;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس ..الحلقة الثالثة والسبعون 913

2008-11-19 03:59:46

المؤلف/ علي محمد الصلابي

8- الحصار الأول للموصل:

دفعت التطورات السياسية التي شهدتها بلاد الشام والجزيرة والموصل بعد وفاة الصالح اسماعيل صلاح الدين إلى مغادرة مصر، والتوجه إلى الشرق ليكون على مقربة من الأحداث الجارية هناك، ويتدخل عندما تقضي الظروف ذلك، وعدَّ تصرف عز الدين مسعود الأول فيما يتعلق بسياسته في حلب، نقضاً للمعاهدة المبرمة بين الطرفين الأيوبي والزنكي، لأن هذه المدينة وما جاورها من قلاع، تابعة له بحكم تفويض الخليفة، مما يؤدي إلى القضاء على مشروع الوحدة الإسلامية الذي يسعى لتحقيقه، لذلك اتخذ عدة إجراءات وهو في طريقه إلى الشرق، لفك ارتباط حلب بما حولها:

أ - طلب من ابن أخيه تقي الدين عمر، صاحب حماه، وفروخ شاه، حاكم دمشق وغيرهما من الأمراء بمهاجمة مناطق غرب الجزيرة، وضمها إلى الأملاك الأيوبية ومنع عبور جيش الموصل نهر الفرات، لكن تقي الدين عمر عجز عن منع عز الدين مسعود الأول من دخول حلب، كما كان فروخ شاه منهمكاً في التصدي لمحاولات رينولد شاتيون لاجتياح الجزيرة العربية انطلاقاً من حصن الكرك.

ب - كتب رسالة إلى الخليفة العباسي الناصر لدين الله (575ه- 622ه) (1180م-1225م) يشرح فيها بلاءه في الإسلام وجهاده، وما قدمه من أعمال جليلة للخلافة العباسية، وأوضح دوره في إسقاط الخلافة الفاطمية، وإعادة النفوذ العباسي إلى مصر، موضحاً له سوء الأوضاع في بلاد الشام، وتعرض حارم لهجوم الصليبيين وغدر صاحب الموصل، واعتداء عسكر حلب على أملاكه واستنجادهم بالصليبيين ومراسلتهم بالحشيشية بهدف التعاون معهم ضد مشروع الوحدة الإسلامية الذي يسعى جاهداً لتحقيقه، وذكره بأن الخليفة المستضيء بأمر الله قلده حلب وأعمالها، وأنه لم يتركها إلا من أجل ابن نور الدين محمود، ولا يسعه الآن إلا أن يطالب بحقه؛ وعبر عن ذلك بقوله: والآن فليرجع كل ذي حق إلى حقه، وليقنع برزقه ومن جهته تحرك عز الدين مسعود الأول باتجاه الصليبيين لاستقطابهم وحثهم على مهاجمة الثغور الإسلامية، ليشغل صلاح الدين عن قصد بلاده، فأبقى هذا الأخير من غدر صاحب الموصل، فقرر أن يولي اهتمامه لمناطق شمال الشام والجزيرة، ويمم وجهه صوب حلب والموصل، وانضم إليه أثناء زحفه على حلب مظفر الدين كوكبوري صاحب حران، وأشار عليه بعبور الفرات والاستيلاء على البلاد الواقعة في شرقه قبل التوجه إلى حلب حتى لا تشغله عن غيرها، ووعده بالمساعدة.

والجدير بالذكر أن كوكبوري كان على خلاف مع صاحب الموصل ونائبه قايماز الذي كان قد أقصاه عن ولاية إربل واتجه صلاح الدين نحو حلب، متحصناً ببراءة الخليفة، وحاصرها مدة ثلاثة أيام في شهر "جمادي الأولى/ أيلول" رحل بعدها إلى الموصل لانتزاعها من آل زنكي مفضلاً ضم الجزيرة والحصون التابعة لها أولاً، فعبر الفرات عند البيرة، وكان صاحبها شهاب الدين محمد بن إلياس الأرتقي يدين بالطاعة، ودخل الأراتقة حصن كيفا وماردين في طاعته، وانضموا إلى جيشه فهوى أمامه مدن الجزيرة، الرها وسروج، نصيبين، والرقة، والخابور وغيرها، فأقطع كوكبوري الرها، وولى حسام الدين أبا الهيجاء السمين نصيبين، ومنح جمال الدين خوشترين الخابور وبذلك يكون صلاح الدين قد نجح في السيطرة على ديار مضر كلها، وتكوين حلف مناهض لإمارة الموصل، ولم يبق أمامه سوى التوجه إلى الموصف لإخضاعها والواقع أن الموصل شكلت مصدر قلق له، وحجر عثرة أمام تحقيق أهدافه فرأى أنه لا بد من إخضاعها أو على الأقل ضمان تأييدها له وتحالفها معه، وأدرك أنه لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بضم الموصل وسنجار وجزيرة ابن عمر. وصل صلاح الدين في شهر رجب عام (578ه/ شهر كانون الأول عام 1182م) وضرب عليها حصاراً مركزاً، ثم ما لبث أن هاجمها، لكنه لم ينل منها، واستعصت عليه بسبب مناعتها، ومتانة أسوارها وبفضل الاستعدادات الضخمة، التي نفذها عز الدين مسعود الأول ونائبه قايماز، حيث حشدا العساكر الكثيرة للدفاع عنها، وأظهرا من السلاح، وآلات الحصار ما حارت له الأبصار وقام صلاح الدين أثناء الحصار بجولة استطلاعية حول المدينة، تأكد له استحالة اقتحامها وتحرك صاحب الموصل في غضون ذلك يلتمس الحلفاء من كل جانب، فأرسل القاضي بهاء الدين بن شداد إلى بغداد، مستنجداً بالخليفة العباسي لرد صلاح الدين عن بلاده، فكتب الخليفة إلى صدر الدين شيخ الشيوخ، وكان قزل أرسلان صاحب أذربيجان وبهلوان بن إيلدكز أتابك همذان، وبكتمر سقمان والكف عن الموصل وعلى الرغم من أن صلاح الدين يطلب منه الشفاعة والكف عن الموصل، وعلى الرغم من أن صلاح الدين رد رسل بكتمر إلا أن كل هذه العوامل دفعته إلى إعادة النظر بخططه لضم الموصل بالقوة المسلحة، ومال إلى استعمال الأسلوب السياسي، ويبدو أنه وجد نفسه في موقف حرج، وخشي أن يفقد مكانته، كمجاهد في سبيل الإسلام، بسبب ظهوره بمظهر الطامع في دولة الموصل، لذلك عرض على عز الدين مسعود الأول الصلح فطلب هذا إعادة البلاد التي أخذت منهم، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك بشرط عدم اعتراضه على ضم حلب، فرفض صاحب الموصل خيانة أخيه وحرص على التمسك بسيادته على حلب، وأعلن عن استعداده لمساعدته إذا تعرض للخطر.

- ضم سنجار: نتيجة لفشل المفاوضات بين الطرفين رأى صلاح الدين أن يضيق الخناق على الموصل وعزلها على حلب، وكانت سنجار هي المدينة التي توفر له هذه السياسة لذلك فك الحصار عن الموصل وتوجه إلى سنجار في 16 شعبان عام (578ه/ 15 كانون الأول عام 1182م) وأخطر الخليفة بما استقر عليه رأيه، فحاصرها مدة خمسة عشر يوماً حتى سقطت في يده.

- ذيول ضم سنجار: أثار ضم سنجار حفيظة أمراء الجزيرة فتنادوا إلى عقد حلف دفاعي موجه ضد سياسة صلاح الدين، وقد أزعجهم توغله في إقليم الجزيرة وضم سنجار مما يهدد أمنهم وتألف الحلف من شاه أرمن سقمان، صاحب خلاط، وقطب الدين بن نجم الدين ألبي صاحب ماردين، ودولة شاه صاحب بدليس وأرزن بالإضافة إلى عز الدين مسعود الأول وخرج الخلفاء للتصدي له مستغلين تفرق جيشه في أنحاء الجزيرة وعسكروا في حرزم من أعمال ماردين، ولما علم بمسيرهم جمع جيشه وسار إلى رأس العين لملاقاتهم ويبدو أنهم خشوا الدخول في معركة، فتفرقوا عائدين إلى بلادهم وبذلك أخفق عز الدين مسعود الأول في مسعاه لإخراج صلاح الدين من منطقة الجزيرة على الرغم من تأييد بعض أمرائها له، ولم يعد له من القوة ما يكفي لعرقلة مشاريعه في المنطقة.

