المؤلف/ علي محمد الصلابي
المبحث السابع
جهود صلاح الدين الأيوبي في توحيد الجبهة الإسلامية
كانت وفاة نور الدين مفاجأة لم يكن أحد ينتظرها، فبينما دمشق تحتفل معه بختان ولده في عيد الفطر سنة "569ه" إذ البلاد الإسلامية كلها تفتقده بعد أسبوعين مرة واحدة، وما إن عرف الخبر حتى انطلقت من عقالها كل الأطماع لا في أسرة نور الدين الأقربين فقط، ولكن في أمرائه وقادته العسكريين أيضاً، وفي الفرنج المحتلين على السواء، كل سعى ليستفيد أقصى الفائدة من غياب الرجل الذي كان يمسك حتى وفاته بمصير المنطقة والفرنج جميعاً بين يديه بمهابة وشجاعة وبتقى وبعد نظر، ترك نور الدين دولة مترامية الأطراف تمتد من برقة واليمن إلى الشام والجزيرة والموصل، وإذا استعرضنا شريط الأحداث عقب وفاته مباشرة لو وجدنا أن الصراع بين القوى قد بدأ، وأن مجموعات القوى تصرفت كل منها حسب قوتها.
فالأسرة الزنكية في الموصل: كان ممثلها ونائب نور الدين فيها سيف الدين غازي وهو ابن أخيه، وكان قد جمع جيشه لمعاونته في حرب الفرنج، فإذا به يتجه إلى "نصيبينِ" فيملكها، ويرسل الشحن إلى "الخابور" فيملكه ويقطعه، ثم يسير إلى "حران" فيحاصرها أياماً ويملكها من الخصي خادم نور الدين، ثم يرسل إلى الرقة من يتسلمها على الفرات، وإلى "سروج".
وهكذا أضحت مدن الجزيرة بيده، عدا "قلعة جعبر" فقد أعاد المكوس وتسامح في أمور اللهو والشرب.
والأمراء في دمشق تمسكوا بالطفل الملك الصالح الذي خلفه صلاح الدين وعمره "11" سنة واتفقوا أن يكونوا يداً واحدة، وجعلوا الأمير ابن المقدم كالرئيس على جماعتهم حين أعطوه أتابكية الطفل، أي الإشراف على تربيته.
والأمير شمس الدين ابن الداية مع أخويه كان يحكم حلب، فبقي مقطوعاً ما بين الزنكيين في شقه ومجموعة دمشق، وإن كان صديقاً لصلاح الدين وميله معه.
- وأما الفرنج فانتهزوا الفرصة فوراً، وهاجموا حصن بانياس عند مدخل الجولان الجنوبي "آخر شوال سنة "569ه/مايو 1174م" وأرسلت أرملة نور الدين بشجاعة تفوق شجاعة معظم النساء على قول وليام الصوري تطلب رفع الحصار، ومنح البلد هدنة مؤقتة ودفع مبلغ كبير من المال، ورفض الملك واستمر يحاصر بانياس أسبوعين، ودمر فيها آلاته، وأخيراً قبل المال مع إطلاق سراح الفرسان الصليبيين الأسرى وعاد ليموت بعد ذلك ويتولى بدلاً منه ابنه المجذوم الفتى بغدويه الرابع، وهذه هي رواية الفرنج.
أما المصادر العربية فتذكر أن ابن المقدم خرج إليهم بوصفه الأتابك وهادنهم على أن يؤدي مبلغاً ضخماً من المال، ويطلق الأسرى الفرنج ويهادنوه، ويبدو بوضوح أن زوجة نور الدين، وهي ابنة الأتابك أنر كانت ذات نفوذ في دمشق وبمكان رئاسة بوصفها أم الملك، ولهذا كانت الرسالة باسمها والأتابك ابن المقدم هو قائد الجيش والمدبر لأمور الدولة، وقد اتفق مع الفرنج على: الهدنة وقطع مواد الحرب والفتنة.
وأما صلاح الدين في مصر، فقد وصله الخبر عن طريق الفرنج، فلم يصدقه، وكتب إلى نور الدين يقول ورد خبر من جانب العدو اللعين عن المولى نور الدين أعاذ الله تعالى فيه من سماع المكروه، ونور بعافيته القلوب والوجوه، فاشتد به الأمر وضاق الصدر، فإن كان العياذ بالله قد تم فما رتب الملوك ممالكها إلا لأولادها.
فالله الله أن تختلف القلوب والأيدي فتبلغ الأعداء مرادها، ولا تنازعوا فتفشلوا فالعداوة محدقة بكم من كل مكان، ولهذا البيت منا ناصر لا نخذله، وقد كانت وصيته إلينا سبقت بأن ولده القائم بالأمر وسعد الدين كمشتكين بين يديه، فإن كانت الوصية ظهرت وقبلت وإلا فنحن لهذا الولد يد على من عاداه، وإن أسفر الخبر عن معافاة الغرض المطلوب، فورد عليه الكتاب من أمراء دمشق بتوقيع الملك الصالح يقول: أطال الله بقاء سيدنا الملك الناصر السيد الأجل وعظم الله أجرنا وأجره في والدنا السيد العادل، وقد اجتمع أمراء الحضرة على البيعة المؤكدة والأيمان المغلظة للملك الصالح وما ها هنا ما يشغل السر غير شغل الفرنج خذلهم الله، فما كان اعتماد مولانا السيد الملك العادل رضي الله عنه إلا عليه "أي صلاح الدين" وسكونه إلا لمثل هذا الحادث الكارث، وقد أمله ليومه وغده ورجاء لنفسه وولده، وهل سوى السيد الأجل الناصر من ناصر.
وكان أمراء دمشق يريدون تطمين صلاح الدين من جهة ليبقى بعيداً وتحديد عمله بقتال الفرنج فقط من جهة أخرى، لأن نور الدين كلفه ذلك وكانوا يعرفون قوته ويخشون تدخله.
أما صلاح الدين فجلس للعزاء ثلاثة أيام، وكتب للملك الصالح يعزيه وجاء في آخر الكتاب: وأما العدو خذله الله تعالى فوراءه من الخادم من يطلبه ليل نهار إلى أن يزعجه في مجاثمه، وذلك من أقل فروض البيت الكريم، أصدر هذه الخدمة يوم الجمعة رابع ذي القعدة وهو اليوم الذي أقيمت فيه الخطبة بالاسم الكريم.
وأشبه يوم الخادم أمسه في الخدمة، ووفى ما لزمه من حقوق النعمة، وجمع كلمة الإسلام، والله تعالى يخلد المولى الملك الصالح ويصلح به وعلى يديه ويوفق الخادم لما ينويه من توثيق سلطانه ومضاعفة ملك.
وقد جاء في كتاب آخر بعد ذلك: الخادم مستمر على ما بدأته من الاستشراف لأوامرها والرفع لكلمتها، والإيالة لعسكرها والتحقق بخدمتها، والترقب لأن يؤمر فيمتثل ويكلف فيحتمل، وأن يرمى به في نحر عدوه فيتسدد، ويوفي أيام الدولة العالية يوماً يكشف الله فيه للمولى ضمير عبده، وضرب السكة باسم الملك الصالح، وأرسل له منها وخطب باسمه على المنابر.
مراقبة صلاح الدين للأحداث في الشام والعراق: بقي صلاح الدين يراقب الأحوال في الشام والعراق، وحين سمع أخبارها وهو في مصر صار يكتب محتجاً تارة وناصحاً أو مشيراً تارة أخرى:
سمع بما اقتطعه سيف الدين غازي من مملكة عمه، فأرسل إلى الملك الصالح يعاتبه، إذ لم يعلمه بذلك ليحضر في خدمته ويرد سيف الدين عن مقصده.
وسمع بهجوم الفرنج على بانياس والهدنة التي اشتراها ابن المقدم منهم بالمال الكثير؛ فاستنكر المعاهدة وكتب إلى جماعة من الأعيان وإلى ابن المقدم وإلى القاضي ابن أبي عصرون في دمشق، يقول: لما بلغني وفاة المرحوم خرجت من مصر لقصد الجهاد وتطهير البلاد من أهل الكفر، فبلغني حادث الهدنة المؤذنة ببذل الإسلام، وسيدنا الشيخ أولى من جرد لسانه في إنكار هذا الأمر، فإنه بلسانه تغمد السيوف وتتجرد الحقوق، وأدرك صلاح الدين من هذا مبلغ ضعف أمراء دمشق.
وسمع بالخلاف ما بين أمراء دمشق وابن الداية في حلب، ثم تمكن القائد "شاد بخت" قائد قلعة حلب من التآمر مع ابن المقدم، ونقل الملك الصالح إلى حلب، وتدبير مؤامرة قبضوا بها على ابن الداية غداً، بعد أن وعدوه بأتابكية الدولة، وعلى أخويه وأودعوهم السجن بعد ضربه بالأيدي والأرجل، ثم غضب ابن المقدم أخيراً وهو بدمشق، فكتب إلى صلاح الدين يستدعيه للتدخل ومكث صلاح الدين ثلاثة أشهر ونصف الشهر في مصر بتربص 15/ شوال حتى مطلع صفر سنة "571ه"، ولم يكن يكل من المكاتبة، وهو مشغول بأمرين: حركة كنز الدولة في الداخل، والهجوم النورماندي الصقلي على الإسكندرية وكلاهما خطر كبير، وحين انتهى وجد أن حادثة القبض على ابن الداية دليل أخير على أن الأمراء في الشام سائرون مع أنانياتهم ومصالحهم وتنافساتهم ولم يرعوا رغبات نور الدين نفسه، وكان صلاح لادين يعتقد بأن ولده نور الدين يتولاه بعد أبيه مجد الدين ابن الداية، وإخوته في حلب وهم أصدقاؤه وحلفاؤه، ويطمئن إليهم ولكن ضربهم واعتقالهم غدراً جعله يقول: أنا أحق برعي العهود والسعي المحمود، فإنه إن استمرت ولاية هؤلاء تفرقت الكلمة المنجتمعة، وانفردت مصر عن الشام وطمع أهل الكفر في بلاد الإسلام، وكتب إلى ابن المقدم وهو صامب دمشق ينكر ما أقدموا عليه من تفريق الكلمة وكيف اجترؤوا على أعضاء الدولة وأركانها، وأنه يلزمه أمورهم وأمرها ويضره ضرهم وضرها، فكتب إليه ابن المقدم يردعه عن هذه العزيمة ويقبح له "التفكير بذلك"، ويقول: لا يقال عنك إنك طمعت في بيت غرسك ورباك واسسك، وأصفى مشربك وأجلى سكونك لملك مصر، وفي دسته أجلسك فيما يليق بما لك ومحاسن أخلاقك وخلانك غير فضلك وأفضالك.
ووقع صلاح الدين في حيرة بين الاستجابة لواجب الوفاء لبيت نور الدين وبين نار الاتهام بالطمع فيه، ويبدو أن كثرة المكاتبات التي وصلته من أكابر الشام ووجوهه من دمشق وشيوخها حسمت حيرته وقرر التدخل، ولو لم يفعل والناس قد نقلوا آمالهم من نور الدين بعد وفاته إليه وعلقوا عليه الآمال، لم يكن صلاح الدين اليوم شيئاً مذكوراً، وكان اسماً من أسماء الأمراء العابرين في عصره.
لم يكن صلاح الدين منذ أواخر عهد نور الدين مجرد قائد بارز بين أمرائه، ولكنه أضحى مؤسسة عسكرية تابعة له، وأسرة متعاونة من القادة، كان فيها أولاً شيركوه ونجم الدين أيوب، ثم صلاح الدين وخاله شهاب الدين الحارمي، ثم إخوته، وبرز منهم توران شاه وطغتكين وأبو بكر العادل وبوري، وبعض أبناء أخي صلاح الدين ابن عمه، بالإضافة إلى بعض أولاد صلاح الدين: الأفضل علي والظاهر غازي والعزيز عثمان، فهم ثلاثة أجيال من القادة وضعوا أنفسهم في خدمة نور الدين وحملوا لواءه، وقد جمعهم نور الدين بنفسه بعضهم مع بعض ليتعارفوا بسبب رابطة القربى بينهم، وكان نور الدين واثقاً من صلاح الدين ومن تعاونهم معه وسيطرتهم عليهم كمجموعة في مصر، وواثقاً أيضاً من حسن تأتيه للأمور.
ولم تكن قوة صلاح الدين في هذا وحده، ولكنها كانت أيضاً في غنى مصر ومواردها من الاقتصاد ومن البشر، وكانت الأرض التي صارت إقطاعة أوسع وأكبر في المدى والغنى من مملكة نور الدين الأصلية نفسها في الشام والجزيرة وكانت إمارته وحدها ولها من برقة إلى النوبة إلى اليمن، وهكذا كان وضع صلاح الدين لا يشبه وضع القادة الآخرين لنور الدين، ويفوقهم قوة وغنى ومكانة، وأولاد الداية الثلاثة لم يبرز منهم غير واحد، ولم تتح له الفرصة التي أتيحت لصلاح الدين؛ الذي كانت مصر بمثابة المجمع أو المختبر الذي برزت فيه قدرات الأسرة الأيوبية وكان صلاح الدين يدرك هذا جيداً كما يدركه الأمراء الآخرون.