محمد أمين الداهية
ما أقسى ذلك المنظر الذي رأيت والذي أثبت لي فعلاً مدى قسوة هذا الزمن ومن فيه، لقد كان منظراً يبكي القلوب ويجعلها رهينة للألم والأحزان، إذا كانت تلك القلوب تمتلك ولو جزءًا يسيراً من الرحمة والإنسانية، أما إذا كانت عكس ذلك بسبب ترويض أصحابها لها حتى صارت كالحجارة بل أشد قسوة، فما ذلك الفقر المدقع الذي يرونه في كثير من الأسر إلا ضرورة لا بد أن توجد حتى يستطيعوا أن يمارسوا تسلطهم وتكبرهم على فئة يظنون أن وجودها يزيد من حجمهم ومن خلالها يشعرون أنهم مميزون، المنظر الذي حز في نفسي ومن كنت وإياهم هو ذلك الطفل ابن الخامسة وإلى جانبه طفلان وكأنهما في السابعة من العمر في كل يد واحد منهم إناء صغير وقرطاس بلاستيكي، رأيناهم وهم يتسابقون باتجاه أحد المطاعم الذي كنا فيه ليجمعوا ما تبقى من رغيف وشيء من الفول وكأنهم حصلوا على كنز ثمين، ولمسنا فيهم أدباً عجيباً حيث ارتادوا على المطعم أكثر من مرة ليجمعوا ما يتركه زبائن المطعم من بقايا ما يفطرون به.
وفي كل مرة لم نكن نراهم إلا بعد خروج أحد الزبائن وكأنهم يتجنبون التوبيخ أو إزعاج زبائن المطعم بالوقوف أمامهم.
خفت في المرة الثالثة أن تكون الأخيرة فلا يعودون فتوجهت باتجاههم وجلست معهم برهة من الوقت على الرصيف وحاولت أن أفهم شيء عن ظروفهم وأنا أعرف جيداً أن السبب الرئيسي في ذلك هو الفقر والحاجة، فتحدث إلي الأول قائلاً: كنت أمي تقوم بمهمة توفير الطعام لي ولأخواتي الثلاث الأصغر مني إلا أنها الآن مريضة ولا تستطيع الحراك، فإن لم أفعل هذا سنموت جوعاً، وتحدث الآخر قائلاً: أمي ماتت وأبي يطردني دائماً من البيت بسبب أن خالتي تقول له أنني رجل وأقدر أعيش نفسي، أنام أكثر الأيام في الحجرة من غير غطاء ولدينا مكان ثاني تقفله خالتي لا يوجد أحد فيه، أما الطفل ابن الخامسة عندما سألته وقلت له: لماذا تأكل ما حصلت عليه من خبز وفول فقال مباشرة أنا جائع من أمس وأختي باتروح فطور للبيت، ولولا أني كنت على عجلة من أمري لرافقتهم إلى منازلهم ومعرفة المزيد عن حياة مثل هؤلاء عل هناك من ينظر إلى مثل هؤلاء بعين الرحمة والرأفة والإنسانية، ونادم أشد الندم لرحيلي من عندهم دون أن أتعرف حتى على مكان سكنهم ولكن ما هؤلاء إلا جزءً يسيراً من غيرهم من الآلاف الموجودين في شتى الأماكن، أنا لا أريد التهويل أو إعطاء الموضوع أكبر من حجمه نحن نقوم بمهمة إنسانية وعرض قضية على المجتمع والمسؤولين عن مثل هؤلاء الأطفال من أولياء الأمور والمختصين والمنظمات الإنسانية وحقوق الطفل وكل من لهم علاقة وأنا أحمل مسؤولية هؤلاء الأطفال المشردين وأسرهم المعدمة والفقيرة عقال الأحياء وأعضاء المجلس المحلي الذين لا يعيرون هذه الأسر أدنى اهتمام وأقل واجب يمكن أن يقدموه هو حصر الأسر الفقيرة والمعدمة وعرضها على المسؤولين ممن لهم علاقة ومن يستطيعون أن يمدوا يد العون لمثل هؤلاء الأطفال المشردين وأسرهم المغلوبة على أمرها، الكلام لا يكاد أن ينتهي ولكن خلاصة القول: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، والمسؤول عن مثل هؤلاء هم المطلعون المباشرون على فقراء ومحتاجي مناطقهم أو أحيائهم بعد ذلك يأتي دور الجهات ذات العلاقة.