المؤلف/ علي محمد الصلابي
خامساً: علاقة صلاح الدين مع سلاجقة الروم:
كان عز الدين قلج أرسلان الثاني عام (550ه- 585ه/ 1155م-1192م) سلطاناً على سلاجقة الروم، وكان بينه وبين البيزنطيين صراعاً انتهى بانتصاره على البيزنطيين في معركة ميريو كيفالون في عام (571ه/ 1176م) وكان انتصاره مؤثراً على وجود الدولة البيزنطية حيث أنه تم في هذه المعركة تحطيم القوة الميدانية للجيش البيزنطي نهائياً، وذكر المؤرخون أن هذه المعركة، معركة ميرويو كيفالون، قررت آسيا الصغرى والشرق بصورة نهائية فلم يعد بوسع البيزنطيين تهديد بلاد الشام بعد ذلك.
1- المواجهة الأولى بين صلاح الدين وقلج أرسلان:
فكر قلج أرسلان الثاني في بلاد الشام وأراد أن يؤمن له طريقاً إلى الفرات، فتظاهر بالسياسة والمداهنة وأرسل رسولاً إلى دمشق، اجتمع بصلاح الدين وطلب منه حصن "رُعبان" وحصن "كيسوم" وهما إلى جنوب قلج أرسلان، فرعبان مدينة بالثغور بين حلب وسميساط قرب الفرات معدودة بالعواصم وكيسوم قرية من أعمال سميساط وجاء رسول قلج أرسلان ليطلب هذا الطلب بحجة أنهما كانا سابقاً من أملاك سلاجقة الروم وضمهما والده مسعود، ثم اضطر فتنازل عنهما لنور الدين محمود، وأغضبت هذه الرسالة صلاح الدين، وأثارت غيظه فأغلظ القول لرسول أرسلان، بل وتوعد قلج أرسلان الثاني فعاد الرسول إلى قونية، وأخبر سلطانها بما جرى، فغضب قلج أرسلان وهاجم حصن رعبان في عام (575ه/ 1179م) وكان يحكم هذا الحصن شمس الدين بن المقدم من قبل صلاح الدين فهاجمه قلج أرسلان بقوة كبيرة تساوي عدة آلاف، وعندما علم صلاح الدين أرسل قوة عسكرية تقدر بألف فارس بقيادة المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه صاحب حماه، فتقدم بقواته حتى اقترب من المعسكر السلجوقي ودار حوله مستكشفاً، فتبين له أن جيش أرسلان مسترخ غافل، فاغتنم هذه الفرصة، ووزع قسماً من قواته حول المعسكر، ومعهم الآلات الموسيقية، البوقات وغيرها واستعد هو من القسم الآخر للانقضاض على المعسكر وهيأ جو المفاجأة، وفي الوقت المحدد أعطى إشارة البدء للموسيقيين بإطلاق الموسيقى وإحداث جلبة مصطنعة، فلما سمع الجنود السلاجقة تلك الضجة من أصوات الموسيقى وجلبة الرجال واصطكاك الحديد، وشدة وقع حوافر الخيل التي كانت تدور باستمرار حول المعسكر، هالهم ذلك، وتوهموا أنهم مطوقون بأعداد هائلة من الجنود فدب الذعر بينهم، وغرقوا في بحر من الفوضى ثم لاذوا بالفرار طالبين النجاة، تاركين وراءهم خيامهم وأثقالهم، وانقض عليهم في تلك اللحظة المظفر تقي الدين عمر بفرسانه، وأخذ يعمل فيهم قتلاً وأسراً، وهم هاربون لا يلوون على شيء، وغنم جميع ما تركوه، ثم من على الأسرى، وسرحهم وعاد قلج أرسلان الثاني إلى ملطية يجر أذيال الهزيمة والعار، وملطية بلد من بلاد الشام المشهورة، والمتاخمة إلى بلاد الشام.
