;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة التاسعة والستون 973

2008-11-15 03:44:30

المؤلف/ علي محمد الصلابي

وحين اجتمع أمراء دمشق على التعاون يداً واحدة ومنابذة صلاح الدين: الشيخ إسماعيل خازن المال، والحسين الجراحي، وشهاب الدين العجمي والطواشي حسام الدين ريحان، وعلى رأسهم ابن المقدم بحضور القاضي كمال الدين الشهرزوري، وقال القاضي: قد علمتم أن صلاح الدين صاحب مصر هو من مماليك نور الدين ونوابه والمصلحة أن يشاور في الذي نفعله ولا نخرجه من بيننا فيخرج عن طاعتنا ويجعل ذلك حجة علينا، وهو أقوى منا لانفراده بملك مصر، أخرجنا وتولى هو خدمة الملك الصالح، فلم يوافق أغراضهم هذا القول، وخافوا أن يدخل صلاح الدين ويخرجوا، وظنوا أنه إذا دخل البلاد أخرجهم منها، وتفرغ صلاح الدين من مهامه في مصر بعد أن أساءه وأغضبه ما كان يجري، وبخاصة ما جرى بحلب من شقاق سني شيعي، وغدرهم بصديقه ابن الداية، وكان قد كتب إلى ابن المقدم في دمشق وإلى الأمراء: لو أن نور الدين يعلم أن فيكم من يقوم مقامي به مثل ثقته بي لسلم إليه مصر التي هي أعظم ممالكه وولاياته، ولو لم يعجل عليه الموت لم يعهد إلى أحد بتربية ولده والقيام بخدمته غيري، وأراكم قد تفردتم بمولاي وابن مولاي دوني، وسوف أصل إلى خدمته وأجازي أنعام والده بخدمة يظهر أثرها، وأجازي كلا منكم على سوء صنيعه في ترك الذب عن بلاده.

وهكذا اعتبر نفسه مسؤولاً عن دولة الملك الصالح وحسن حمايته وحمايتها، وكتب إلى الأمراء بحلب ينذرهم بقدومه إلى الشام، فكتبوا إليه يسيئون الأدب، ويبدو أنهم ظنوا أنه يغادر مصر، وكتبوا إلى صاحب الموصل يطلبون إليه الحضور إلى دمشق ليملكها قبل صلاح الدين، فظن ذلك مكيدة منهم ولم يلب طلبهم وألح أهل دمشق على ابن المقدم الذي عاد إليهم بدعوة صلاح الدين لئلا يستولي ك "مشتكين" الذي استأثر بحلب على دمشق أيضاً، وكثرت المكاتبات التي وصلت للحضور إلى الشام، فقرر صلاح الدين ذلك.

أولاً: ضم دمشق:

بعد أن استتب الوضع الداخلي في مصر، تجهز صلاح الدين للزحف نحو بلاد الشام بعد خمسة أشهر من وفاة نور الدين محمود، وقد خرج من القاهرة في "شهر صفر عام 570ه" شهر أيلول عام "1174م" على رأس سبعمائة جندي، ورافقه سيف الدين طغتكين وتقي الدين عمر، وعز الدين فروخ شاه، وعهد إلى أخيه العادل بإدارة شؤون مصر أثناء غيابه، كما احتاط للمحافظة عليها، فوزع بعض عساكره على ثغورها ومداخلها، وقطع الطريق في بلبيس، وتفقد حصن أيلة ربيع الثاني سنة "571ه"، وتوقع على الطريق في بلبيس وتفقد حصن أيلة "العقبة"، هل كان يفكر في ما سوف يشيعه الأمراء والزنكيون في اتهامه بالعقوق وبالطمع الشخصي؟ أم كان يتأنى وهو يرسم الخطة لكسب أمراء نور الدين دون حرب أو نزاع؟ أم كان يقيس مدى شعبيته لدى الناس بهذا الجيش القليل، فيأتي الشام كالأعزل وجيشه في مصر؟ أم كان يتحدى الذين يريدون عزله في مصر والانفراد بإرث نور الدين وولده؟ أم كان يمهد بهدوء لدخول البلاد سلماً بالاستناد إلى محبته الشعبية، أفكار كثيرة يمكن أن ترد إلى خاطره، ولعل أشدها أن أعداءه سيظنون به الظنون ويركبونها، ويشنعون عليه بالمطامع الشخصية، فقد كتب كتاباً بالإنشاء الفاضلي قال فيه: إن الوفاء إنما يكون بعد الوفاة والمحبة تظهر آثارها عند تكاثر العداة وبالجملة فأنا في واد والظانون بي ظن السوء في واد ولنا من الصلاح مراد لن يبعدنا عنه مراد، ولا يقال لمن طلب الصلاح إنك قادح، ولا لمن ألقى السلاح إنك جارح، وما مرادنا إلا مصلحة تؤثر، لا فتنة تثار، فلو زدنا على غير هذا السبيل لما سلكنا مراجعة الخطاب ومطالعة الكتاب، فلا يحمل أمرنا إلا على أحسنه، ولا يظن بنا إلا الخير الذي طبعنا أخص بوجوده من معدنه، وقد أرسل صلاح الدين رسالة إلى الخليفة المستضيء يوضح فيها سبب زحفه على بلاد الشام وكان الهدف من الرسالة إضفاء الصفة الشرعية للعمل الذي يقوم به، وكذلك لإشعار الخلافة العباسية بولائه لها فذكر:

