المؤلف/ علي محمد الصلابي
5- تعقيب على علاقة صلاح الدين مع الأسرة الزنكية في الوقت الذي جرى فيه إبداء التشكيك في حقيقة دوافع صلاح الدين، وعلاقته بالأسرة الزنكية، من جانب بعض المؤرخين المعاصرين له، وبعض الباحثين المحدثين، فإن هذا الارتياب يفقد أهميته، ولا يستند إلى أي أساس صحيح بدليل:
- كان صلاح الدين حريصاً، بدقة شديدة، على أن يعرض على الخليفة دوافع عمله في مراسلاته معه.
- إن الدوافع التي برر من خلالها أعماله، ترجع دائماً إلى جهاد الصليبيين وتحرير بيت المقدس، بالإضافة إلى الحاجة الماسة لتوحيد الصف الإسلامي، من أجل تطوير متابعة الجهاد بنجاح.
- اتصف صلاح الدين أثناء تعامله مع الزنكيين بالكرم بصورة دائمة بعد هزيمته لهم في المعركة، وفي أساليب فرض الحصار عليهم.
- بعد تحقيق وحدة مصر وبلاد الشام، وضمان تأييد الموصل، شرع صلاح الدين فوراً في تحقيق الهدف الثاني الذي يمثل اهتمامه الأساسي، وهو تدمير الجيش الميداني للمملكة اللاتينية، وفتح بيت المقدس، وسنرى أن الأمر الأول تحقق في معركة حطين التي تأثرت نتيجتها بقدرته على نشر قوة إسلامية كبيرة وموحدة في الوقت الصحيح، وفي المكان الصحيح، في حين تحقق الأمر الثاني بعد معركة حطين وجاء نتيجة للانتصار في هذه المعركة.
ومن الأخلاق التي تميز بها صلاح الدين في صلح الموصل أنه لم يغادر منطقة الموصل حتى أهدى صاحبها ووالدته وزوجته وابنة نور الدين وعدداً آخر من رجال الدولة هدايا عظيمة بما يزيد على عشرة آلاف دينار سوى الخيل والطيب والتحف الغربية والثياب وتوجه بعد أن زال عنه المرض مع أخيه العادل أوائل سنة (582ه) إلى حلب ثم دمشق وكتب إلى جميع عماله بالأقطار بإخراج الصدقات وقد تصدق في دمشق وحدها بخمسة آلاف دينار مصرية.
رابعاً: محاولات الشيعة الإسماعيلية للقضاء على صلاح الدين:
انقسمت الطائفة الإسماعيلية بعد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر في عام (487ه/ 1094م) إلى فرقين: النزارية التي اعتقد أعتباعها بأحقية ابنه الأكبر نزار بالخلافة وقد فروا إلى الشرق بعد أن تعرضوا لحملة اضطهاد في مصر، وكان على رأسهم الحسن بن الصباح الذي أسس في بلاد فارس ما يعرف بالفرقة النزارية وغلب على أتباعه اسم الحشيشية، أو الباطنية، والفرقة الثانية هي المستعلية، أتباع المستعلي، الابن الثاني للمستنصر.
