المؤلف/ علي محمد الصلابي
3- إنتاج ابن أبي عصرون العلمي:
كان ابن أبي عصرون شخصية متميزة لها سماتها الفريدة، فقد وصفه صاحب النجوم الزاهرة بأنه كان: إماماً فاضلاً مصنفاً ووصفه السبكي صاحب طبقات الشافعية بقوله: نزيل دمشق وقاضي القضاة بها وعالمها ورئيسها، وقال عنه موفق الدين ابن قدامة المقدسي: كان إمام أصحاب الشافعي في عصره، ونعته ابن الصلاح بأنه أفقه أهل عصره وإليه المنتهى في الفتاوى والأحكام، ووصفه العماد الأصفهاني بقوله: حجة الإسلام مفتي العراق والشام شيخ العلم العلامة وبفتياه توطدت للشرع الدعامة وله الفخار والفخامة، وليس في عصرنا من أتقن مذهب الشافعي عنه مثله وقد أشرق في الآفاق فضله وصنف في المذهب تصانيف مفيدة قواعدها في العلم مهيدة، ومما صنفه ابن أبي عصرون: "صفوة المذهب في نهاية المطلب" وهو سبع مجلدات "الانتصار" في أربع مجلدات "المرشد" في مجلدين "الذريعة في معرفة الشريعة" مجلد "التيسير" في الخلاف في أربعة مجلدات، "مآخذ النظر" و"مختصر الفرائض"، و"الإرشاد المغرب في نصرة المذهب"، ولم يكمله وذهب فيما ذهب له بحلب، وله مؤلفات أخرى منها "التنبيه في معرفة الأحكام" "فوائد المهذب" في مجلدين، و"الموافق والمخالف"، و"فوائد المنذري" في مجلدين، وجمع جزءاً في جواز قضاء الأعمى.
وأضاف البغدادي في "هداية العارفين" فتاوى ومسلسلات في الحديث.
4- إنتاج شرف الدين ابن أبي عصرون الأدبي:
اشتهر شرف الدين في علوم الفقه والأصول والخلاف والفتاوى والقضاء وكذلك بالجانب الأدبي، فقد كان شاعراً أديباً أورد له العماد الأصفهاني وغيره مقطوعات شعرية كثيرة تنم عن إحساس متدفق وخيال خصب واسع ونفس مجربة عركتها الحياة ومن أشعاره:
كل جمع إلى الشتات يصير
أي صفو ما شابه تكدير
أنت في اللهو والأماني مقيم
والمنايا في كل وقت تسير
والذي غره بلوغ الأماني
بسراب وخلب مغرور
ويك يا نفسي أخلصي إن ربي
بالذي أخفت الصدور بصير
ومن شعره:
أمستخبري عن حنيني إليه
وعن زفراتي وفرط اشتياقي
لك الخير إن بقلبي إليك
ظمأ لا يرويه إلا التلاقي
وقال أيضاً:
يا سائلي كيف حالي بعد فرقته
وحاشاك مما بقلبي من تنائيكا
قد أقسم الدمع لا يجفو الجفون أسى
والنوم لا زارها حتى ألاقيكا
هذه شخصية ابن أبي عصرون المتميزة، فهي متكاملة الجانب لها أثرها في مجال القضاء والفتيا والسياسة والإدارة، والدبلوماسية والسفارة، تمتعت بقدر كافٍ من العلم والأدب أهلها إلى أن تتسلم أرقى المناصب وأرفعها وهي قضاء القضاة والسفارة ومشيخة الشافعية في عصرها.
5- حمله البشارة إلى الخلافة العباسية:
من المهام الجليلة التي قام بها القاضي شرف الدين ابن أبي عصرون هي حمل البشارة إلى الخلافة العباسية سنة "567ه/1171م"، بقطع صلاح الدين الخطبة للخليفة الفاطمي العاضد وإقامتها للخليفة العباسي المستضيء بالله، وكتب معه نسخة لهذه البشارة تقرأ بكل مدينة يمر بها، فسار إلى بغداد ولم يترك مدينة إلا دخلها بهذه البشارة الجليلة القدر، وقرأ فيها هذا المنشور الخطر والذكر حتى وصل إلى بغداد الموكب إلى تلقيه وجميع أهل بغداد مكرمين لخطير وروده معظمين لجليل مورده، ونثرت عليه دنانير الأنعام وحبي بكل إحسان وإكرام، وأرسلت التشريفات إلى نور الدين وصلاح الدين، واستمر القاضي شرف الدين ابن أبي عصرون مشاركاً في الحياة السياسية بعلمه وآرائه، وسفيراً لصلاح الدين إلى الخلافة العباسية ببغداد حتى كانت موقعة حطين سنة "583ه/1187م".
وأكد المؤرخون مشاركته لصلاح الدين في هذه الموقعة العظيمة التي فتح الله بها معظم مدن الساحل الشامي وبيت المقدس.
6- عبدالله بن أبي عصرون يصاب بالعمى:
ظل شرف الدين ابن أبي عصرون قاضياً يحكم بالشرع حتى عام "577ه"، حيث أصيب آنذاك بالعمى وفقد بصره، فتكلم الناس في عدم أهليته للقضاء وطعنوا بها، وهنا وقع صلاح الدين في حرج شديد، وورطة فقهية، فهو لا يريد أن يمس مشاعر صاحبه الذي فقد بصره ويعزله عن منصب القضاء وهو في نفس الوقت يتعرض لأقوال الفقهاء التي تطعن في بقاء ابن أبي عصرون في منصبه لعدم أهليته، وقد تصدى شرف الدين ابن أبي عصرون لهذه المشكلة بنفسه وأصدر كتاباً في جواز قضاء الأعمى مخالفاً في هذا مجموع الفقهاء، وكان سند ابن أبي عصرون فيما ذهب إليه من جاز قضاء الأعمى وجه ورد في جمع الجوامع للروياني اختاره شرف الدين ابن أبي عصرون وصنف فيه جزءاً في جواز قضاء الأعمى وظل هو قاضياً لما أصيب بالعمى، وكانت حجة الجمهور أن الأعمى لا يعرف الخصوم، ولا الشهود، فكيف يحسن قضاءه فيما يعرض عليه، وحجة من جوز هذا أن شعيباً نبي الله كان أعمى فما دام هذا نبي مرسل فالقاضي بطريق أولى أن يكون قاضياً؛ لأن النبي أشرف من القاضي لتفضيل الله له على غيره، وقيل: إن شعيباً لم يثبت عماه، فلو سلمنا بعمى شعيب فإن الذين آمنوا به كانوا قلة، فربما إنهم لم يحتاجوا إلى من يحكم بينهم، ولو فرضنا أنهم احتاجوا فإن الوحي ينزل على النبي شعيب يزوده بالحكم الفاصل ولا يتسنى هذا للقاضي، إذ لا وحي ينزل عليه.
وأمام هذه المشكلة التي يقف فيها شرف الدين ابن أبي عصرون لوحده في جانب وجميع الفقهاء في الجانب الآخر بالشام انتابت صلاح الدين الحيرة، فماذا عساه صانع؟ فالتفت صلاح الدين إلى القاضي الفاضل، وكان في مصر آنذاك فأرسل إليه يستعين به على حل هذه المشكلة بأنه يتوجب عليه أن يتصل بالشيخ أبي طاهر ابن عوف الإسكندري ويسأله عما ورد من الأحاديث في قضاء الأعمى، عله يجد له حلاً لما استعصى عليه، ثم لم تلبث أن وردت إجابات القاضي الفاضل إلى صلاح الدين الأيوبي وجاء فيها: لن يخلو الأمر من قسمين، والله يختار للمولى خيرة الأقسام ولا ينسى له هذا التخريج الذي لا يبلغه ملك من ملوك الإسلام: اما إبقاء الأمر باسم الوالد بحيث يبقى رأيه ومشورته وفتياه وبركته ويتولى ولده النيابة ويشترط عليه المجازاة لأول زلة وترك الإقالة عثرة، فطالما بعث حب المناقشة الراجحة على اكتساب الأخلاق الصالحة، وإما أن يفوض الأمر إلى الإمام قطب الدين فهو بقية المشائخ، وصدر الأصحاب، ولا يجوز أن يتقدم عليه في بلد إلا من هو أرفع طبقة في العلم منه.