2- المواجهة الثانية بين صلاح الدين وقلج أرسلان الثاني:
وبعد مرور عام على هذه الأحداث، عاد النزاع مرة أخرى بين صلاح الدين وقلج أرسلان، وكان سبب هذا النزاع مسألة عائلية، فقد أقام قلج أرسلان الثاني علاقات سياسية مع أصحاب حصن كيفا، ووثق هذه العلاقات بزواج ابنته سلجوقة خاتون بنور الدين محمد ابن قرا أرسلان، صاحب الحصن، ومنحه قلج أرسلان الثاني عدداً من الحصون التي تجاور بلاده كمهر، وبعد فترة من الزمن أحب نور الدين محمد مغنية فمال إليها، وتزوجها وأعرض عن زوجته السلجوقية، فكتبت إلى أبيها تشكوه، فبعث إليه، إما أن تحسن عشرتها وإما أن تفارقها، فلم يهتم به، عند ذلك قرر قلج أرسلان الثاني القيام بحملة عسكرية ضد نور الدين محمد لتأديبه والاستيلاء على بلاده، فاستجار هذا الأخير بصلاح الدين، فأرسل صلاح الدين إلى قلج أرسلان يطلب منه أن يتخلى عن محاولته ضد إمارة كيفا، فأجابه بأنه أعطى نور الدين محمد عدة حصون مجاورة لبلاده عندما زوجه ابنته، وقد سلك سلوكاً سيئاً مع ابنته فقرر استعادة ما أعطاه من الحصون، ومن ثم ترددت الرسل بين الرجلين دون أن تسفر عن نتيجة، فاضطر صلاح الدين إلى التوجه على رأس جيشه إلى بلاد الروم لإيقاف قلج أرسلان الثاني عند حده، والتحق به نور الدين محمد فتقدم إلى تل باشر وهي قلعة حصينة شمال حلب، ثم عرج على رعبان، فلما علم قلج أرسلان الثاني بتقدم صلاح الدين خشي الهزيمة وأرسل على الفور أحد كبار مساعديه وهو الأمير اختيار بن عفراس، ليشرح له الموقف، وأنه لا بد من تأديب نور الدين محمد على تصرفه، وأسفرت الاتصالات عن اجتماع الأطراف الثلاثة: نور الدين وقلج أرسلان وصلاح الدين في شهر (جمادي الأولى 576ه/ تشرين الأول عام 1180م).
وبعد مداولات مستفيضة، تمسك صلاح الدين بوجهة نظره وهدد بالزحف على ملطية وبلاد السلاجقة إن أصر قلج أرسلان على تأديب نور الدين محمد، وكان الأمير السلجوقي قد شاهد أثناء إقامته في المعسكر الأيوبي شدة صلاح الدين، وقوته وكثرة سلاحه ودوابه، فهاله الأمر، لذلك بذل جهداً مضنياً في شرح القضية من الوجهة الدينية، فاقتنع صلاح الدين بكلامه وأخيراً تم الاتفاق على ما يلي:
- يطلق نور الدين محمد المغنية بعد سنة.
- إذا لم يفعل ذلك يتعاون صلاح الدين مع قلج أرسلان الثاني على حربه.
- يدخل جميع أمراء الموصل وديار بكر والأراتقة في هذا الصلح.
ويبدو أنه جرى اتفاق ثنائي على هامش المباحثات بين صلاح الدين والأمير السلجوقي بمساعدة الأول للسلاجقة في حربهم ضد الأرمن من كليكيه الذين كانوا يهاجمون الأراضي السلجوقية، بدليل أنه هاجم بلاد الأرمن عقب توقيع الصلح مباشرة وقبل أن يعود إلى بلاد الشام. ومهما يكن من أمر، فقد كان لهذا الاحتكاك الأيوبي السلجوقي انعكاسات سلبية إلى حد ما على العلاقات بين الطرفين في المستقبل، توضحت في التحالفات التي قامت بين صلاح الدين والإمبراكور البيزنطي إسحاق انجليوس من جهة وبين قلج أرسلان الثاني والإمبراكور فريدريك بربروسا من جهة ثانية.
سادساً: علاقة صلاح الدين مع الخلافة العباسية:
لم تكن علاقة صلاح الدين مع العباسيين في يوم من الأيام سيئة أو لم تصل إلى درجة السوء والعداء، فلربما فترت أحياناً لكنها لم تصل إلى العداء، وإذا نظرنا إلى صلاح الدين نجده قد ارتبط بالخلافة العباسية نتيجة ارتباطه بالزنكيين، فزعيم الزنكيين نور الدين محمود كان محباً للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله لاقتناعه بعقيدته السنية، ولذلك فقد حرص على تأييده واحترامه، وبادله الخليفة العباسي هذه بإرساله الخلع والتشريفات له، وحض أمراء الولايات على مساندته ضد الصليبيين من ذلك بدأ صلاح الدين علاقة جيدة مع الخليفة العباسي حينما كان وزيراً للخليفة الفاطمي العاضد عام (567ه/ 1171م) وخطا صلاح الدين خطوة هامة في علاقته بالعباسيين حينما قطع الخطبة للخليفة الفاطمي وأقامها للعباسيين على منابر مصر، معبراً عن طاعته وولائه للخليفة العباسي، ولما مات نور الدين