شكري عبد الغني الزعيتري
استكمالاً لقصة الأمس والتي كان عنوانها "قصتي في حضرموت وآثار السيول" ونشرت بالعدد السابق وفي هذا العدد ولجانب متابعتي البشر وحالهم وما فعل بهم السيل الجارف الذي انحدرت مياهه من كل جبل وسهل ومن كل وادي ومن البحر الذي تبخر ماؤه وصعد إلى السماء فأعادته هطولاً تصب من الفضاء العالي إلى البر وساكنيه فتجمعت تدفقاً من كل الجهات وإلى المدن واتجهت نحو المناطق العامرة بالسكان وبالمرعى والانعام اتجهت المياه من الشمال والجنوب والشرق والغرب ووجهتها لتلتقي وتتجمع في نقطة التلاقي والاتحاد فتزايدت سرعتها والجريان وقوة ضغطها واندفاعها نحو الإمام، سارت بسرعة البرق وقوة جبلين ينطبقان على بعضهما حتى تناثرت صخورهما والأشلاء، مياه تجري سيولها فيضانات اقتلعت الشجر وسحقت المرعى وهدمت كل شيء أمامها من منازل البشر وخلفت الكثير منها ركاماً كانت بالأمس القريب أحياء ينعم بداخلها أصحابها بالراحة ويسكن القلب طمأنينة وتستقر النفس أماناً وتهجع الجوارح، رأيناها اليوم وقد أصبحت منازل لا يعرف لها عنوان أو مالك وقد اختلط ترابها بأحجارها وبأخشابها وبفراشها وبكل شيء كان بداخلها مرتباً يعطيها جمالاً ورونقاً، فأضحى كل منزل كومة فيها اختلط الحابل بالنابل، رأيت بشراً من أبناء وأسر، رأيت أطفالاً ورضعاً، رأيت نساء ورجالاً، رأيت كهولاً وعجائز، منهم من هو بداخل مأواه الخيمة أو بداخل فصل دراسي بمدرسة علم لجاء إليها ومعه أفراد أسرته لتؤويهم وتحفظ أجسادهم من برد الليل القارص الصحراوي بمناطق وادي حضرموت أو من رياح السواحل المتقلبة بمناطق ساحل حضرموت أو من شمس النهار الحارة، وليستروا أعراضهم وأرحامهم من العراء الكاشف، رأيت منهم من يجلس بجوار وخارج مأواه "الخيمة أو الفصل الدراسي" وواضعاً يده تحت خده مسنداً رأسه عليها يشاهد ما حوله وبصمت وتمعن يفكر طويلاً، فأيقنت أنه في دواخل هؤلاء الصامتين المتفكرين وبمشاهدة صامتة لا ينطقون تجتمع المتناقضات لديهم: قلق والتفكير القلق، والإسقاط لمحاولة النسيان لمأساة، الحزن لفقدان أفراد وممتلكات، والفرح بلقمة عيش وشربة ماء يحصل عليها لسد رمقه وجوع أبنائه بكاء رضع في أحضان أمهات، ولعب ومرح أطفال أبرياء لا يدركون عمق مأساة ومعاناة أبائهم وأمهاتهم، صياح أصوات تعلو من البعض تطلب عوناً وإغاثة بغذاء وشراب وكساء وملبس ومما يوزع من الآخرين، وحالات هدوء وانذهال واندهاش وتفكر لما حصل ويحصل، رأيت عيون نساء ينمع بداخلها الحزن الصامت، وضعف وقلة حيلة عند رجال وانقهار الأشداء.
