;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة الخامسة والستون 818

2008-11-10 03:52:46

المؤلف/ علي محمد الصلابي

- إصلاح الموقف بين صلاح الدين ونور الدين: كان الفضل للشيخ/ عيسى الهكاري في إصلاح الموقف بين صلاح الدين والسلطان نور الدين محمود عندما اعتذر صلاح الدين عن الزحف إلى حصن الكرك، كما طلب نور الدين الذي قبل وساطة الهكاري وحمله رسالة إلى صلاح الدين مفادها: أن حفظ مصر أهم عندنا من غيره.

وكان صلاح الدين يعتمد عليه في كثير من الأمور حتى أصبح الفقيه عيسى واحداً من كبار الأمراء الصلاحية، وكان صلاح الدين يحترم علمه وعقله وآراءه، ويستشيره كثيراً في أمور الحكم ولم يكن يخرج عن رأيه.

- مساهمته في الصلح مع أهل الموصل:

وتتولى الأحداث والمواقف بعد ذلك لتؤكد أهمية ومكانة هذا الفقيه في دولة صلاح الدين الأيوبي، وذلك يتضح عندما أراد صلاح الدين في عام "578ه/1182م" أن يحاصر الموصل ويستعيدها من صاحبها الأتابك عز الدين مسعود ويضمها إلى الجبهة الإسلامية ويضمن وقوفها معه ضد الصليبيين في معركته الفاصلة معهم، ولكن بعد مناوشات عديدة بين الطرفين تدخل الخليفة العباسي في الأمر وأرسل صدر الدين شيخ الشيوخ مندوباً عنه للتوسط في الصلح بين الطرفين، فأرسل صدر الدين إلى صلاح الدين يطلب منه إنفاذ بعض ثقاته لحضور مباحثات الصلح بين الطرفين، فتقدم السلطان إلى الأجل القاضي الفاضل، وإلى الفقيه عيسى أن يحضرا وأن ينهيا إليه ما يسمعانه منه، فمضيا وحضر عند شيخ الشيوخ، وقام كل من القاضي الفاضل والفقيه عيسى بالتباحث في الأمر نيابة عن صلاح الدين حتى استقر الصلح بين الطرفين، ورحل صلاح الدين عن الموصل وحقنت بذلك دماء المسلمين.

- التفاوض مع وزير خلاط: قام الفقيه عيسى الهكاري في سنة "581ه/1185م" بمهمة دبلوماسية أخرى أوفده بها السلطان صلاح الدين الأيوبي للتفاوض مع وزير خلاط كنائب عنه؛ لأنه بعد وفاة شاه أرمن سكمان صاحب خلاط تولى مملوكه سيف الدين بكتمر البلاد، وطمع وزير خلاط أيضاً في الاستيلاء عليها وهو مجد الدين بن الموفق بن رشيق الذي أرسل إلى السلطان صلاح الدين الأيوبي طالباً منه التدخل لحسم تلك الأطماع، فبعث السلطان الفقيه عيسى الهكاري في هذه المهمة الدبلوماسية ليمهد الطريق ويناقش الأطراف، وتحدث وزير خلاط مع الفقيه عيسى طالباً استعجال السلطان في الوصول قبل وصول البهلوان، وكان السلطان بالفعل قد غادر الموصل في طريقه إلى خلاط، ولما علم البهلوان بتلك التطورات وذلك الموقف الحاسم الذي وقفه الفقيه عيسى في مساندة وزير خلاط، ورسالته العاجلة إلى السلطان ودخل البهلوان الخوف وطلب الصلح مع وزير خلاط والعودة إلى بلاده فتم الصلح وانقضى الخلاف، وذلك بحكمة الفقيه عيسى الهكاري الذي نجح في هذه المهمة وفتح أبواب الاستعطاف والاستمالة بين الفئتين.

- رجل المهمات الخاصة:

في سنة "582ه/1186م" قام السلطان صلاح الدين بعدة تعديلات في مصر والشام خاصة بنوابه في البلاد لرغبته في الاطمئنان على مستقبل البلاد بعد وفاته من ناحية، وعدم حدوث خلاف بين أبنائه بالإضافة إلى تدريبهم على سياسة الملك في حياته وصيانة البلاد من الانشقاق من ناحية أخرى، لا سيما وأنه كان يعد نفسه للدخول في معركة فاصلة من معارك جهاده ضد الصليبيين، فلما وصلته الأخبار بأن ابن أخيه تقي الدين عمر نائبه في مصر مع ولده الملك الأفضل قد صدرت عنه تصرفات أثناء مرض صلاح الدين بحران تدل على رغبته في الاستبداد بالحكم في مصر، أرسل الفقيه عيسى الهكاري وكان كبير القدر عنده مطاعاً في الجند إلى مصر، وأمره بإخراج تقي الدين منها والمقام بمصر، فأسرع الفقيه عيسى بتلبية الأمر وتوجه إلى مصر ونفذ ما أمر به وظل بها حتى يصل العادل أخو صلاح الدين إليها وبصحبته ولده العزيز عثمان بن صلاح الدين، وهذا يدل على الثقة الكبيرة التي أولاها صلاح الدين للفقيه عيسى الهكاري واطمئنانه إليه خاصة وأنه يعلم مدى تأثير الهكاري في جند مصر.