وفي هذا الجواب وجد صلاح الدين المخرج بلا حرج، فأبقى شرف الدين على رأس القضاء وفوض الأمر إلى ولده محيي الدين أبي حامد محمد بن شرف الدين على أن يكون والده هو الحاكم الحقيقي، ويظهر للناس على أنه نائب عن أبيه بحيث لا يظهر للناس صرفه عن القضاء، وهكذا بقي شرف الدين ابن أبي عصرون يمارس قضاء القضاة في بلاد الشام وولده نائب عنه، بفضل دفاعه عن نفسه والغوص في أعماق الفقه واستخلاص ما يجيز قضاء الأعمى، ثم تضامن صلاح الدين معه ومساندة صاحبه القاضي الفاضل له بالحق.
7- وفاة ابن أبي عصرون:
توفي القاضي ابن أبي عصرون في الحادي عشر رمضان سنة خمس وثمانين وخمس مئة، ولما بلغ الخبر القاضي الفاضل بمصر كتب رسالة بهذه المناسبة يعزي بشرف الدين ويرد على الرسالة التي وردته بالخبر من الشام: وصل كتاب الذات الكريمة جمع الله شملها وسر بها أهلها ويسر إلى الخيرات سبلها، وجعل في ابتغاء رضوانه قولها وفعلها، وفيه زيادة هي نقص الإسلام وثلم في البرية يتجاوز رتبة الانثلام إلى الانهدام وذلك ما قضاه الله تعالى وقدره من وفاة الإمام شرف الدين ابن أبي عصرون رحمه الله تعالى، وما حصل بموته من نقص الأرض من أطرافها من مساءة أهل الملة ومسرة أهل خلافها، فلقد كان علماً للعلم منصوبأً وبقية من بقايا السلف الصالح محسوباً، والعلم بالشام زرعه وكل من انتفع فعليه كان وإليه ينسب نفعه رضي الله عنه وأرضاه ونفع بماء الرحمة مثواه، وما مات من أبقى تلك التصانيف التي هي المعنى المغني، بل ما مات من ولده المحيي، فإنه والله لآثاره ولعلمه والحضرة تنوب عني في تعزيته والقيام بحق تسليته، وقد ساءتني الغيبة عن مشهده وتغيير القيام وراء سريره والتوسل إلى الله في ساعة مقدمة، ولقد علم الله اغتمامي لفقد حضرته واستيحاشي لخلو الدنيا من بركته واهتمامي بما عدمت من النصيب الموفر "كان" من أدعيته.
وما مات بحمد الله حتى أحرز غيبته بأولاد كرام بررة وأنشأ طلبة للعلم نقلة وللمدارس عمرة وحتى بنى لله المدارس والمساجد وأحيا نهاره وليله بين راكع وساجد، فهو حي لمجده وإنما نحن الموتى بفقده.
خامساً: الفقيه عيسى الهكاري:
هو الفقيه ضياء الدين أبو محمد عيسى بن محمد بن عيسى الهكاري، أحد أمراء الدولة الصلاحية معولاً عليه في الآراء والمشورات، وقام بتدريس الفقه في المدرسة الزجاجية بمدينة حلب، واتصل بالأمير أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين وصار إمامه يصلي به الفرائض الخمس، ولما توجه أسد الدين إلى الديار المصرية، وتولى الوزارة كان عيسى في صحبته، وكان صلاح الدين يستشيره ويتبع نصحه، وكان كثير الإدلال عليه يخاطبه بما لا يقدر عليه غيره من الكلام كان واسطة بين صلاح الدين والناس بما ينفعهم.
- إسناده لصلاح الدين في وزارته: بعد أن تولى صلاح الدين الوزارة بتقليد من الخليفة العاضد، اعترض بعض الأمراء النورية الذين طمعوا في الوزارة لأنفسهم على هذا الوضع ورفضوا طاعة صلاح الدين وخدمته، وكادت تحدث فتنة بين قوات نور الدين في مصر لولا الدور الذي قام به الفقيه عيسى الهكاري - وهو من الأكراد - فقد أخذ يسعى جاهداً بين هؤلاء الأمراء إلى أن جمعهم حوله بأنواع من الترغيب والترهيب، إلا أن عين الدولة الياروقي فضل العودة إلى الشام لخدمة نور الدين محمود على أن يظل تابعاً لصلاح الدين، وهكذا يتضح الدور العظيم الذي قام به الفقيه عيسى الهكاري في دعم صلاح الدين في وزارته، فقد استطاع بقوة شخصيته وذكائه أن يوطد الأمور لصلاح الدين في بداية توليه حتى يتيح له الفرصة للتفرغ لما هو أهم من هذه الصراعات، ونعني بذلك