1- خطاب صلاح الدين الموجه للخليفة العباسي:

أرسل السلطان صلاح الدين الخطيب شمس الدين بن الوزير أبي المضاء إلى الديوان العزيز برسالة ضمنها القاضي الفاضل كتاباً طويلاً رائقاً فائقاً، يشتمل على تعداد ما للسلطان من الأيادي من جهاد الإفرنج في حياة نور الدين، ثم فتح مصر واليمن، وبلاد جمة من أطراف المغرب، وإقامة الخطبة العباسية بها يقول في أوله للرسول: فإذا قضي التسليم حق اللقاء، واستدعى الإخلاص جهد الدعاء، فليعد حوادث ما كانت حديثاً يفترى وجواري أمور إن قال فيها كثيراً فأكثر منه ما قد جرى، وليشرح صدراً منها لعله يشرح منا صدراً وليوضح الأحوال المستترة فإن الله لا يعبد سراً.

ومن الغرائب أن تسير غرائب

في الأرض لم يعلم بها المأمول

كالعيس أقتل ما يكون لها الظمأ

والماء فوق ظهورها محمول

فإنا كنا نقتبس النار بأكفنا وغيرنا يستنير، ونستنبط الماء بأيدينا وسوانا يستمير، ونلقى السهام بنحورنا وغيرنا يعتمد التصوير، ونصافح الصفاح بصدورنا وغيرنا يدعي التصدير.

ولا بد أن نسترد بضاعتنا بموقف العدل الذي ترد به الغصوب، وتظهر طاعتنا فنأخذ بحظ القلوب، وما كان العائق إلا كنا ننتظر ابتداءً من الجانب الشريف بالنعمة يضاهي ابتداءنا بالغمة، وإيجاباً للحق يشاكل إيجابنا للسبق، وكان أول أمرنا أنا كنا في الشام نفتتح الفتوح مباشرين بأنفسنا ونجاهد الكفار، متقدمين لعساكرنا نحن ووالدنا وعمنا، فأي مدينة فتحت أو معقل ملك أو عسكر للعدو كسر أو مصاف للإسلام معه طرب لم نكن فيه، فما يجهل أحد صنعاً ولا يجحد عدونا أنا نعطي الجمرة، ونملك الكرة ونتقدم الجماعة ونرتب المقاتلة، وندبر التعبئة، إلى أن ظهرت في الشام الآثار التي لنا أجرها، ولا يضرنا أن يكون لغيرنا ذكرها، وكانت أخبار مصر تتصل بنا بما الأحوال عليه فيها من سوء تدبير وبما دولتها عليه من غلبة صغير على كبير، وأن النظام بها قد فسد والإسلام بها قد ضعف عن إقامته كل من قام وقعد، والفرنج قد احتاج من يدبرها إلى أن يقاطعهم بأموال كثيرة، لها مقادير مسماة فإنها متحاماة، وتلك البدع بها على ما يعلم، وتلك الضلالات فيها على ما يفتى به بفراق الإسلام ويحكم، وذلك المذهب قد خالط من أهله اللحم والدم، وتلك الأنصاب قد نصبت آلهة تعبد من دون الله وتعظم وتضخم، فتعالى عن شبه العباد، وويل غرة تقلب الذين كفروا في البلاد.

فسمت همتها دون همم أهل الأرض إلى أن نستفتح مقفلها، ونسترجع للإسلام شاردها، ونعيد على الدين ضالته منها، فسرنا إليها في عساكر ضخمة وجموع جمة وبأموال انتهكت الموجود، وبلغت منا المجهود، أنفقناها من حاصل ذممنا، وكسب أيدينا، وثمن أسارى الفرنج الواقعين في قبضتنا فعرضت عوارض منعت، وتوجهت للمصريين رسل باستنجاد الفرنج قطعت "ولكل أجل كتاب، ولكل أمل باب.