وتعمق الحسن بن الصباح في دراسة العقيدة الإسماعيلية وكان الحسن بن الصباح الحميري قد نشأ بالري في بلاد فارس وتأثر في شابه بالدعوة الإسماعيلية وزار مصر والتقى بالمستنصر وظل الحسن بن الصباح مقيماً في مصر زهاء ثمانية عشرة شهراً كان خلالها موضع حفاوة المستنصر، فأمده بالأموال وأمره بأن يدعو الناس على إمامته في بلاد العجم وكان الحسن بن الصباح يرى أن تولية نزار تتفق مع التعاليم الإسماعيلية التي تشترط في الإمام أن يكون أبناء أبيه، ولا شك بأن إقامة الحسن بن الصباح في مصر أتاحت له التعرف على أحوال الدولة الفاطمية، وما آلت إليه الدعوة الإسماعيلية في ظل سيطرة بدر الجمالي، وقد عزم على إقامة الدعوة للمستنصر في فارس وخراسان، وحرص على تكوين مجتمع اسماعيلي صرف، وحين عاد إلى بلاد فارس بدأ بنشر دعوته إلى نزار رافضاً البيعة للمستعلي معتبراً نفسه نائباً للإمام مخططاً لإنشاء دولة اسماعيلية جديدة في المشرق الإسلامي بعد أن رجع إلى فارس وبلغ أصفهان سنة (473ه) وباشر دعوته السرية، ولما ضيق نظام الملك عليه الخناق رحل إلى قزوين واستولى على قلعة "الموت" الحصينة وجعلها مقراً له ولجماعته فتوسعوا وأكثروا الفساد في البلاد ولم يكد الحسن بن الصباح يستولي على قلعة الموت حتى بادر بالاستيلاء على القلاع المجاورة فأطلق دعاته لتحقيق هذا المأرب ولم يمض وقت طويل حتى كان الصباح قد استولى على المنطقة الواقعة جنوب قزوين برمتها بعد أن سيطر على القلاع المتناثرة في أرجائها، والتي تبلغ نحو الستين قلعة وكانت هذه القلاع تقع في الغالب وسط وديان صالحة للزراعة وبالقرب من موارد ثابتة للمياه، وكانت القلعة تكون وحدة اقتصادية عسكرية مستقلة بذاتها، يعيش أهلها معتمدين على أنفسهم في زراعة الأرض والدفاع عن القلعة وما حولها في مواجهة أي غزو أو اعتداء واستطاع الحسن الصباح في عهد نظام الملك السلجوقي أن يواجه أتباعه الشديدي الولاء له لتحقيق أهداف سياسية مناهضة لخصومه وبخاصة الخلافة العباسية السنية، فقد تحدى شرعيتها بالإضافة إلى بعض الأمراء المسلمين من السلاجقة وأهم ما استخدمه من أسلحة هو الاغتيال وقام أتباعه بسلسلة عمليات اغتيال كان ضحيتها الكثير من رجال الدولة العباسية وأمرائها، فعظم أمرهم، وقويت شوكتهم، وخشيهم الناس، وامتلأوا منهم رعباً وكان الحسن الصباح وأتباعه من الإسماعيلية الشيعية شديد البغض لأهل السنة، وتوسعت الحركة الإسماعيلية الباطنية الشيعية وامتلكوا عدة حصون هامة في بلاد الشام مثل القدموس والعليقة والكهف ومصياف وغيرها، والواضح أنهم ارتاعوا لزوال الخلافة الفاطمية وانتصار المذهب السني في مصر، وشعروا بالخطر يتهددهم في بلاد الشام، وبخاصة أن نور الدين محمود كان قد قيد توسعهم على الطريق الشرقي، من أجل ذلك أرسلت القيادة في قلعة الموت في عام (558ه/ 1163م) رشيد الدين سنان البصري، المعروف بشيخ الجبل ليتولى إقليم النصيرية في بلاد الشام، فتوجه هذا إلى حلب متنكراً بزي الدراويش وبقي فيها عدة أشهر، ثم تنقل بين قلاع الحشيشية حتى استقر في مصياف.