محمود، واستغل الصليبيون حالة بلاد الشام المضطربة وهاجموها، أرسل صلاح الدين إلى الخليفة العباسي، يصور له الأوضاع في بلاد الشام السياسية، وهجوم الصليبيين على بلاد المسلمين، وبين جهوده في إنها الخلافة الفاطمية في مصر، وإعادة الخطبة للعباسيين وتصديه للصليبيين عندما هاجموا الإسكندرية في مصر، وأسباب ضمه لليمن، وبعد هذه الرسالة المطولة التي عدد فيها إنجازاته التي تؤكد إخلاصه وولاءه للخليفة العباسي، طلب منه أن ينعم عليه بتقليد يشمل مصر والمغرب واليمن والشام، وكل ما تشتمل عليه ولاية نور الدين، وكل ما يفتحه الله للدولة بسيوفنا، وسيوف عساكرنا ولم نقيمه من أخ وولد من بعدنا، تقليداً يضمن للنعمة تخليداً مع ما ينعم به من السمات التي يقتضيها الملك" كانت هذه الرسالة من صلاح الدين وما نتج عنها نقطة تصب في بناء صرح دولة صلاح الدين، فقد استجاب الخليفة لمطالبه وأنعم عليه بحكم مصر والشام، وقد رأى فيه الخليفة العباسي شخصية تملأ فراغ نور الدين محمود بعد وفاته، مما جعله يعترف له بالسلطنة لأنه أصبح في نظره الشخصية الوحيدة التي يمكن أن تدافع عن المسلمين. وقد ساهم هذا التقليد وغيره - مثل إرسال دار الخلافة له عندما كان يحاصر حماه في عام (570ه/ 1174م) تحمل إليه التشريفات والتقليد والتمليك والتفويض، ساهم كل هذا في إضفاء المهابة على صلاح الدين أمام أمراء المسلمين، وكذلك الصليبيين الذين أقلقهم صعود نجمه وهذه العلاقة الطيبة مع الخلافة العباسية، أفادت صلاح الدين في صراعه مع الأمراء المسلمين المناوئين له والمتطلعين للسلطة وبخاصة الزنكيين، لذلك كان دائماً ما يطلع الخلافة على إنجازاته وانتصاراته ويحيلها إلى مفهوم حرصه على الخلافة وولائه وانتمائه لها والمحافظ على وجودها وكانت العلاقة في عهد الخليفة المستضيء متميزة.
1- وفاة الخليفة المستضيء بأمر الله عام 575ه:
هو الخليفة أبو محمد الحسن بن المستنجد بالله يوسف بن المقتفي محمد بن المستظهر أحمد بن المقتدي الهاشمي العباسي، بويع بالخلافة وقت موت أبيه في ربيع الآخر سنة ست وستين وخمس مئة، وقام بأمر البيعة عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء فاستوزره يومئذٍ وكان ذا حلم وأناة ورأفة وبر وصدقات، وقال ابن الجوزي في المنتظم: بويع، فنودي برفع المكوس، ورد المظالم، وأظهر من العدل والكرم ما لم نره من أعمارنا، وفرق مالاً عظيماً على الهاشميين وقال ابن الجوزي:. . وفي خلافته زالت دولة العبيدية بمصر، وخطب له بها وجاء الخير، فغلقت الأسواق للمسرة وعملت القباب وصنفت كتاباً سميته "النصر على مصر" وعرضته على الإمام المستضيء وخطب له باليمن، وبرقة، وتوزر، وإلى بلاد الترك ودانت له الملوك وكان يطلب ابن الجوزي، ويأمره أن يعظ بحيث يسمع، ويميل إلى مذهب الحنابلة، وضعف بدولته الرفض ببغداد ومصر وظهرت السنة وحصل الأمن. وكان ابتداء مرض المستضيء في أواخر شوال من سنة 575ه فأرادت زوجته أن تكتم ذلك فلم يمكنها ووقعت فتنة كبيرة ببغداد ونهبت العوام دوراً كثيرة، وأموالاً جزيلة، فلما كان يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال خطب لولي العهد أبي العباس أحمد بن المستضيء وهو الخليفة الناصر لدين الله وكان يوماً مشهوداً نثر الذهب فيه على الخطباء والمؤذنين ومن حضر ذلك عند ذكره على المنبر، وكان مرضه بالحمى ابتدأ فيها يوم عيد الفطر ولم يزل الأمر يتزايد به حتى استكمل في مرضه شهراً ومات سلخ شوال، وله من العمر تسع وثلاثون سنة، وكانت مدة خلافته تسع سنين وثلاثة أشهر وسبعة عشر يوماً، وغسل وصلي عليه من الغد، ودفن بدار النصر وهو عدة الدين والدنيا أبو العباس أحمد الناصر لدين الله والآخر: أبو منصور هاشم وقد وزر له جماعة من الرؤساء وكان من خيار الخلفاء أماراً بالمعروف نهاءً عن المنكر، وضع عن الناس المكوسات والضرائب، ودرأ عنهم البدع والمعايب، وكان حليماً وقوراً كريماً، فرحمه الله تعالى وبل ثراه وجعل الجنة مأواه وبويع بالخلافة من بعده لولده الناصر. <