- شجاعته في الحروب ضد الصليبيين:

بعد أن استتب الأمر لصلاح الدين وبدأ جهاده في جبهة الشام يشاركه الكثير من المتطوعين من الفقهاء والعلماء، وفي مقدمتهم الفقيه عيسى الهكاري الذي يشاركه في جهاده ضد الصليبيين مشاركة فعلية وحمل السلاح وقاتل في المعارك مجاهداً في سبيل الله، وكان يلبس زي الأجناد بعمائم الفقهاء فيجمع بين اللباسين، وقد أثبتت المصادر الإسلامية هذه المشاركة الفعلية التي قام بها هذا الفقيه في الجهاد، فعندما خرج مع صلاح الدين في سنة "573ه/1177م" لمحاربة الصليبيين في عسقلان، قام بالإغارة عليها فقتل الكثير من الصليبين وأسر الكثير وأحرق ما حولها، ثم واصل صلاح الدين بمن معه إلى الرملة فسبى وغنم ولكن لما تشاغل الجيش بالغنائم وتفرقوا في القرى والمناطق التي حولها وبقي صلاح الدين في طائفة قليلة من جنده، قام الصليبيون فجأة بالهجوم عليهم فارتبك المسلمون وأخذوا يقاتلون الصليبيين ولكن حلت بهم الهزيمة وقتل منهم أعداداً كثيرة وأسر الكثير منهم، وكان الفقيه ضياء الدين عيسى الهكاري وأخيه ظهير الدين ممن وقعوا في الأسر، ويذكر ابن الأثير في هذا المجال أن الفقيه عيسى الهكاري: كان أشد الناس قتالاً في ذلك اليوم، ومما يدل على المكانة العظيمة التي كانت للفقيه عيسى الهكاري عند صلاح الدين الأيوبي هو ما ذكره المؤرخون من أن صلاح الدين افتداه من الأسر بعد سنتين بمبلغ ستين ألف دينار، ويضيف المؤرخون بن صلاح الدين لم يقتصر في فك أسر الفقيه الهكاري على فدائه بالأموال فقط، بل أطلق كثيراً من أفراد جماعة الداويه ممن كانوا عنده في الأسر، وهذا يدل على عظم وقدر الفقيه الهكاري لدى صلاح الدين الأيوبي، هذا وقد توفي الفقيه عيسى سنة "585ه".

سادساً: زين الدين علي بن نجا:

ومن المواقف الجديرة بالذكر التي قام بها بعض الفقهاء والعلماء في بداية قيام الدولة الأيوبية ما بدر منهم من حرص شديد سنة "569ه/1174م" على سلامة وأمن الدولة وعدم تفككها حتى لا يطمع فيها أعداء الإسلام والمسلمين، وكان ذلك عندما قامت جماعة من الشيعة في مصر بمؤامرة تهدف إلى إعادة الخلافة الفاطمية بمصر بعد أن أسقطها صلاح الدين سنة "567ه/1171م"، وكانت خطتهم في ذلك أن يستدعوا الصليبيين من صقلية وبلاد الشام إلى مصر لمساعدتهم مقابل أن يمنحوهم شيئاً من المال والبلاد.

وكانت خطتهم أنه في الوقت الذي تصل فيه القوات الصليبية ويخرج صلاح الدين بقواته للقائهم يقوم المتآمرون بإشعال نيران الثورة في الداخل فيقع السلطان بين نارين: نار ثورة بالداخل ونار وجود الصليبيين خارج البلاد، الأمر الذي يعمل على تشتيت قواته ويساعد على هزيمته أمام الصليبيين من ناحية وسيطرة المتآمرين على مقاليد الحكم من ناحية أخرى، وكان على رأس هؤلاء المتآمرين من الشيعة الفقيه الشاعر عمارة بن أبي الحسن اليمني، وعبدالصمد الكاتب والقاضي هبة الله ابن عبدالله العويرس، وغيرهم من جند المصريين ورجالاتهم السودان وحاشية القصر ومعهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، ولا شك أن هذا المخطط خيانة صريحة من قبل جماعة من الشيعة الذين استعانوا بالصليبيين لقتال المسلمين من أجل تحقيق المصالح الشخصية، ومن أجل تحطيم دولة صلاح الدين الإسلامية السنية التي تجاهد ضد أعداء الدين، بل لقد بلغت هذه الخيانة حداً كبيراً لدرجة أنهم يغرون الصليبيين بالأموال للقدوم إلى مصر بدلاً من صدهم ومحاربتهم.

وقد أراد الله أن يكشف خيوط المؤامرة على يد أحد رجال الدين من الفقهاء المخلصين الواعين والمقدرين للمصلحة الإسلامية الغيورين على تماسك وحدة الجبهة الإسلامية وهو زين الدين علي.

ويذكر ابن الأثير: وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصرية أدخلوا معهم زين الدين علي بن نجا، الواعظ والقاضي المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة الوزير والداعي والقضاة، فلما ضموا إليهم القاضي ابن نجا وشعر بخطورة ما يدعون إليه قام بإخبار صلاح الدين بكل تفاصيل المؤامرة فطلب منه أن يظهر تعاطفه معهم وتواطئه على ما يريدون فعله، وإخباره بما يتجدد من أخبار، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه.

وبناء على ذلك استطاع صلاح الدين الوقوف على تفاصيل المؤامرة، وفي تلك الأثناء وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل بهدية ورسالة وهو في الظاهر إليه "أي صلاح الدين" والباطن إلى أولئك الجماعة وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجلية الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق إليه من النصارى، وداخله فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته.

وعندئذ تأكد صلاح الدين من حقيقة الأخبار التي وصلته من القاضي ابن نجاح وتدارك الأمر قبل وقوع الكارثة، فأمر بالقبض على هؤلاء المتآمرين جميعاً وقضى عليهم وسكنت الفتنة.

ثم قرب السلطان إليه زين الدين علي بن نجا وأحسن إليه بالأعطيات والإقطاعات، وأجمل وأعطاه وأجزل، وأتم له مراده وأكمل، وكان السلطان يستشيره ويروقه تدبيره ويميل إليه لقديم معرفته وكريم سجيته، وكان صلاح الدين يسمي ابن نجا عمرو بن العاص ويعمل برأيه لسداد رأيه وسعة حيلته، وأن كثيراً من أرباب الدولة وأهل السنة في مصر كانوا لا يخرجون عما يراه لهم زين الدين ابن نجا، وأن الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين قال له: إذا رأيت مصلحة في شيء فأكتب إلي بها، فأنا ما أعمل إلا برأيك، ويذكر سبط بن الجوزي أن ابن نجا نشط في الوعظ والتحديث، وأن صلاح الدين وأولاده كان يحضرون مجلسه ويسمعون مواعظه، وكان له الجاه العظيم والحرمة الزائدة، وعندما خرج صلاح الدين لمحاربة الصليبيين في بلاد الشام كان يكاتب زين الدين بن نجا بوقائعه، من ذلك أنه عندما فتح قلعة حمص عام "570ه 1174م" كتب إليه يصف القلعة برسالة مطولة.

وعندما قرر رأي صلاح الدين على الاستقرار في بلاد الشام كتب له ابن نجا عام "580ه/1184م" كتاباً يشوقه إلى مصر ونيلها وخيراتها ومساجدها ومشاهدها ثم ذكر فضيلة مصر واستدل عليه بالآيات والأخبار والآداب والآثار، فرد عليه صلاح الدين في رسالة أوردها كل من سبط ابن الجوزي وأبو شامة يخبره بأن سكن الشام أفضل ومناخها أجود، وأن الله أقسم بها في القرآن، ويعاتبه على عدم حنينه إلى وطنه دمشق ويدعوه للانتقال إليها إلى أن ختمها بقوله: وزين الدين وفقه الله قد تعرض للشام فلم يرض أن يكون المساوي حتى شرع في ذكر المساوئ، ولعله يرجع إلى الحق ويعيد سعد أسعاده ورفاقه إلى الوفق إن شاء الله.

ومهما يكن الأمر فقد استمر ابن نجا يعمل مع صلاح الدين حتى دخل معه بيت المقدس فاتحاً وألقى في المسجد الأقصى أول مجلس للوعظ كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى، وقد توفي أبو الحسن علي بن إبراهيم بن نجا الحنبلي الملقب بزين الدين عام "599ه". <

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2024-11-29 03:22:14

نوفمبر المتجدد

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد