المؤلف/ علي محمد الصلابي
2- الحصار الثاني للموصل:
ما لبثت الأحداث التي استجدت في الموصل أن فرضت على صلاح الدين التدخل مرة أخرى في شؤونها، ففي شهر جمادي الأولى عام (579ه/ شهر أيلول 1183م) استمع عز الدين مسعود الأول إلى وشاية بعض كبار أمرائه ضد نائبه مجاهد الدين قايماز ممن تربطهم به عداوة مستحكمة، فقبض عليه، وسجنه وصادر أمواله، وكانت إربل، وجزيرة ابن عمر وشهرزور ودقوقاً وقلعة عقر الحميدية تحت حكم قايماز وبها نواب يحكمون باسمه فلما قبض عليه وشق هؤلاء الأمراء عصا الطاعة، وأرسل كل من زين الدين يوسف صاحب إربل ومعز الدين سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمر، رسالة ولاء إلى صلاح الدين، وأضحت هاتان المدينتان تابعتين له، وبهذا التصرف اللامسؤول ساهم عز الدين مسعود الأول في إضعاف موقفه أمام صلاح الدين، فمال إلى السياسة فأرسل القاضي بهاء الدين بن شداد إلى الخليفة العباسي في شهر شوال 579ه/ شهر كانون الثاني 1184م يطلب منه التوسط من جديد في الصلاح بينه وبين صلاح الدين، استجاب الخليفة إلى طلبه، وأرسل شيخ الشيوخ، وبشير الخادم إلى دمشق للتفاوض مع صلاح الدين لحل المشاكل القائمة بينه وبين صاحب الموصل، وانضم إليهما محيي الدين الشهرزوري ممثلاً عن صاحب الموصل ومعه القاضي ابن شداد. تعثرت المفاوضات ثم توقفت، لأن صلاح الدين اشترط أن يكون لأميري إربل وجزيرة ابن عمر حرية الاختيار في الانضمام إليه أو إلى صاحب الموصل وهذا ما رفضه ممثل عز الدين مسعود الأول الذي تمسك بتبعيتهما لصاحب الموصل، وأصر على ذكر اسميهما في نسخة الصلح: ورجعت الرسل بغير ظفر بطائل.
أدرك عز الدين مسعود الأول، الذي أوقع نفسه في هذا المأزق بحرج موقفه وندم على ما بدر منه بحق نائبه، فتدارك الأمر وأخرجه من السجن وأعاد إليه نفوذه السابق. خرج مجاهد الدين قايماز من السجن في الوقت الذي شهدت فيه الموصل تراجعاً في قوتها، وانهياراً في معنويات حكامها، فعمل على إعادة القوة إلى أجهزة الدولة بما فيها الجيش، وطلب مساعدة من القوى المجاورة، ونجحت مساعيه في استقطاب قزل، صاحب أذربيجان، فأمده بثلاثة آلاف جندي وبعد أن وثق بقدرته على التحرك، قرر إعادة المدن إلى خسرتها الأتابكية، فهاجم إربل لكنه فشل في اقتحامها ولم يكن صلاح الدين ولم يكن صلاح الدين بغافل عما يجري من أحداث، فعزم على التدخل لصالح حليفه زين الدين يوسف، صاحب إربل، والتوجه بعد ذلك إلى الموصل لانتزاعها من يد عز الدين يوسف، صاحب إربل، والتوجه بعد ذلك إلى الموصل لانتزاعها من يد عز الدين مسعود الأول، ولم يلبث أن حشد قواته، وخرج على رأسها إلى حران في شهر صفر عام 581ه/ شهر أيار عام 1185م ونزل برأس العين، ثم رحل إلى دنيسر حيث انضم إليه عماد الدين بن قرا أرسلان الأرتقي ومع عساكر أخيه نور الدين محمد صاحب حصن كيفا وآمد وساروا جميعاً إلى نصيبين حيث وافاهم فيها معز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازي الأول صاحب جزيرة ابن عمر وتابع صلاح الدين زحفه باتجاه الموصل، ونزل بالإسماعيليات الواقعة بالقرب منها، في شهر ربيع الأول 581ه/ شهر حزيران 1185م.
وتدعيماً لمواقفه أرسل رسالة إلى الخليفة العباسي يخبره بعزمه على تصفية أموره في الموصل، وأشار إلى أن أهلها يخطبون باسم طغرل السلجوقي سلطان العجم، المعادي للخليفة ويضربون السكة باسمه، كما أنهم يراسلون الصليبيين، ويحرضونهم على مهاجمة بلاد المسلمين، وأنه لم يأت رغبة في توسيع ملكه أو التخلص من البيت الزنكي، وإنما قصد أن يردهم إلى طاعة الخليفة، ونصرة الإسلام ومنعهم من ارتكاب الظلم وانتهاك الحرمات، وقطع صلتهم بسلاجقة العجم، وإلزامهم بما يجب عليهم من حفظ الجار وصلة الرحم.
كان الضغط شديداً على عز الدين مسعود الأول، الذي أسقط في يده فمال إلى المهادنة وأرسل إليه وفداً ضم دولته وابنة عمه نور الدين محمود وغيرهما من النساء، وجماعة من أعيان الدولة لطلب الصلح والكف عن حصار الموصل، وكان رأي صلاح الدين قبول الصلح لولا اعتراض الفقيه عيسى الهكاري والأمير علي بن أحمد المشطوب، اللذين حذراه من الإقدام على قبول الصلح وقالا له: مثل الموصل لا يترك لامرأة، فإن عز الدين مسعود ما أرسلهن إلا وقد عجز عن حفظ البلد فاقتنع برأيهما واعتذر لوفد الموصل، ومضى يحاصر المدينة لكن اعترضته عدة صعوبات، اضطرته إلى فك الحصار عن الموصل لعل أهمها:
- كان أهل الموصل يخرجون من الجانب الشرقي، فيقاتلون القوات الأيوبية ويعودون إلى داخل المدينة مما ضايق صلاح الدين.
- لقد حصن قايماز البلد بالاستحكامات، وأصلح أوضاع الجيش، ليتمكن من التصدي للهجمات الأيوبية، فاستبسل أفراده في الدفاع.
- حدث حصار الموصل في فصل الصيف حيث درجة الحرارة مرتفعة والحر شديد فأمر صلاح الدين بوقف المناوشات العسكرية إلى أن يزول الحر.
- وصادف آنذاك أن خفت مياه نهر دجلة، فأشار المهندسون على صلاح الدين بتحويل مجرى النهر بعيداً عن الموصل، لقطع الماء عن أهلها فيصيبهم العطش ويضطرون إلى الاستسلام. لكن صلاح الدين رأى أن هذا المشروع قد يستغرق وقتاً طويلاً لا يتوفر له، ويأخذ مجهوداً شاقاً قد ينهك الجيش.
- حدث أثناء الحصار، أن توفي كل من شاه أرمن، صاحب خلاط دون أن يترك ولداً يخلفه في الحكم ونور الدين محمد، صاحب آمد وحصن كيفا فأراد صلاح الدين أن يرتب أوضاع الإمارات الأرتقية بشكل يخدم أهدافه.
3- محاولة ضم خلاط:
استولى أحد مماليك شاه أرمن ويدعى سيف الدين بكتمر على الحكم في خلاط، بعد وفاة صاحبها، فتطلع صلاح الدين إليها لضمها واستشار أركان حربه في ذلك، فأشار بعضهم إلى مواصلة حصار الموصل في حين نصحه البعض الآخر بالرحيل إلى خلاط للسيطرة عليها بحجة أنها تشكل خطوة تمهيدية للسيطرة على باقي القلاع في المنطقة، نتيجة لهذا الاختلاف في وجهات النظر تردد صلاح الدين في اتخاذ قرار ما ولم يتحدد موقفه إلا بعد أن جاءته الكتب من أهل خلاط يستدعونه ليسلموا البلاد إليه. والواقع أن شمس الدين بهلوان بن إيلدكز، صاحب أذربيجان وهمذان، طمع في تملك خلاط عندما علم بوفاة شاه أرمن، فخشي يكتمر أن يفقد منصبه، كما رفض أهل خلاط الخضوع له، وحتى يصده عنها اتفق بكتمر مع أعيان البلد على مراسلة صلاح الدين والدخول في طاعته، وفي نيتهم ضرب الطرفين بعضهما ببعض حتى تبقى البلد بأيديهم، وسار صلاح الدين باتجاه خلاط دون أن يعلم بنوايا بكتمر وعلى مقدمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، ومظفر الدين بن صاحب حران وغيرهما، ونزلوا بطوانة بالقرب من خلاط وأرسل الفقيه عيسىالهكاري، وغرس الدين قلج أرسلان إلى خلاط لتقرير قواعد التسليم وتوجه هو إلى ميا فارقين لضمها وأما البهلوان فقد تقدم نحو خلاط ونزل قريباً منها، ثم ترددت رسل بكتمر بين الطرفين، الذين هددوا البهلوان من أنه إذا هاجم خلاط فإن بكتمر سوف يسلم البلد إلى صلاح الدين ولكن البهلوان تمكن من استمالة بكتمر وزوجه ابنته واعتذر هذا الأخير لرسل صلاح الدين الذين عادوا دون أن يحققوا الهدف، وهكذا فشلت جهود صلاح الدين في تملك خلاط ومن جهته فقد اعترف قطب الدين سقمان الذي خلف أباه في حكم آمد وحصن كيفا بالطاعة والولاء بعد أن خشي أن يسترد منه آمد.