رأيت لعاباً يستعصى بلعه ويقف في الحناجر وكأنه طعم مرارة علقم وصبر، رأيت عوز الأعزاء الأماجد لأبسط الحاجات والمطالب لشربة ماء ولقمة خبز وقليل من حساء، ذقت المرارة دون استطعامها، وأغرقت عيناي بدمع أمسكتها أن تذرف حتى شعرت بأنها تعوم في بركة ماء لا يتطاير ماءها ولا يقفز إلى الخارج، شعرت بحزنٍ لأطفال اجتمعوا حول حساء وخبز، ذقت الجوع والعطش وبدون صوم وإجبار وبطني مليئة، شعرت بالبرد مع أني أسكن الفنادق والغرف المغلقة والتحف الغطاء، اجتمع لدي الحزن والمأساة دون أن أكون صاحبهما أو ممن تعرضوا لهما ولكن لما شهدته من خراب البنية لخدمات عامة وتهدم بيوت أسر، وحزنت لما رأيته من تشرد لأسر وتألمت لعويل الرضع وأوجعني حزن الأمهات وأنات أوجاع الرجال من أبناء إخواننا بمحافظة حضرموت وحالهم بعد السيول وعدت بالتفكير إلى الوراء قليلاً كيف كان حالهم بالأمس القريب من عزة وكرم وحسن استقبال الضيف وطيب الكلام لديهم والحوار الذي كان قبل فاجعة السيول يحكي وكنت المسه عند زياراتي السابقات الكثيرة ولكثير من مناطق ومدن حضرموت، وأصبح اليوم الأحاديث لديهم ولمن يزورهم تروى عن مأساة السيول وآثارها من دمار ومعاناة من تشرد وجوع وعطش وتعطل مدارس أبنائهم وحزناً لموتاهم وألماً لمرضاهم، عشت أياماً وتجتمع حولنا أثناء مأكل ومشرب الكثير الكثير من الذباب تريد مشاركتنا الطعام وتتطفل على جلساتنا في راحة ونمت ليالي في حالة صراع مع أسراب البعوض تصيب لدغاتها والحكة كل إنسان ولا تفرق بين أحد وإن كان ضيفاً أو جار، شممت روائح كريهة تنبعث فتقتحم قهراً أنفي في بعض طرقات وفي دقائق مروري في أماكن وجدت فيها حيوانات ميتة وتتعفن أو تجمع مياه ومجاري ومستنقعات، إلا أني في خضم هذه المأساة والمعاناة لأبناء وأسر مديريات بمحافظة حضرموت وفي وجود أحزان القلوب واغرقاق العيون بالدمع دون أن تذرف عند الكبار وبكاء الرضع بأحضان الأمهات وعويل الأطفال، ظهر ما يفرح القلوب ويثلج الصدور ويعمق أواصر الأخوة ولمحبة ووجد وتكاتف، ويحفر أغواراً لوحدة وطنية ويزيد من ولاء لوطن وشعباً موحد، ما رأيته من توافد الوفود من كافة محافظات الجمهورية اليمنية وممثلين لها حاملين كل ما قدر على جمعه وتمكنوا من نقله من مساعدات وإعانات لإغاثة المتضررين جراء السيول ولأبناء وأهالي محافظتي حضرموت والمهرة واستمرار توافد وقدوم سيارات النقل المختلفة أنواعاً وأحجاماً حاملة المساعدات العينية من المواد الغذائية والطبية والسكنية والتي قدمت من كافة أبناء وجهات حكومية ومجالس محلية وجمعيات خيرية وتجار وشركات بكافة المحافظات اليمنية ومنذ الأيام الأولى لفاجعة السيول واستمرت في تدفقها نحو حضرموت والمهرة شرق اليمن ومن أقصى شماله ومن أقصى غربه وجنوبه والتي عززت وتعزز روابط الأخوة وتزيد الحب والود والتقارب وتحيي الوطنية، فلا يستطيع أي حاقد النيل تمزيقاً لوحدة الشعب الوطنية، فقد رأيت أن محنة السيول وخرابه أظهرت الحب والوحدة مجسداً على الواقع وعملياً فزادت من التسامح وتخطت كل المكايدات السياسية وما بذرته من الفتنة، رأيت شعباً اجتمع من أنحاء متفرقة من اليمن وقد نبذوا خلفهم المصالح الشخصية للأفراد وذهبوا نحو الصالح العام وتخفيف محنة وقعت في جزء من الوطن لأبناء من الشعب، رأيت وقد ربطت أب وتعز ولحج وعدن وأبين نسيجاً من الوفاء والحب والكرم بساحل حضرموت وسيحوت والغيظة، رأيت وقد ربطت الحديدة وذمار والضالع وصنعاء وصعدة ومأرب نسيجاً من الخير والعطاء وتخيف الألم بصحراء ووادي حضرموت وثمود ورماه، رأيت أبناء كل المدن قد تجاوزوا وداسوا بالأقدام العصبية والتعصب ونفضوا رذاذ غبار الفتنة وكيدها، رأيت محنة سيول قاتلة وقد وحدت وبعمق موقفاً، رأيت كل اليمنيين إنساناً واحداً فاضلاً، رأيت المشاعر الجياشة النبيلة تتدفق وظهرت وتجسدت على أرض الواقع عملياً لمواجهة محنة السيول وآثارها والدمار الذي قدر الله وما شاء فعل "سبحانه وتعالى القادر المقتدر"، فليرى أصحاب ودعاة الفتنة والتمزيق وليعوا أن كيدهم بالوطن سيواجه بأكثر من هذا تكاتفاً ووحدة وتوحداً، فكفاكم أزيلوا ضبابكم الكاذب وسرابكم الوهمي الحاقد، ألا يكفيكم بأن قالت لكم هذه المحنة اليمنيون موقفاً واحد وموحد.
نستقبل آراء القراء للكاتب على البريد الالكترونيShukri_alzoatree@yahoo.com