام (573ه)، وكان شرط صلاح الدين على هذا التعيين أن يكون محيي الدين أبو المعالي محمد بن زكي الدين والأوحد داود نائب كمال الدين الشهرزوري في الحكم والقضاء قاضيان يحكمان وهما عن منابته يوردان ويصدران وتوليتهما بتوقيع من السلطان نفسه.