المؤلف/ علي محمد الصلابي
تولى الملك الصالح إسماعيل الحكم بعد وفاة والده، ولما كان صغيراً لا يفقه تدبير شؤون الحكم، لذلك كان وجوده على رأس السلطة إسمياً فقط، بينما تمكن أعوانه من التلاعب بمقدرات الدولة ونقلوا مركز الحكم من دمشق إلى حلب، ومن حلب بدأ كمشتكين الوصي على الملك الصالح والمتفرد بحكم المدينة تنفيذ سياسة خاصة تقضي بتثبيت نفوذه، فاعتقل ابن الداية وراح يخطط لإبعاد صلاح الدين عن حلب بكل الوسائل، فعندما تقدم صلاح الدين إلى حلب، بعث إليه كمشتكين كتاباً اتهمه فيه بحبه للغزو والسيطرة على أملاك سيده نور الدين محمود وابنه الملك الصالح.
والواقع أن صلاح الدين وقف على نوايا كمشتكين وغاياته، فكان يراسل الملك الصالح لتوضيح الأمر له وإبداء النصح منعاً لتردي العلاقات بينهما، ويبدو أن الملك الصالح لم يكن راضياً عن تصرفات أمرائه إلا أنه كان ضعيفاً لا يستطيع إبعادهم من حوله، كما كان سريع التأثر بهم نظراً لصغر معارضته لاعتقال عز الدين جورديك، أمير حماه ورسول صلاح الدين إليه لعقد صلح بين الطرفين، إلا أن كمشتكين لم يأبه لهذه المعارضة فقبض على جورديك وأثقله بالحديد وعذبه ووضعه في الجب الذي وضع فيه أولاد ابن الداية، ولذلك كان من الطبيعي أن يتوجه صلاح الدين إلى حلب لإنقاذ رسوله والملك الصالح من قبضة كمشتكين وضم حلب إلى أملاكه، ونظراً لأهميتها في مخططه القاضي بتوحيد القوى الإسلامية أغلق كمشتكين أبواب حلب في وجه صلاح الدين الذي شرع في 3 جمادي الآخرة عام "570ه/30 كانون الأول" عام "1174م" في حصارها.
وكان أهلها يميلون إلى الإذعان له باستثناء الشيعة فيها، وناشدهم الملك الصالح أن يحافظوا عليه من رجل يريد أن يسلبه إرثه، فاشترطوا لمؤازرته أن:
يخصص الجانب الشرقي من الجامع لهم.
يعاد الأذان ب "حي على خير العمل" وأن يذكر ذلك في الأسواق.
يذكر أسماء الأئمة الأثني عشر بين يدي الجنائز.
يكبر على الجنازة خمساً.
تعود عقود نكاحهم إلى أبي طاهر الحسيني.
وافق الصالح إسماعيل على طلبهم بتأثير من كمشتكين حدث هذا في الوقت الذي لجأ فيه كمشتكين إلى الاستعانة بالحشيشة والصليبيين لإبعاد صلاح الدين عن أسوار حلب استجاب سنان زعيم الشيعة الباطنية الإسماعيلية وبعث بجماعة من الفدائيين في جمادي الآخرة "570ه/كانون الثاني" 1175م لقتل صلاح الدين متنكرين بزي الجند، فتمكن بعضهم من التسلل إلى خيمته وأوشكوا على تنفيذ مؤامرتهم ولكن انكشف أمرهم ونجا صلاح الدين من محاولة الاغتيال، وبعد أن فشل الشيعة الإسماعيلية في اغتيال صلاح الدين أرسل كمشتكين إلى ريموند الثالث أمير طرابلس، والوصي على عرش مملكة بيت المقدس، أن يحد من تعاظم قوة صلاح الدين، إذ لم يكن بوسع الصليبيين أن يمنعوا وحدة دمشق والقاهرة، غير أن حلب ما زالت على الأقل خارجة عن الاتحاد، وهكذا أدرك الصليبيون أن استقلال حلب وبقاءها في يد البيت الزنكي هو الضمان الوحيد لمنع قيام وحدة إسلامية تمتد من النيل إلى الفرات، وقد توافقت مصالحهم مع مصالح الزنكيين في هذا الشأن، وحاول ريموند الثالث الالتجاء إلى الوسائل السياسية فأرسل إلى صلاح الدين يرغبه في الصلاح ويلوح على ريموند الثالث بالإغارة على أعمال أنطاكية.
عندئذ لم يجد الحاكم الصليبي وسيلة لإبعاد صلاح الدين عن حلب سوى مهاجمة حمص، فظهر أمامها وشرع يهاجم أسوارها إلى رفع الحصار عن حلب وارتحل عن أسوارها لإنقاذ حمص غير أن ريموند الثالث لم يمكث ليلتقي به فعاد إلى حصن الأكراد بعد أن تأكد من تحقيق غرضه.