4- ضم ميافارقين:
كانت ميافارقين تحت حكم حسام الدين يولق بن قطب الدين إيلغازي صاحب ماردين وله من العمر عشر سنوات، وفيها حامية لشاه أرمن صاحب خلاط وعلى رأس أجنادها أسد الدين يرنقش، وقد رفض الانضواء تحت راية صلاح الدين وأعلن عصيانه، فاضطر صلاح الدين إلى حصار المدينة إلا أنه لم يتمكن من اقتحامها، فمال إلى استعمال أسلوب الدهاء السياسي، فاتصل بزوجة قطب الدين المقيمة فيها وأوهمها أن يرنقش اتفق معه على تسليم البلد، كما أرسل إلى هذا الأخير يخبره بميل الخاتون إليه، وبهذا الأسلوب السياسي ضم البلد إلى أملاكه في 29/جمادي الأولى عام 581ه/ آب عام 1185م ووصل إلى صلاح الدين آنذاك كتاب من الخليفة العباسي بتقليده النظر في أمر ديار بكر ومصالح أيتام ملوكها فخطب له في الولايات الأرتقية وضربت النقود باسمه.
ثالثاً: حصار الموصل الثالث ودخولها في طاعة صلاح الدين:
عندما انتهى صلاح الدين من أمر ميافارقين عاد إلى الموصل ليحاصرها للمرة الثالثة وجعل طريقه على نصيبين، ووصل إلى كفر زحار في شعبان من سنة (581ه) وأقام فيها لحين انتهاء فصل الشتاء، ثم جاء رسول عز الدين مسعود صاحب الموصل يطلب الصلح، ومرض صلاح الدين في ذلك الوقت، فرحل إلى حران، فاغتنم عز الدين مسعود الأول هذه الفرصة، وجدد محاولاته لتحقيق التفاهم معه، بعد أن يئس من مساندة الخليفة له، ووقوف سلطان العجم إلى جانبه، فأرسل بهاء الدين بن شداد وفوضه بالتوقيع على الصلح وكانت اتفاقية الصلح بين الطرفين تنص على ما يأتي:
1- يسلم عز الدين مسعود أتابك الموصل إلى صلاح الدين شهرزور وأعمالها، وولاية القرابي، وجميع ما وراء الزاب من أعمال مع ولاية بني قفحاق.
2- يتخلى صلاح الدين عن الموصل وأعمالها إلى عز الدين مسعود زنكي وتكون إدارتها له على أن تكون تابعاً إلى صلاح الدين "حكماً ذاتياً" في ضمن إطار الدولة الأيوبية.
3- يجب على عز الدين أن يخطب باسم صلاح الدين على المنابر والبلاد التابعة له، وأن تقطع الخطبة السلجوقية عن تلك البلاد، كما وافق عز الدين مسعود على سك النقود باسم صلاح الدين في تلك البلاد.
4- على عز الدين مسعود الالتزام بالحضور مع عساكره في خدمة صلاح الدين متى استدعاه، وأن يشترك الطرفان في مجاهدة الصليبيين واسترجاع فلسطين.
5- يتعهد الطرفان بالحفاظ على المعاهدة السابقة، ووضعت بنودها بالقول في ذي الحجة سنة (581ه/ 3 آذار عام 1186م) واستمر العمل بهذه المعاهدة وصلاح الدين على ذلك الصلح لم يتغير حتى وفاته.
وبهذا الاتفاق استطاع صلاح الدين توحيد الجبهة الإسلامية تحت زعامته وأصبح أقوى حاكم مسلم في المنطقة، وبهذا الإنجاز أصبح أمامه السعي لتحقيق الهدف الكبير وهو تحرير القدس وبقية الأرض الإسلامية من الغزاة الصليبيين.