وكان في تقدير الله أنا نملكها على الوجه الأحسن، ونأخذها بالحكم الأقوى الأمكن، فغدر الفرنج بالمصريين غدرة في هدنة عظم خطبها وخبطها، وعلم أن استئصال كلمة الإسلام محطها، فكاتبنا المسلمون من مصر في ذلك الزمان، كما كاتبنا المسلمون من الشام في هذا الأوان بأنا إن لم ندرك الأمر وإلا خرج عن اليد، وإن لم ندفع غريم اليوم لم نمهل إلى الغد، فسرنا بالعساكر المجموعة وأمراء الأهل المعروفة، إلى بلاد قد تمهد لنا بها أمران وتقرر لنا في القلوب ودان: الأول ما علموه من إيثارنا للمذهب الأقوم وإحياء الحق الأقدم، والآخر ما يرجونه من فك إسارهم وإقالة عثارهم، ففعل الله ما هو أهله وجاء الخير إلى العدو فانقطع حبله وضاقت به سبله وأفرج عن الديار بعد أن كانت ضياعها ورساتيقها وبلادها وأقاليمها، وقد نفذت فيها أوامره، وخففت عليها صلبانه، ونصبت بها أوثانه، ونصبت بها أوثانه، وأيس من أن يسترجع ما كان بأيديهم حاصلاً، وأن يستنقذ ما صار في ملكهم داخلاً ووصلنا البلاد وبها أجناد عددهم كثير، وسوادهم كبير، وأموالهم واسعة، وكلماتهم جامعة، وهم على حرب الإسلام أقدر منهم على حرب الكفر، والحيلة في السر فيهم من العزيمة في الجهر، وبها راجل من السودان يزيد على مئة ألف، كلهم أغتام أعجام "إن هم إلا كالأنعام" لا يعرفون رباً إلا ساكن قصره، ولا قبلة إلا ما يتوجهون إليه من ركنه، وامتثال أمره، وبها عسكر من الأرمن باقون على النصرانية موضوعة عنهم الجزية، كانت لهم شوكة وشكة، وحمة وحمية، ولهم حواش لقصورهم من بين داع تلطف في الضلال مداخله، وتصيب القلوب مخاتله، ومن بين كتاب تفعل أقلامهم أفعال الأشل، وخدام يجمعون إلى سواد الوجوه سواد النحل، ودولة قد كبر نملها الصغير، ولم يعرف غيرها الكبير، ومهابة تمنع من خطرات الضمير، فكيف بخطوات التدبير، هذا إلى استباحة للمحارم ظاهرة، وتعطيل الفرائض على عادة جائرة، وتحريف للشريعة بالتأويل، وعدول إلى غير مراد الله بالتنزيل، وكفر سمي بغير اسمه وشرع يتستر به ويحكم بغير حكمه، فما زلنا نسحتهم سحت المبادر للشفار، ونتحفهم تحيف الليل والنهار للأعمار، بعجائب تدبير لا تحتملها المساطير، وغرائب تقدير لا تحملها الأساطير، ولطيف توصل ما كان من حيلة البشر ولا قدرتهم لولا إعانة المقادير، وفي أثناء ذلك استنجدوا علينا الفرنج، دفعه إلى بلبيس ودفعة إلى دمياط، وفي كل دفعة منهما وصلوا بالعدو المجهر والحشد الأوفر، وخصوصاً في نوبة دمياط، فإنهم نازلوها بحراً في ألف مركب، مقاتل وحامل، وبراً في مئتي ألف فارس وراجل، وحاصروها شهرين يباركونها ويراوحونها، ويمارسونها ويصابحونها القتال الذي يصلبه الصليب، والقراع الذي ينادي به الموت من كل مكان قريب، ونحن نقاتل العدوين الباطن والظاهر، ونصابر الضدين المنافق والكافر، حتى أتى الله بأمره وأيدنا بنصره وخابت المطامع من المصريين والفرنج، وشرعنا في تلك الطوائف من الأرمن والسودان والأجناد، فأخرجناهم من القاهرة بالأوامر المرهقة لهم، وبالأمور الفاضحة منهم، وبالسيوف المجردة وبالنار المحرقة، حتى بقي القصر ومن به من خدم ومن ذرية قد تفرقت شيعه وتمزقت بدعه وخفتت دعوته، وخفيت ضلالته، فهناك تم لنا إقامة الكلمة، والجهر بالخطبة والرفع للواء الأسود المعظم، وعاجل الله الطاغية الأكبر لهلاكه وفنائه، وبرأنا من عهده يمين ثم يمين كان إثم حنثها أيسر من إثم إبقائه؛ لأنه عوجل لفرط روعته، ووافق هلاك شخصه هلاك دولته، ولما خلا ذرعنا، ورحب وسعنا نظرنا في الغزوات إلى بلاد الكفار فلم تخرج سنة إلا عن سنة أقيمت فيها براً وبحراً، مركباً وظهراً، إلى أن أوسعناهم قتلاً وأسراً وملكنا رقابهم قهراً وقسراً، وفتحنا لهم معاقل ما خطر أهل الإسلام فيها مذ أخذت من أيديهم ولا أوجفت عليهم خيلهم ولا ركابهم مذ ملكها أعاد بهم، فمنها ما حكمت فيه يد الخراب، ومنها ما استولت عليه يد الاكتساب، ومنها قلعة بثغر أيلة كان العدو قد بناها في بحر الهند، وهو المسلوك منه إلى الحرمين واليمن، وغزا ساحل الحرم فسبى خلقاً، وخرق الكفر في هذا الجانب خرقاً، فكادت القبلة أن يستولي على أصلها ومشاعر الله أن يسكنها غير أهلها، ومقام الخليل عليه السلام أن يقوم به من نارة غير برد وسلام، ومضجع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتطرقه من لا يدين بما جاء به من الإسلام، ففتح الله هذه القلعة وصارت معقلاً للجهاد، وموكلاً لسفار البلاد وغيرهم من عباد العباد.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2024-11-29 03:22:14

نوفمبر المتجدد

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد