المؤلف/ علي محمد الصلابي
والواقع أن صلاح الدين كان صادق النية في التعامل الإيجابي مع الملك الصالح اسماعيل، وحاول إقناعه بأنه على استعداد لخدمته بإخلاص، مع أنه كان واضحاً أنه لن يسمح لخصومه بالتقرب منه، وعد الصالح من جهته هذه الخدمة بأنها حقيقة السيادة وهي واجبة عليه، وبهذا الرفض الإيجابي لكل محاولة للتفاهم لم يكن أمام صلاح الدين إلا أن يتحلل من هذا الولاء وفي هذه الظروف، لم يجد مبرراً لعدم الإقدام على أن يتلقب بلقب ملك.
كانت أصداء معركة القرون خطيرة بقدر ما كانت نتائجها خطيرة، فإن السلطان ما وصل حماه في طريق العودة حتى وصلته رسل الخليفة المستضيء ومعهم التشريفات الجليلة والأعلام السود وتوقيع من الديوان بالسلطنة على بلاد مصر والشام عدا حلب، فأصبح السلطان الشرعي والأكبر والأقوى في المنطقة كلها، والوارث الحقيقي لنور الدين في مبادئه، وهذا ما أحفظ عليه الزنكيين المهزومين، وزاد في حقد الحلبيين والفرنج معاً، ودفع ذلك كله إلى تجدد القتال وكأن الصلح مع حلب والأمان كان لغواً.
5- معركة تل السلطان:
والمحاولة الأخيرة لطرد صلاح الدين. والواقع أن الخلاف بين الأيوبيين والزنكيين لم ينته بانتصار صلاح الدين في "قرون حماه" ذلك أن سيف الدين غازي الثاني لم ييأس عندما تناهى إلى أسماعه أخبار الهزيمة، وأثاره حصول صلاح الدين على تقليد من الخلفية بحكم مصر وبلاد الشام، بالإضافة إلى سك النقود باسمه مما دفعه إلى التفكير بالانتقام ووضع خطة عسكرية تتيح له تطويقه، وتضمن له الفوز، وتصرف على أربعة محاور:
- أرسل إلى أمراء حلب يعتب عليهم، ويلومهم على تسرعهم في إبرام الصلح ويحرضهم على نقضه والتعاون معه في خوض المعركة المقبلة.
- أرسل سفارة إلى ريموند الثالث صاحب طرابلس والوصي على عرض مملكة بيت المقدس، يطب منه أن يتحالف معه، ويسانده ضد صلاح الدين.
- حاول الوقوف على نوايا صلاح الدين، فأرسل إليه رسولاً بحجة طلب الموادعة وأخذ العهد له، أما المهمة الحقيقية فهي التضليل وكشف ما عنده من نوايا، لكن الرسول أخطأ حين أخرج كتاب سيف الدين غازي الثاني إلى أمراء حلب فقرأه صلاح الدين، وعرف ما يبيته آل زنكي، مدركاً في الوقت نفسه أن أمراء حلب قد نقضوا العهد الذي ارتبطوا به معه وأنهم يستعدون لاستئناف القتال.
- استقطب كلاً من صاحب حصن كيفا وصاحب ماردين وغيرهما من الأمراء التركمان، كما أبدى أخوه عماد الدين زنكي الثاني صاحب سنجار استعداده للتعاون معه.
والواضح أن صلاح الدين لم يكن بعيداً عن هذا المناخ العدائي، وحتى يقطع الطريق على تعاون سيف الدين غازي الثاني، وصاحب طرابلس، عرض على هذا الأخير سلمه وصداقته، إذا وقف على الحياد، وأطلق سراح من عنده من أسرى الصليبيين كدليل على حسن النية. حشد سيف الدين غازي الثاني أعداداً كثيرة من الجند سار بهم إلى نصيبين في شهر ربيع الأول (عام 571ه/ شهر أيلول عام 1175م) وأقام فيها حتى نهاية فصل الشتاء ثم عبر الفرات من البيرة وكتب إلى سعد الدين كمشتكين، والملك الصالح اسماعيل، لمساندته وفعلاً تم الاتفاق على أن يتقدم صاحب الموصل نحو حلب، ويجتمع بابن أخيه ليقررا معاً الخطوة التالية، واجتمع الطرفان في مكان يعرف ب"عين المباركة" وتقرر انضمام جيش حلب إلى جيش الموصل، فبلغ عدد أفراد الجيشين عشرين ألف مقاتل، تحرك هذا الجيش الضخم باتجاه دمشق في شهر رمضان عام (571ه/ شهر آذار عام 1176م) وتوقف في تل السلطان على مسافة عشرين ميلاً إلى الجنوب من حلب وقرر كمشتكين في هذا الوقت التعاون مع الصليبيين لإجبار صلاح الدين على القتال على جبهتين حتى يضعف قوته، لذلك أطلق سراح الأسرى الصليبيين في حلب، وبخاصة رينولد شاتيون صاحب الكرك، إمدادات من مصر، فعبر العاصي عند شيزر في (شهر شوال/ شهر نيسان) ومر بقرون حماه حتى وصل إلى تل السلطان ولم تمض عشرة أيام حتى فاجأه سيف الدين غازي الثاني بعساكره وقد تفرق عسكره وهم يوردون أفراسهم الماء، حين تردد حاكم الموصل في الهجوم وقرر تأجيل اللقاء إلى اليوم التالي ولما عبأ عساكره في صبيحة اليوم التالي في (10شوال /12نيسان) لشن هجوم على معسكر صلاح الدين كان الوقت قد فات، واشتبك الطرفان في رحى معركة شديدة، وكاد أول هجوم للقوات الزنكية أن يتكلل بالنجاح غير أن صلاح الدين قاد ما لديه من قوات احتياطية لرد الهجوم فحطم خطوط خصومه، ولم يحل المساء حتى أضحى سيد الموقف، ومُني الزنكيون بخسارة فادحة ووقع بعض قادتهم في الأسر، ولكن صلاح الدين من عليهم، وأطلقهم مظهراً مرونة في التفكير السياسي، ويبدو أنه هدف إلى استقطاب هؤلاء وبخاصة أنه كان من بينهم أصحاب مراكز وتأثير، قنع سيف الدين غازي الثاني بهذه الهزيمة وقرر العودة إلى بلاده ولم يكسب سوى عداء صلاح الدين، وما خلفه من أموال في معسكره عند انسحابه بذلها صلاح الدين لرجاله على سبيل المكافأة، وبهذا الانتصار الحاسم تمهد السبيل أمام صلاح الدين لضم حلب ونواحيها إلا أنه لم يشأ في هذه الآونة أن يلاحق فلول العساكر الزنكية، ويحاصر حلب، واكتفى بالقيام بشن غارات على أملاك خصومه في المنطقة، بعد أن سيطرت عساكره على الحصون المحيطة بحلب شمالاً وجنوباً لهذا التشتت في الصف الإسلامي، رأى الطرفان ضرورة الدخول في مفاوضات من أجل إحلال السلام، لقطع الطريق على الصليبيين من الاستفادة من هذا الوضع، وخدمة لمصلحة المسلمين العامة، ولذلك قدم كل طرف بعض التنازلات، واستقر الرأي على الصيغة التالية:
- أن يكون الجميع يداً واحدة ضد الصليبيين.
- لا يجوز لأحد الأطراف نقض العهد.
- إذا نقض أحد الأطراف العهد أو خالفه، فالباقون يداً واحدة عليه حتى يرجع إلى الوفاق.
- يتنازل صلاح الدين عن قلعة عزاز للملك الصالح.
- وعقدت الهدنة في شهر محرم عام (572ه/ شهر تموز عام 1176م).
6- وفاة سيف الدين غازي الثاني وتولية عز الدين مسعود الأول:
ويبدو أن تطورات الأحداث في الموصف اتخذت مساراً شد مجدداً اهتمام صلاح الدين، ذلك أن سيف الدين غازي الثاني توفي في شهر صفر عام (576ه/ شهر تموز عام 1180م) وقد حدث في عهده شيء عجيب وهو أن الناس خرجوا يستسقون بالموصل سنة خمس وسبعين للغلاء الحادث في البلاد خرج سيف الدين في موكبه، فثار الناس وقصدوه مستغيثين به، وطلبوا منه أن يأمر بالمنع من بيع الخمر، فأجابهم إلى ذلك، فدخلوا البلد وعملوا ما لا يحل، فاستغاث أصحاب الدور إلى نواب السلطان، وخصوا بالشكوى رجلاً من الصالحين يقال له: أبو الفرج الدقاق ولم يكن له من الذي فعله الناس من النهب فعل إنما هو أراق الخمور، ولما رأى فعل العامة نهاهم فلم يسمعوا منه، فلما شكي أحضر بالقلعة وضرب على رأسه، فسقطت عمامته، فلما أطلق لينزل من القلعة نزل مكشوف الرأس، فأرادوا تغطيته فلم يفعل وقال: والله لا غطيته حتى ينتقم الله لي ممن ظلمني فلم يمض غير قليل حتى توفي الدزدار المباشر لأذاه، ثم أعقبه مرض سيف الدين، ودام مرضه إلى أن توفي، وكان عمره نحو ثلاثين سنة، وكانت ولايته عشر سنين وشهوراً وكان من أحسن الناس صورة تام القامة، مليح الشمائل، أبيض اللون، مستدير اللحية، متوسط البدن بين السمين والدقيق، وكان عاقلاً وقوراً، قليل الالتفاف إذا ركب وإذا جلس، عفيفاً، لم يذكر عنه شيئاً من الأسباب التي تنافي العفة وكان غيوراً شديد الغيرة لم يترك أحداً من الخدم يدخل دور نسائه إلا كبر، إنما يدخل عليهن الخدم الصغار، وكان لا يحب سفك الدماء ولا أخذ الأموال مع شح فيه، وبعد وفاته دخلت الموصل في دوامة صراع على البديل، فقد رأى سيف الدين غازي الثاني أن يعهد بالملك لولده معز الدين سنجر وكان عمره آنذاك اثنتا عشرة سنة، إلا أنه خشي على الدولة من بعده من طموحات صلاح الدين بفعل صغر سن ابنه، كما أن أخاه عز الدين مسعود عارض هذا التوجه بحجة أنه أحق بالسلطة وأيده أمراء الموصل، وأوضح الأمير مجاهد الدين قايماز لسيف الدين غازي الثاني المخاطر التي ستواجهها الدولة الأتابكية من جراء تولية ولد صغير، في الوقت الذي تزداد فيه قوة صلاح الدين في بلاد الشام، ويبدو أن سيف الدين غازي الثاني اقتنع برأي أمرائه فعين أخاه عز الدين مسعود خلفاً له.
7- وفاة الملك الصالح اسماعيل ابن نور الدين محمود:
كانت وفاته في الخامس والعشرين من رجب من سنة (577ه) بقلعة حلب ودفن بها وكان سبب وفاته - فيما قيل - أن الأمير علم الدين سليمان بن جندر سقاه سماه في عنقود عنب في الصيد وقيل: بل سقاه ياقوت الأسدي في شراب وقيل: في خشكناجة، فاعتراه قولنج، فما زال كذلك حتى مات رحمه الله، وهو شاب حسن الصورة بهي المنظر ولم يبلغ عشرين سنة، وكان من أعف الملوك ومن شابه أباه فما ظلم، وصف له الأطباء في مرضه شرب الخمر فاستفتى بعض الفقهاء في شربها تداوياً فأتاه بذلك، فقال له: أيزيد شربها في أجلي، أو ينقص منه شيئاً؟ قال لا. قال: فوالله لا أشربها فألقى الله وقد شربت ما حرمه علي، ولما يئس من نفسه استدعى الأمراء فحلفهم لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل؛ لقوة سلطانه وتمكنه، ليمنعها من صلاح الدين، وخشي أن يبايع لابن عمه الآخر عماد الدين زنكي صاحب سنجار، وهو زوج أخته وتربية والده فلا يمكنه حفظها من صلاح الدين، فلما مات استدعى الحلبيون عز الدين مسعود بن قطب الدين، صاحب الموصل، فجاء إليهم فدخل حلب في أبهة عظمية وكان يوماً مشهوداً، وذلك في العشرين من شعبان، فتسلم خزائنها وحواصلها، وما فيها من السلاح وكان تقي الدين عمر بمدينة منبج، فهرب إلى حماه، فوجد أهلها قد نادوا بشعار عز الدين صاحب الموصل، وأطمع الحلبيون عز الدين مسعود في أخذ دمشق؛ لغيبة صلاح الدين بالديار المصرية وأعلموه محبة أهل الشام لهذا البيت الأتابكي فقال: بيننا وبينه أيمان وعهود، وأنا أغدر به، فأقام بحلب شهوراً، وسار إلى الرقة بنزلها وجاءته رسل أخيه عماد الدين زنكي يطلب منه أن يقايضه من حلب إلى سنجار وألح في ذلك وتمنع أخوه ثم فعل ذلك على كره منه، فسلم إليه حلب، وسلمه عماد الدين سنجار والخابور والرقة، ونصيبين وسروج وغير ذلك من البلاد، ولما سمع الملك صلاح الدين بهذه الأمور ركب من الديار المصرية في عساكره، فسار حتى أتى الفرات فعبرها وحاصر إليه بعض أمراء صاحب الموصل، فتقهقر عن لقائه، فاستحوذ صلاح الدين على بلاد الجزيرة بكاملها وهم بمحاصرة الموصل فلم يتفق ذلك، ثم جاء إلى حلب فتسلمها من عماد الدين زنكي. <