د. جلال أمين
قرأت في أكثر من مقال، وسمعت في أكثر من تعليق إذاعي وتلفزيوني، بمناسبة فوز باراك أوباما برئاسة الولايات المتحدة، ما يربط بين انتخابه رئيساً وبين مصير الأزمة المالية الكبرى التي وقعت في منتصف شهر سبتمبر الماضي.
كل التعليقات أكدّت أن هذه الأزمة المالية من بين الأعباء الثقيلة التي ورثها أوباما من الرئيس بوش. ولكن هناك من أضاف التعبير عن آمال كبيرة في أن يكون قدوم أوباما عاملاً مساعداً على حل الأزمة، أو على الأقل في أن تكون السياسة الاقتصادية في عهده أخف وطأة على محدودي الدخل مما كان يمكن أو تؤدي إليه أي سياسة اقتصادية ينتهجها الحزب الجمهوري.
ولكن من المعلقين أيضاً من رأى أن أوباما يملك من الصفات الشخصية ما يتفوق به على الرئيس السابق، وهذا يجعل احتمالات النجاح أكبر في التصدي لهذه الأزمة. ذهب كثيرون أيضاً إلى أن نجاح أوباما في الانتخابات، هو نفسه نتيجة مباشرة للأزمة المالية، إذ أن هذه الأزمة قد شوهت سمعة الرئيس بوش وحزبه إلى درجة دفعت الناس دفعاً إلى اختيار بديل لهذا الحزب.
ولكن هناك أيضاً من المعلقين من أبدى درجة عالية من التشاؤم إذ لم ير فارقاً مهماً بين القديم والجديد، أو بين الحزب الجمهوري والديمقراطى، من حيث الموقف من الأزمة والقدرة على التصدي لها. ففي رأى هؤلاء أن النظام الاقتصادي السائد في الولايات المتحدة يقوم على أسس أعمق بكثير مما يبدو على السطح من اختلافات بين شخصيات الرؤساء أو بين الشعارات التي يرفعها كل من الحزبين. . حدوث الأزمة إذن، وطريقة التعامل معها، واحتمالات تفاقمها أو انحسارها، كل هذا، في نظر هذا الفريق من المعلقين، لا يتوقف كثيراً على شخصية الرئيس (ناهيك عن لونه) بل يتوقف على درجة قوة المصالح الاقتصادية المتعارضة، والقوة السياسية التي ترتبط بهذه المصالح. وهذه القوة الاقتصادية والسياسية تتوقف بدورها، لا على صفات شخصية بل على ما يحرزه أصحاب المصالح المختلفة من أسلحة يحاربون بها خصومهم من أصحاب مصالح مغايرة.
وأنا وإن كنت أكثر ميلاً إلى هذا الرأي الأخير (أي إلى عدم المبالغة في تعليق أهمية على الصفات الشخصية للرئيس) فإني أعتقد أن الظروف الاقتصادية والسياسية، والمصالح الاقتصادية المتصارعة نفسها، كثيراً ما تحدد الصفات المطلوبة في الرئيس المنتخب. بعبارة أخرى إن التسلسل في العلاقة بين السبب والنتيجة، بين العلة والمعلول، تجرى في رأيي على النحو التالي:
مصالح اقتصادية معينة، تؤدي إلى الحاجة إلى سياسة اقتصادية بعينها، وهذه السياسة الاقتصادية المطلوبة يحتاج تنفيذها إلى رئيس له صفات خاصة، فإذا بهذا الرئيس الذي تتوفر فيه هذه الصفات الخاصة ينجح بالفعل في الانتخابات.
هذا هو في رأيي ما يحدث بالفعل، وليس التسلسل التالي، الذي يشيع الاعتقاد فيه: أن ينجح شخص معين في كسب أصوات الناخبين بسبب صفات شخصية فيه ومنها جاذبيته الشخصية (أو حتى كما يقال أحياناً رضا الناس على نوع علاقاته العائلية)، فيتسلم هذا الشخص الرئاسة، ويطبق الأفكار والمبادئ التي يؤمن بها، وينتج عن ذلك تنفيذ سياسات اقتصادية معينة. إني أرجح التسلسل الأول على التسلسل الثاني، لعدة أسباب:
السبب الأول أن السياسة الاقتصادية لأي دولة (ناهيك عن السياسة الاقتصادية لأقوى دولة في العالم) هي من الأهمية بحيث لا يتصور أن يترك تحديدها لمجرد الصدفة، أو لعوامل شخصية وذاتية بحتة، ولو تعلقت بميول وأهواء غالبية الناخبين.
والسبب الثاني أن أصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى قادرون، في معظم الأحوال، على تشكيل إرادة الناخبين وتطويعها بحيث تتجه في الاتجاه الذي تبتغيه هذه المصالح. أي أن الرأي العام ليس مستقلاً، كما يتصور كثيرون عن المصالح الاقتصادية الكبرى، بل هو في معظم الأحوال نتيجة مباشرة لما يبتغيه أصحاب هذه المصالح.
والسبب الثالث أنه أياً كانت الميول الشخصية والفكرية للرئيس المنتخب فإن من الممكن جداً لأصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى التأثير عليه وتوجيهه الوجهة التي يريدونها، بأساليب الترغيب والتهديد معاً، حتى ينصاع في النهاية لرغباتهم.
فإذا حدث وثبت (على غير المعتاد) أن الرئيس أكثر عناداً وتصلباً مما كان يظن في البداية، فإن أصحاب هذه المصالح لديهم من الوسائل ما يستطيعون به التخلص منه، إن لم يكن بطريقة عنيفة (كالقتل مثلاً)، فبتفجير فضيحة له، ولو بالبحث عن تفاصيل وأحداث قديمة، تؤدى إما إلى عزله أو إلى استسلامه.
لكل هذا لا أعتقد أن شخصية باراك أوباما سوف تكون عاملاً مهماً على الإطلاق في تحديد نوع السياسة الاقتصادية التي ستطبقها الإدارة الأميركية في الأعوام المقبلة. فالأمر أخطر بكثير من هذا. وإذا كان قد قيل مرة (وبحق) إن الحرب أمر أكبر خطورة بكثير من أن يترك للعسكريين. . فإن من الصحيح أيضاً أن السياسة الاقتصادية هي أمر أخطر بكثير من أن يترك لميول الرئيس الشخصية ومعتقداته. هل معنى هذا أن نجاح أوباما في الانتخابات لا صلة له بالأزمة المالية، أو أن صفاته الشخصية لن يكون لها أي أثر بالمرة على ما سوف يتخذ من سياسات اقتصادية؟
إجابتي على كلا السؤالين بالنفي، ولكن العلاقة في المسألتين ليست كما يتصور كثيرون. ففي المسألة الأولى تكمن العلاقة، في رأيي، في أن أصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى في الولايات المتحدة وجدوا أن الصفات الشخصية لأوباما تجعل تنفيذ السياسات المطلوبة أسهل وأكثر قبولاً من الناس، وفى المسألة الثانية، أعتقد أن شخصية أوباما سينحصر أثرها على السياسة الاقتصادية في أسلوب تطبيق هذه السياسة وليس في مضمونها.
نعم، سوف نرى تدخلاً أكبر من جانب الدولة في الحياة الاقتصادية، واهتماماً أكبر بتطوير وتحسين البنية الأساسية (من تعليم وصحة وطرق وشبكات كهرباء. . . الخ)، وحساسية أكبر تجاه حاجات أصحاب الدخول المحدودة. وربما نسب الفضل في كل هذا إلى باراك أوباما.
ولكن الحقيقة أن الاقتصاد الأميركي وصل إلى نقطة أصبحت فيها هذه الإصلاحات ضرورية، حتى من وجهة نظر أصحاب المصالح الاقتصادية الكبرى (من شركات عملاقة، ومؤسسات مالية كبرى، وكبار منتجي الأسلحة. . . الخ)، وأن وجه أوباما وصفاته الشخصية وأسلوبه في الحديث والتصرف، تلائم تماماً تطبيق هذه الإصلاحات. <