- ضم آمد: استغل صلاح الدين تفرق خصومه، وضعفهم، فتقدم إلى آمد بعد أن استأذن الخليفة الناصر لدين الله بمهاجمتها، فأذن له، وكان نور الدين محمد صاحب حصن كيفا يلح عليه بمهاجمتها والاستيلاء عليها وتسليمها إليه، وفقاً للاتفاق الذي تم بينهما.

وصل صلاح الدين إلى آمد في 17 ذي الحجة عام (578ه/ 15 نيسان 1183م) وضرب الحصار عليها وكان حاكمها محمد بن إيلدكز ضعيفاً لا يملك من السلطة إلا اسمها، أما حاكمها الفعلي فكان بهاء الدين بن نيسان، الذي اتصف بالشح وسوء السيرة، فمنع الذخائر والأموال عن أهل البلد، وأرسل صلاح الدين في غضون ذلك رسائل إلى كبار أمراء آمد يعدهم ويمنيهم ويتهددهم إن هم أصروا على القتال. إذن هذه الظروف التي أحاطت بالسكان أدت إلى التخاذل والتهاون في الدفاع فاضطر ابن نيسان إلى طلب الأمان له ولأهله وأن يمنحه صلاح الدين ثلاثة أيام لنقل أمواله وذخائره، وبعد انقضاء هذه المدة تسلمها وأمره بإقامة العدل، وقمع الجور، وأن يكون سامعاً مطيعاً للسلطان من معاداة الأعداء ومصافاة الخلان في كل وقت، وأنه متى استمد من آمد لقتال الفرنج وجه لذلك يقظان.

ثانياً: ضم حلب:

أضحى صلاح الدين بعد سيطرته على مناطق الجزيرة مجاوراً لإمارة حلب فقرر أن يضمها إلى أملاكه قبل إخضاع الموصل، فعبر الفرات ونزل على تل خالد من أعمال حلب، وحاصرها حتى استسلمت في شهر محرم عام (579ه/ شهر أيار 1183م) ثم سار منها إلى عينتاب فقدم صاحبها ناصر الدين محمد بن خمارتكين الولاء له، وطلب منه أن يبقيه على إمارتها، فوافق صلاح الدين، وتقدم من عينتاب إلى حلب ونزل عليها في 26 محرم /21أيار إلا أنه لم يباشر بقتالها بل نزل بالميدان الأخضر ثم انتقل بعد عدة أيام إلى جبل جوشن، وأوهم عمادالدين زنكي الثاني بأنه يبني المساكن له ولجنده حتى يدفعه إلى الاستسلام تجنباً لإراقة الدماء واضطر عماد الدين زنكي الثاني إلى فتح المفاوضات مع صلاح الدين لتسليمه المدينة، وتولى الأمير حسام الدين طومان الوساطة بينهما وانتهت المفاوضات على الأسس التالية:

- يتنازل عماد الدين زنكي الثاني عن حلب لصلاح الدين.

- يمنح صلاح الدين عماد الدين زنكي الثاني سنجار والخابور ونصيبين وسروج.

- يمنح حسام الدين طومان والرقة.

- يضع عماد الدين زنكي الثاني قواته العسكرية بتصرف صلاح الدين متى طلب منه ذلك.

- دخل صلاح الدين مدينة حلب بعد إبرام الصلح في 17 صفر عام (579ه/ 18 حزيران 1183م) وسط ترحيب السكان.

1- نتائج ضم حلب:

ترتب على ضم حلب من قبل صلاح الدين أن قوي مركزه، وازدادت الجبهة الإسلامية تماسكاً وأضحى من القوة ما حمله على التفرغ لقتال الصليبيين، فاشتدت مخاوف هؤلاء، وعدوا هذا الحدث أعظم نكبة حلت بهم، بالإضافة إلى أنها أكدت الروابط السياسية والعسكرية بين مصر وبلاد الشام، وغدت ممتلكاتهم في بلاد الشام محصورة داخل هذا المحور، فالتمس بوهيمند الثالث صاحب أنطاكية منه الأمان فوافق صلاح الدين على منحه هدنة ريثما يفرغ من استكمال خططه بتوحيد العالم

الإسلامي في الشرق الأدنى. <

 

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2024-11-29 03:22:14

نوفمبر المتجدد

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد