المؤلف/ علي محمد الصلابي
ثم قال:وكان باليمن ما علم من ابن مهدي الضال الملحد المبدع المتمرد، وأنه آثار في الإسلام، وثأر طالبه النبي عليه الصلاة والسلام لأنه سبى الشرائف الصالحات وباعهن بالثمن البخس، واستباح منهن كل ما لا يقر المسلم عليه نفس، ودان ببدعة، ودعا إلى قبر أبيه وسماه كعبة وأخذ أموال الرعاية المعصومة وأباحها، وأحل الفروج المحرمة وأباحها فأنهضنا إليه أخانا بعسكرنا بعد أن تكلفنا له نفقات واسعة وأسلحة رائعة، وسار فأخذناه ولله الحمد، وأنجح الله فيه القصد، والكلمة هنالك بمشيئة الله إلى الهند سامية وإلى ما يقتضي الإسلام عذرته متمادية.
ولنا في المغرب أثر أغرب، وفي أعماله أعمال دون مطلبها مهالك كما يكون المهلك دون المطلب، وذلك أن بني عبدالمؤمن قد اشتهر أن أمرهم قد أمر وملكهم قد عمر، وجيوشهم لا تطالق وأمرهم لا يشاق، ونحن بحمد الله قد تملكنا مما يجاورنا منه بلاداً تزيد مسافتها على شهر، وسيرنا إليها عسكراً بعد عسكر، فرجع بنصر بعد نصر، ومن البلاد المشاهير والأقاليم الجماهير: برقة، قفصة، قسطيلية، توزر، كل هذه تقام فيها الخطبة لمولانا المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين سلام الله عليه ولا عهد للإسلام بإقامتها وينفذ فيها الأحكام بعلمها المنصور وعلامتها.
وفي هذه السنة كان عندنا وفد قد شاهده وفود الأمصار ورموزه بأسماع وأبصار، مقداره سبعون راكباً كلهم يطلب لسلطان بلده تقليداً، ويرجو منا وعداً ويخاف وعيداً، وقد صدرت عنا بحمد الله تقاليدها، وألقيت إلينا مقاليدها، وسيرنا الخلع والمناشير والألوية، بما فيها من الأوامر والأقضية، فأما الأعداء المحدقون بهذه البلاد والكفار الذين يقاتلوننا بالممالك العظام والعزائم الشداد، فمنهم صاحب قسطنطينية وهو الطاغية الأكبر والجالوت الأكفر، وصاحب المملكة التي أكلت على الدهر وشربت، وقائم النصرانية التي حكمت دولته على ممالكها وغلبت، جرت لنا معه غزوات بحرية، ومناقلات ظاهرة وسرية، ولم نخرج من مصر إلى أن وصلتنا رسله في جمعة واحدة نوبتين، بكتابين، كل واحد منهما يظهر فيه خفض الجناح وإلقاء السلاح والانتقال من معاداة إلى مهاداة، ومن مفاضحة إلى مناصحة، حتى إنه أنذر بصاحب صقلية وأساطيله التي ترد ذكرها وعساكره التي لم يخف أمرها.
ومن هؤلاء الكفار هذا صاحب صقلية، كان حين علم بأن صاحب الشام وصاحب قسطنطينية قد اجتمعا في نوبة دمياط فغلبا وقسرا وهزما وكسرا، أراد أن يظهر قوته المستقلة فعمر أسطولاً استوعب فيه ماله وزمانه، فله الآن خمس سنين يكثر عدته، وينتخب عدته، إلى أن وصل منها في السنة الخالية إلى الإسكندرية أمر رائع وخطب هائل، ما أثقل ظهر البحر مثل حمله، ولا ملأ مدره مثل خيله ورجله، وما هو إلا أقليم بل أقاليم نقله، وجيش ما احتفل ملك قط بنظيره لولا أن الله خذله، ومن هؤلاء الجيوش البنادقة، والبياشنة والجنوية كل هؤلاء تارة يكونون غزاة لا تطاق ضراوة ضرهم، ولا تطفأ شرارة شرهم، وتارة يكونون سفاراً يحتكمون على الإسلام في الأموال المجلوبة، وتقصر عنهم يد الأحكام المرهوبة، وما منهم إلا من هو الآن يجلب إلى بلدنا آلة قتاله وجهاده، ويتقرب إلينا بإهداء طرائف أعماله وتلاده وكلهم قد قررت معهم المواصلة، وانتظمت معهم المسالمة على ما نريد ويكرهون وعلى ما نؤثر وهم لا يؤثرون.
ولما قضى الله سبحانه بالوفاة النورية وكنا في تلك السنة على نية الغزاة والعساكر قد تجهزت والمضارب قد برزت ونزل الفرنج بانياس وأشرفوا على اجتيازها ورأوها فرصة مدوا يد انتهازها، استصرخ بنا صاحبها، فسرنا مراحل اتصل بالعدو أمرها، وعوجل بالهدنة الدمشقية التي لولا مسيرنا ما انتظم حكمها، ثم عدنا إلى البلاد وتوافق إلينا الأخبار بما المملكة النورية عليه من تشعب الآراء وتوزعها، وتشتت الأمور وتقطعها، وأن كل قلعة قد حصل فيها صاحب وكل جانب قد طمع إليه طالب، والفرنج قد بنوا قلاعاً يتحيفون بها الأطراف الإسلامية، ويضايقون بها البلاد الشامية وأمراء الدولة النورية قد سجن كبارهم، وعوقبوا وصودروا، والمماليك الأغمار الذين خلقوا للأطراف لا للصدور، وجعلوا للقيام لا للقعود في المجلس المحضور، قد مدوا الأيدي والأعين والسيوف، وساءت سيرتهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وكل واحد يتخذ عند الفرنج يداً، ويجعلهم لظهره سنداً، وعلمنا أن البيت المقدس إن لم تتيسر الأسباب لفتحه، وأمر الكفر إن لم يجرد العزم في قلعه، وإلا نبتت عروقه واتسعت على أهل الدين خروقه، وكانت الحجة لله قائمة، وهمم القادرين بالقعود آثمة.
وأنا لا نتمكن بمصر منه مع بعد المسافة وانقطاع العمارة، وكلال الدواب التي بها على الجهاد القوة، وإذا جاورناه كانت المصلحة بادية، والمنفعة جامعة واليد قادرة، والبلاد قريبة والغزوة ممكنة والميرة متسعة والخيل مستريحة، والعساكر كثيرة الجموع، والأوقات مساعدة.
وأطحنا ما في الشام من عقائد معتلة وأمور مختلة وآراء فاسدة، وأمراء متحاسدة وأطماع غالبة وعقول غائبة، وحفظنا الولد القائم بعد أبيه فإنا به أولى من قوم يأكلون الدنيا باسمه ويظهرون الوفاء في خدمته وهم عاملون بظلمه.
والمراد الآن هو كل ما يقوي الدولة، ويؤكد الدعوة ويجمع الأمة ويحفظ الألفة ويضمن الرأفة ويفتح بقية البلاد وأن يطبق بالاسم العباسي كل ما تطبقه المهاد، وهو تقليد جامع بمصر، واليمن والمغرب والشام، وكل ما تشتمل عليه الولاية النورية، وكل ما يفتحه الله تعالى للدولة العباسية بسيوفنا وسيوف عساكرنا، ولمن نقيمه من أخ أو ولد من بعدنا تقليداً يضمن للنعمة تخليداً، وللدعوة تجديداً، مع ما ينعم من السمات التي فيها الملك.
وبالجملة فالشام لا تنتظم أموره بمن فيه، والبيت المقدس ليس له قرن يقوم به ويكفيه، والفرنج فهم يعرفون منا خصماً لا يمل الشر حتى يملوا، وقرناً لا يزال محرم السيف حتى يجلوا، وغذا شد رأينا حسن الرأي ضربنا بسيف يقطع في غمده، وبلغنا المنى بمشيئة الله تعالى ويد كل مؤمن تحت برده واستنقذنا أسيراً من المسجد الذي أسرى الله إليه بعبده.
ومن كتاب آخر فاضلي جاء فيه: لم يكن سبب خروج المملوك من بيته إلا وعد كان انعقد بينه وبين نور الدين رحمه الله تعالى في أن يتجاذبا طرفي الغزاة من مصر والشام المملوك بعسكري بره وبحره، ونور الدين من جانب سهل الشام ووعره، فلما قضى الله بالمحتوم على أحدهما وحدثت بعد الأمور أمور، واشتهرت للمسلمين عورات وضاعت ثغور، وتحكمت الآراء الفاسدة وفورقت المحاج القاصدة، وصارت الباطنية بطانة من دون المؤمنين والكفار محمولة إليها جزى المسلمين، والأمراء الذين كانوا للإسلام قواعد، وكانت سيوفهم للنصر موارد، يشكون ضيق حلقات الإسار، وتطرق الكفار بالبناء في الحدود الإسلامية، ولا خفاء أن الفرنج بعد حلولنا بهذه الخطة قاموا وقعدوا، واستنجدوا علينا أنصار النصرانية في الأقطار، وسيروا الصليب ومن كسى مذابحهم بقمامة وهددوا طاغية كفرهم بأشراط القيامة ونفذوا البطارقة، والقسيسين برسائل صور من يصورونه ممن يسمونهم القدسيين، وقالوا: إن الغفلة إن وقعت أوقعت فيما لا يستدرك فارطه وإن كلاً من صاحب قسطنطينية، وصاحب صقلية، وملك الألمان وملوك ما وراء البحر، وأصحاب الجزائر، كالبندقية والبيشانية والجنوية، وغيرهم قد تأهبوا بالعمائر البحرية والأساطيل القوية، والإسلام يا أمير المؤمنين أعز ناصراً، لا سيما وهم ينصرون باطلاً وهو ينصر حقاً وهو يعبد خالقاً وهم يعبدون خلقاً، وقد استجاب الخليفة لمطالب صلاح الدين وأنعم عليه بحكم مصر والشام وأرسل إليه رسل دار الخلافة عندما كان يحاصر حماه في عام "570ه/1174م" تحمل التشريفات والتقليد والتمليك، والتفويض.
وهذا دليل على رغبة الخلافة العباسية في التعامل الصادق مع صلاح الدين الذي رأت فيه الشخصية التي سوف تملأ الفراغ الذي تركه نور الدين محمود، واعتراف له بالسلطنة، وأنه أصبح الشخصية المؤهلة للدفاع عن المسلمين، وقد أضفى هذا التقليد عليه المهابة أمام الأمراء المسلمين بعامة، والصليبيين بخاصة، والواقع أن صلاح الدين على الرغم مما توافر له من القوة كان بحاجة إلى مساندة الخلافة في صراعه مع الأمراء المسلمين المناوئين وبخاصة الزنكيين، لذلك كان يطلع هذه الخلافة على تحركاته ومنجزاته ليكسب تأييدها.
2- دخوله دمشق:
وصل صلاح الدين بجيشه إلى دمشق واستقبل استقبالاً طيباً وفتح له ابن المقدم في اليوم التالي، أبواب المدينة وسلمها له، وامتنعت عليه القلعة وكانت بيد خادم اسمه جمال الدين ريحان، فاستماله صلاح الدين وأقنعه بتسليمها له، وهكذا ضم صلاح الدين دمشق وقلعتها بحجة حماية الصالح إسماعيل من خطر الصليبيين، والأمراء الطامعين، واسترد الأملاك التي استولى عليها سيف الدين غازي أمير الموصل والجزيرة، واعتمد صلاح الدين في دمشق سياسة تأييد الناس له فأمر بإنفاق الأموال على الناس وإبطال الضرائب، وإزالة المكوس، وإطابة النفوس، وأكرم العلماء لما كان لهم من تأثير كبير على العامة حيث زار دار القاضي كمال الدين الشهروزري وأزال سوء التفاهم بينهم، وأجابه القاضي الشهرزوري بقوله: طب نفساً فالأمر أمرك والبلد بلدك، فكانت كلمات القاضي إعلاناً للدمشقيين بالتسليم المطلق لصلاح الدين والانقياد له، فأعلنوا فرحتهم وسرورهم، وسلموا مقاليدهم إلى صلاح الدين، وقابلهم بالإكرام والترحيب وأظهر السرور بهم.
وألقى صلاح الدين كلمة في أهل دمشق قال فيها: إن الله ملكنا دمشق عناية لا عنوة، ولم يكتب فيها بحمد الله إلى خطيئة خطوة ولا حدثت عثرة فيقال في أمرها لعله يقال ولا استعبدت حقه في ذكرها لعله يقال:. . فعلموا أن الهيثم تذره الرياح والصريح يمحوه الصباح والسيف أصدق إنباء والحق أعز بناء والباطل يضمحل عناء، والزبد يذهب جفاء، إلا وأنا رأينا العفو أقرب للتقوى وأمثل في سلوك الطريقة المثلى، فحفظنا الدماء في أهبتها، وأرحنا القلوب من نصبها وأبقينا السلطنة في منصبها، ورددنا السيف عن قرب نقيضها في قربها وتركنا الرياح وأطرافها تضطرم وستضطرب وقداً، وقلنا لنار الغيظ يا نار كوني برداً، ونظرنا في أحوال البيت النوري أعلاه فإذا قد أطفأت مصابيح نوره، وكاد ذكره في الذهاب يلحق بمذكوره.
وبعد ضم دمشق أخذ صلاح الدين ينفذ سياسته في إعادة بناء الجبهة الإسلامية المتحدة، بحيث تمتد من شمالي العراق إلى بلاد الشام، فمصر، ليتمكن بعد ذلك من البدء في حركة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين، والمسلمون أشد ما يكونون قوة وتماسكاً.
ولما حصل على دمشق وقلعتها واستوطن بقعتها، نشر علم العدل والإحسان، وعفى آثار الظلم والعدوان، وأبطل ما كان الولاة استجدوه بعد موت نور الدين من القبائح والمنكرات والمؤن والضرائب والمحرمات.
ثم تابع تقدمه باتجاه الشمال لمناوأة كمشتكين في حلب، بعد أن عين أخاه طغتكين والياً على دمشق، فضم حمص وتقدم باتجاه حلب، بعد أن استعصت عليه القلعة. <