ولما اطمأن صلاح الدين على سلامة حمص غادرها متوجهاً إلى بعلبك وضمها إلى أملاكه في "4 رمضان 570ه/30 آذار 1175م" كان أمراء حلب يعرفون أن صلاح الدين أقوى منهم مادياً ومعنوياً، فقد أخطؤوا بالتخطيط للتعامل معه، واعتمدوا على إمكان إثارة ثلاث قوى معهم ضده: الموصل، والفرنج، والإسماعيلية؛ ولذلك أرسلوا رسولاً هو قطب الدين ينال بن حسان المنجي برسالة تبرق وترعد، ومع أن صلاح الدين استقبل الرسول بنفسه بالترحاب ثلاثة أيام؛ إلا أنه أدى الرسالة في النهاية قائلاً: إن السيوف التي ملكتك مصر ما تزال في أيدينا والرماح التي حويت بها قصور الفاطميين على أكتافنا والرجال التي ردت عنك تلك العساكر هي تردك، وعما تصديت له تصدك فقد تعديت طورك وجاوزت حدك، وأنت أحد غلمان نور الدين، وممن يجب عليه حفظه في ولده، ولم يجبه صلاح الدين على هذا كله، بل ضرب عنه صفحاً وتغاضياً، وخاطبه بكلام رقيق، وقال: يا هذا اعلم أني وصلت إلى الشام لجمع كلمة الإسلام وحياطة الجمهور، وسد الثغور، وتربية ولد نور الدين، وكف عادية المعتدين، فقال ابن حسان: إنك إنما وردت لأخذ الملك لنفسك، ونحن لا نطاوعك على ذلك، ودون ما ترومه خرط القتاد، وإيتام الأولاد، فتبسم صلاح الدين وأومأ لرجال بإقامته من بين يديك، وتماسك بعد أن كان يسطو عليه، وقال: والله ما جئت إلا لأستنقذ هذا الملك الصالح من يد أمثالك فأنتم سبب زوال دولته عليه.
لقد رفض كمشتكين الانقياد لصلاح الدين وبذل ما في وسعه للتصدي له ومن العمليات الذكية التي استخدمها كمشتكين ضد صلاح الدين:
لعب على الخلاف الطائفي وفاوض الفريق الشيعي في البلد، وتملقهم، فاشترطوا عليه أمور تم ذكرها مما كان نور الدين قد منعه من قبل فسمح لهم بكل ذلك ليدافعوا عنه.
لعب بعواطف الجمهور، فجمع الناس وكان فيهم الشيعة بالطبع، وأخرج إليهم الملك الصالح الصبي، فخطب فيهم بما وضعه كمشتكين على لسانه: يا أهل حلب أنا ربيبكم ونزيلكم واللاجئ إليكم، كبيركم عندي بمنزلة الأب وشابكم عندي بمنزلة الأخ، وصغيركم عندي يحل محل الولد، ثم خنقته العبرة وعلا نشيجه، فافتتن الناس وصاحوا صيحة واحدة، ورموا بعمائمهم وضجوا بالبكاء والعويل، وقالوا: نحن عبيدك وعبيد أبيك، نقاتل بين يديك ونبذل أموالنا وأنفسنا لك وأقبلوا على الدعاء له والترحم على أبيه.
ولم يستطع الحلف الحلبي، والموصلي والإسماعيلي والفرنجي التصدي لمشروع صلاح الدين التوحيدي ولم يحل شهر نيسان حتى أضحى صلاح الدين يبسط سلطانه على كامل بلاد الشام حتى حماه شمالاً، فانصرف بعد ذلك للعمل على إضفاء الشرعية لوضعه أمام المسلمين، وقد بينا خطابه إلى الخليفة العباسي المستضيء بأمر الله ورسالته الطويلة بقلم القاضي الفاضل والتي عدد فيها فتوحاته وجهاده ضد الصليبيين لخدمة الخلافة العباسية وبخاصة إعادته الخطبة إلى العباسيين في مصر، وتأمين الطريق إلى الحجاز واليمن، ثم أشار في رسالته بأنه قدم إلى بلاد الشام لإصلاح الأمور، وحفظ الثغور وخدمة ابن نور الدين محمود، وطلب في ختامها تقليداً بمصر واليمن والمغرب وبلاد الشام، وجميع ما اشتملت عليه دولة نور الدين محمود وكل ما يفتحه بسيفه.
4- معركة قرون حماه:
كان سيف الدين غازي الثاني، صاحب الموصل يراقب توسعات صلاح الدين في بلاد الشام، وضايقه انتزاعه دمشق وحمص وحماه وبعلبك وأثار غضبه حصاره لحلب في محاولة لضمها إلى أملاكه، ثم بدت له الصورة واضحة، فيما إذا استمر صلاح الدين في تقدمه ونجح في ضم حلب، فإن ذلك يشكل تهديداً خطيراً للموصل التي تصبح بعد ذلك هدفاً سهلاً له.
من هنا أدرك سيف الدين غازي الثاني ضرورة الارتباط مع حلب في حلف دفاعي ضده، وحدث آنذاك أن تعرض الصالح إسماعيل لضغط صلاح الدين، فاستنجد بابن عمه صاحب الموصل وطلب منه إمداده بالجند، وتمكن وفده من إقناعه بضرورة تقديم المساعدة للوقوف في وجه صلاح الدين لأنه متى ملك حلب لم يكن له قصد إلا الموصل.
ولم يكن سيف الدين غازي الثاني بحاجة إلى من يستحثه لمواجهة صلاح الدين فقد أدرك أنه متى غفل عنه استملك البلاد، واستقر قدمه في الملك، وتعدى الأمر إليه، فبادر إلى جمع العساكر من الموصل والجزيرة وأعد العدة لعبور الفرات إلى حلب، وأرسل إلى أخيه عماد الدين زنكي الثاني صاحب سنجار، يطلب منه موافاته بعساكره، لكن هذا الأخير امتنع عن تلبية طلبه بعد أن استقطبه صلاح الدين، ونفخ في روعه أنه أحق من أخيه بالملك لأنه كبير البيت الزنكي، فاضطر صاحب الموصل أن يخضع أخاه ويوجه في الوقت نفسه قوة عسكرية إلى حلب عهد بقيادتها إلى أخيه عز الدين مسعود، عبر عز الدين مسعود الفرات متوجهاً إلى حلب، ولما وصل إليها انضم إليه من كان بها من العسكر، وسار إلى حماه وحاصرها وبعد تداول الأمور رأى الجانبان الأيوبي والزنكي أن المصلحة العامة تقتضي بضرورة التفاهم وحقن دماء المسلمين، فجرت مفاوضات بينهما تقرر بنهايتها:
الإغضاء عن حركة الموصل المعادية لصلاح الدين.
يتنازل صلاح الدين للصالح إسماعيل عن المدن والقلاع التي انتزعها في بلاد الشام لا سيما حمص وحماه مكتفياً بدمشق، على أن يكون فيها نائباً عنه، منتمياً إليه، والخطبة والسكة له.
يعيد صلاح الدين كل ما أخذه من الخزانة.
أتاح هذا الاتفاق فرصة طيبة للزنكيين لاستعادة نفوذهم في بلاد الشام، وحفظ هيبة البيت الزنكي.
ثم إن قبول صلاح الدين لمبدأ التفاهم كان بهدف حفظ البلاد من التفكك والانقسام بعيدأ عن المطامع الشخصية، لكن الزنكيين الذين اعتزوا بقوتهم وطمعوا في الحصول على مزيد من الامتيازات بعد أن علموا بقلة عدد أفراد جيشه، طالبوه بالرحبة وأعمالها، فاعتذر عن إجابتهم بحجة أنها في يد ابن عمه ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه، ولا سبيل إليها، وبذلك لم يسمح صلاح الدين لأي انشقاق يحدث داخل صفوفه، وربما اكتشف بأن الزنكيين أرادوا ضرب قوته من الداخل، ففضل الحفاظ على وحدة صفه.
ونتيجة لهذا الفرض قرر الزنكيون استئناف العمليات العسكرية، على أن صلاح الدين هزم الجيش الزنكي في مكان يقع عند حدود حماه في وادي نهر العاصي يعرف ب "قرون حماه" إلى الشمال من المدينة وذلك في 19 رمضان عام "570ه/23 نيسان عام 1175م"، وأسر جماعة من أمرائه ثم أطلقهم، وطارد خصومه حتى أبواب حلب، وحاصر المدينة للمرة الثانية، وأمر بقطع الخطبة للملك الصالح، وأزال اسمه من السكة في المناطق الواقعة تحت حكمه، ومع ذلك لم يشعر أن له من القوة ما يكفي لمواصلة القتال، ومن جهتهم فإن الحلبيين مالوا إلى الصلح، ونتيجة للمباحثات التي جرت بين الطرفين تقررت الهدنة التي قضت بأن يكون لصلاح الدين ما بيده من بلاد الشام وللحلفاء الزنكيين ما بأيديهم، وأن تضاف إلى أملاكه بعض الأراضي الواقعة شمال حماه مثل المعرة، وكفر طاب، وبعد توقيع الاتفاق رحل صلاح الدين عن حلب.
وقد ساعد الانتصار الذي حققه صلاح الدين في "قرون حماه" على تثبيت مركزه تماماً في بلاد الشام، كما أضعف مركز مناوئيه ودفعه إلى أن يتلقب "ملك مصر والشام" ودعي له على منابرها، كما سك نقوداً ذهبية باسمه. <