زياد ابو شاويش
في الخامس من تشرين الأول أكتوبر عام 1977 انتظرناه في قاعة التأمين بمدينة سبها عاصمة الجنوب الليبى ليتحدث إلينا ونجرى معه حوارا حول جملة من القضايا السياسية الهامة.
انتظرنا ما يقرب الساعتين ولم يحضر القائد الفلسطيني المليء بالحيوية، وحضر بدلاً منه عمر شلايل "أبو رجائي" وأخبرنا بوصول عرفات للقاهرة للمشاركة في احتفال مصر بانتصار حرب أكتوبر. . بعد تلك الليلة الطويلة بست سنوات كان علينا أن ننتظره مرة أخرى في مصر ماراً بقواته المنسحبة من طرابلس لبنان بعد الانشقاق داخل صفوف الحركة إثر الهزيمة في حرب 1982 والخروج من لبنان. . . غادر عرفات لبنان متوجهاً إلى منطقة المغرب العربي وإلى تونس تحديداً، لكنه الرحيل الذي وعد أن يكون الذي يليه الى الوطن والقدس الشريف. كان يراهن على عدالة القضية الفلسطينية. . . ولم ينكسر الحلم الذي بدأته حركة فتح، فقد أحيته الانتفاضة الأولى وعادت الروح للمشروع الوطنى الفلسطيني حين طالب بحصد نتائج سياسية لتلك الانتفاضة قبل أن تكمل عامها الأول، وكان تعبيره الأوضح عن ذلك حين تحدث عن الحامل والولادة بعد الشهر التاسع مشبهاً الانتفاضة بذلك، وكانت الانتفاضة قد بلغت شهرها التاسع في تطور مذهل أدهش كل العالم ووضع الحلم الفلسطيني على سكة التحقق لأول مرة منذ بدء الثورة عام 1965، غير أن ما جرى بعد ذلك وضع حداً لتطور منطقي للصراع، حين تم كسر هذا التطور باتفاق أوسلو المشؤوم ولتبدأ رحلة أمل جديدة ومعاناة وانقسامات لا زلنا نستشعر آثارها على قلوبنا وعقولنا وكل ما بنيناه عبر مسيرة طويلة من النضال. .
وفي المحطة قبل الأخيرة من رحلته أدرك أبو عمار أنه توغل كثيراً وأن شريك السلام قام بعملية خداع كبيرة كان من نتيجتها وضع كل القيادات يساراً ويميناً داخل قبضته الأمنية وبدأ يساوم بطريقة مختلفة وبمماطلة أغضبت الرئيس الراحل وأشعرته بأن هذا الانتقال للداخل.
بالإضافة الى أنه حيد شعبنا في الخارج وشل قدرته على العطاء والعمل، فإنه قد وضع عراقيل وصعوبات أمام نضال حقيقي في الداخل يقدم له ورقة مساومة يفرض من خلالها رؤيته للانتقال للدولة والقدس وغيرها من قضايا الحل النهائي الذي كان يظن أن اسرائيل ستقر بحقنا فيها طالما قبلت بسلام الشجعان كما أسماه الراحل ياسر عرفات، ومعتمداً في ذلك على شريك إسرائيلي قوى ك"رابين" رئيس وزراء اسرائيل في حينه والذي اغتيل تاركاً عرفات مع شركاء مراوغين يجيدون الكذب. . وقد استخدم عرفات كل الوسائل الدبلوماسية وعلاقاته بزعماء سياسيين على الصعيد الدولى لذلك الهدف لكن تلك المحاولات كانت تصطدم بحقائق عنيدة ترتبط بميزان القوى المائل لإسرائيل وباختلاف السياسة الإسرائيلية في موضوع الحقوق الفلسطينية بين الأحزاب الصهيونية. . . وبالمحصلة فقد كان أمام الزعيم الفلسطيني طريق واحد ليس له علاقة بالمفاوضات السلمية مع العدو، طريق الكفاح المسلح مرة أخرى وطريق الانتفاضة الشعبية التي بدأتها قوات الأمن الفلسطينية مع بدء الاحتجاجات على اقتحام شارون للمسجد الأقصى.
لقد بذل عرفات كل ما يملك من خبرة وجهد لنصرة شعبه واستعادة حقوقه الوطنية، وكان شديد الحيوية وقادرا على الانتقال من شكل الكفاح الوطني إلى شكل آخر طالما أنه الأنسب لمستقبل مشروعنا الوطني، ولم يكن يعطى ثقته للعدو في المطلق، أصاب هنا وأخطأ هناك لكنه بقى على العهد فيما يخص برنامج منظمة التحرير الفلسطينية المرحلي حتى آخر يوم من حياته، وبقى حاملاً لهموم الناس والعمل على تخفيفها حتى آخر نفس.
لقد كان ابو عمار رمزا لفلسطين وقاسماً مشتركاً حتى لمن اختلف معهم وحلم بمستقبل زاهر لشعبه في ظل سلام الشجعان كما كان حريصاً على وحدة الصفوف ومنح الجميع فرصة المشاركة في شرف الانتصار.