1- محاولة الشيعة الإسماعيلية الأولى لاغتيال صلاح الدين:
نقم الشيعة الباطنية (الحشاشون) على صلاح الدين لأنه أسقط الخلافة الفاطمية وتقدم لبلاد الشام لتوحيده، وضمه إلى مصر مما يشكل تهديداً لكيانهم، فتعاون راشد الدين مع كل من الصليبيين والزنكيين للقضاء عليه وراشد الدين، كبير الإسماعيلية وطاغوتهم وهو أبو الحسن سنان بن سلمان بن محمد البصري الباطني صاحب الدعوة النزارية كان ذا أدب وفضيلة ونظر في الفلسفة وأيام الناس وفيه شهامة ودهاء ومكر وغور وقال عنه الذهبي: وكان سخطه وبلاء متنسكاً متخشعاً واعظاً، وكان يجلس على صخرة لا يتحرك منه سوى لسانه، فربطهم وغلوا فيه واعتقد منهم فيه الإلهية فتبا لهم ولجهلهم، فاستغواهم بسحر وسيمياء وكانت له كتب كثيرة ومطالعة وطالت أيامه ففي عام (570ه/ 1174م) عندما توجه صلاح الدين الملك الصالح إسماعيل إلى رشيد الدين، يطلب مساعدته وبذل له أموالاً كثيرة وعدداً من القرى ثمناً لقتل صلاح الدين، والواضح أن مصلحة مشتركة قد جمعت الطرفين هي العداء لصلاح الدين، أرسل رشيد الدين سنان جماعة من أتباعه الفدائيين إلى المعسكر الأيوبي فاكتشفهم أمير يدعى خمارتكين، فقتلوه، ووصلوا إلى خيمة صلاح الدين في جوف معسكره، وحمل عليه أحدهم ليقتله، فقتل دونه واستبسل الباقون في الدفاع عن أنفسهم قبل أن يقتلوا جميعاً، ومن المستبعد أن يكون تحريض كمشتكين هو الدافع الأساسي والوحيد لرشيد الدين، للقيام بتلك العملية لأنه كان يعمل لأسباب خاصة به، وهو أن صلاح الدين منذ أن دخل بلاد الشام، أضحى العدو الرئيسي للحركة لأنه كان يعمل على توحيد أهل السنة هناك الذي من شأنه أن يهدد كيان حركته.
2- المحاولة الثانية:
لم يتوقف رشيد الدين عن محاولات اغتيال صلاح الدين رغم فشل المحاولة الأولى، بل زاد تصميمه فأرسل في ذي القعدة عام (571ه/ أيار 1176م) جماعة من أتباعه يتنكرون في زي الجنود، فدخلوا المعسكر الأيوبي أثناء حصار قلعة عزاز، وباشروا الحرب مع جند صلاح الدين واختلطوا بهم يتحينون الفرصة لقتل صلاح الدين وفيما كان الجند منشغلون بحصار القلعة، مر صلاح الدين بخيمة الأمير جادلي الأسدي لتشجيع الجند على مواصلة القتال، فهجم عليه أحد الإسماعيلية وضربه بسكينه على رأسه، إلا أن صلاح الدين كان يلبس خوذته الحديدية فوق رأسه، فعاد الرجل وضربه على خده فجرحه، فأمسكه صلاح الدين بيده وحاول تعطيله وهو مستمر في هجومه وضربه إلى أن أدركه الأمير سيف الدين يازكوج وقتله، ثم هجم فدائي ثاني على صلاح الدين، فتصدى له داوود بن منكلان وقتله، ثم هجم فدائي ثالث لتنفيذ المهمة، فاعترضه الأمير علي أبو الفوارس، وطعنه ناصر الدين محمد بن شيركوه وقتله وخرج رابع من الخيمة هارباً، فطارده الجند وقتلوه وقد تسبب هذا الحادث المفاجئ في اضطراب صلاح الدين حتى أن فحص جنوده جميعاً، فمن أنكره أبعده، ومن عرفه أقره، وحرص حرصاً شديداً واتخذ تدابير احترازية صارمة، وبالطبع فقد كان للحادث أثر في نفوس الجند، حتى أنهم توقفوا عن القتال أمام عزاز، وخاصة عندما أشيع أن صلاح الدين قد قتل، وعلى سبيل الاحتياط الشديد ضرب حول سرادقه برجاً من الخشب، وقد أرسل القاضي الفاضل كتاباً ليطمئن الملك العادل أخا صلاح الدين فيها على أخيه ويروي له تفاصيل الحادث الحقيقية.
3- أسلوب صلاح الدين في تأديب الإسماعيلية:
أرسل صلاح الدين إلى رشيد الدين سنان يتهدده فرد عليه زعيم الحشاشين بعدة أبيات شرحها كما يلي: وقفت على تفصيل كتابكم وجمله، وعلمنا ما هددنا به من قوله وعمله، فبالله العجب من ذبابة تطن في أذن فيل، وبعوضة تعد في التماثيل، ولقد قالها من قبلك قوم فدمرنا عليهم وما كان لهم من ناصرين، أللحق تدحضون وللباطل تنصرون؟ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، ولئن صدر قولك في قطع رأسي، وقلعك لقلاعي من الجبال الرواسي، فتلك أماني كاذبة، وخيالات غير صائبة فإن الجواهر لا تزول بالأعراض، كما أن الأرواح لا تضمحل بالأمراض، وإن عدنا إلى الظاهر وعدنا عن الباطن قلنا في رسول الله أسوة حسنة "ما أوذي نبي ما أوذيت" وقد علمت ما جرى على عترته وشيعته، فالحال ما حال والأمر ما زال، وقد علمتم ظاهر حالنا، وكيفية رجالنا، وما يتمنونه من الفوت ويتقربون به من حياض الموت، وفي المثل: "أو للبط تهدد بالشط؟ فهيئ للبلايا أسباباً وتدرع للرزايا جلباباً، فلأظهرن عليك منك، وتكون كالباحث عن حتفه بظلفه، وما ذلك على الله بعزيز، فكن لأمرنا بالمرصاد، واقرأ أول النحر وآخر ص.
بعد محاولات الاغتيال الفاشلة أخذ صلاح الدين بالاحتراز الشديد حتى أنه ضرب حول سرادقه برجاً من الخشب وكان للحادث أثر بالغ في نفوس الجند الذين اضطربوا وتوقفوا عنا لقتال أمام عزاز، واضطرب أمر الناس أيضاً، حين شاع في البلاد أن صلاح الدين قد قتل، فاضطر صلاح الدين عندئذ إلى الطواف بين جنده ليشاهده الناس، كما أرسل القاضي الفاضل كتاباً إلى الملك العادل، أخي صلاح الدين يطمئنه فيه ويروي له حقيقة الحادث وصمم صلاح الدين على أن يضع حداً لهذه الحركة التي وضح خطرها في بلاد الشام وجهز حملة عسكرية في شهر محرم عام (572ه/ شهر تموز 1176م) فحاصر حصونهم ونصب المجانيق الكبار عليها وأوسعهم قتلاً وأسراً وساق أبقارهم وخرب ديارهم، وهدم أعمارهم وهتك أستارهم حتى شفع فيهم خاله شهاب الدين محمود تكشى صاحب حماة وكانوا قد راسلوه في ذلك لأنهم جيرانه، فرحل عنهم وقد انتقم منهم ودمر قوتهم.
وقد اضطر الحشاشون إلى التفاهم مع صلاح الدين بعد فشل محاولاتهم المتكررة لاغتياله، وعدم قدرتهم على التصدي لقواته، لذلك فضلوا وقوفه على الحياد على أن يكون عدواً مباشراً لهم ومهما يكن من أمر، لم تشر المصادر التاريخية بعد إبرام الصلح إلى أي احتكاك بين الطرفين، وانفرد ابن الأثير برواية تشير إلى تعاونهما عندما طلب صلاح الدين من رشيد الدين سنان قتل ريتشارد قلب الأسد، وكونراد مونتفيرات صاحب صور، ووعده بدفع الأموال مقابل ذلك لكن سنان خشي أن يتخلص صلاح الدين من أعدائه فيتفرغ للحشيشة ويقضي عليهم لذلك اكتفى بقتل كونراد وعدل عن قتل ريتشارد.