;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس .. الحلقة السابعة والسبعون 1011

2008-11-24 03:28:58

المؤلف/ علي محمد الصلابي

2- علاقة صلاح الدين بالخلافة العباسية بعد المستضيء:

توفي الخليفة العباسي المستضيء بالله وخلفه ابنه أبو العباس أحمد، الذي تلقب بلقب الناصر لدين الله، فبايعه صلاح الدين وأرسل رسولاً إلى بغداد للتعزية بوفاة والده والتهنئة له بمناسبة توليه مهام الخلافة كما توفي في هذه الأثناء سيف الدين غازي الأول صاحب الموصل، وخلفه أخوه عز الدين مسعود الأول، فكتب صلاح الدين إلى الخليفة يطلب منه أن يفوض إليه الأمور كما كانت أيام والده، استجاب الناصر لدين الله لمطالب صلاح الدين، وأرسل شيخ الشيوخ صدر الدين أبا القاسم عبدالرحمن شهاب الدين بشير الخادم، بالتفويض والتشريف الجديد وذلك في (شهر رجب/ شهر كانون الأول) ولقبه بالألقاب السنية منها: الملك الأجل السيد صلاح الدين، ناصر الإسلام، عماد الدولة، فخر الملة، صفي الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، قامع الكفرة والمشركون، قاهر الخوارج والمرتدين عن المجاهدين، ألف غازي يوسف بن أيوب، أدام الله علوه، على هذه السجايا مقبلاً وأمره بتقوى الله والحفاظ على الصلاة، وقصد المساجد الجامعة، ولزوم نزاهة الحرمات واجتناب المحرمات، وإحسان السيرة في الرعايا، وإظهار العدل في الرعية، وحفظ الثغور، ومجاهدة الكفار، والاعتماد في إدارة شؤون البلاد على أصحاب الدين والعفاف، ثم أشار إليه بواجب شكر الخلافة على ما أسبغت عليه من التأييد والاحترام، واطمأن صلاح الدين لمساندة الخليفة له وتقبل كتابه بقبول حسن، وكتب إليه يقول الخادم: ولله الحمد بعدد سوابق في الإسلام، والدولة العباسية لا يعمرها أولية أبي مسلم لأنه والي ثم واري، ولا آخرية طغرلبك لأنه نصر ثم حجر، والخادم خلع من كان ينازع الخلافة رداءها. . فكسر الأصنام الباطنية بسيفه الظاهر وكان يخطب له على المنابر في جميع الأراضي التابعة له، ويرتدي الخطباء في كل مناسبات شارات الدولة العباسية، ويرفعون أعلامها السوداء.

وفي المقابل، امتنع الخليفة عن منح الخلع السوداء والعمامة السوداء، لأحد المقربين أو الأمراء ممن يدخل في حكم صلاح الدين، وذلك احتراماً له وتقديراً لشخصه وتمييزاً له عن غيره، في ذلك أنه رفض في عام (578ه/ 1182م) منح الأمير جمال الدين خوشترين الذي هرب من الموصل وأراد الالتحاق بصلاح الدين، خلعة سوداء وعمامة سوداء بناء على طلبه مما يدل على رغبة الخليفة الصادقة في الحفاظ على العلاقات الطيبة مع صلاح الدين إلا أن الخليفة العباسي لم يمنحه تقليداً بولاية الموصل، وكان صلاح الدين قد وجه عدة رسائل إلى بغداد يوضح حاجته في الحصول على تقليد بإمارة الموصل، لكن طلبه لم يتحقق، برغم أنه أعطاه تقليداً بإمارة آمد في ديار بكر وتعد الموصل قريبة جداً من حدود الخلافة، مما يثير مخاوف الخليفة، ويذكر المؤرخون أن السبب الذي حمل الخليفة الناصر على عدم إعطائه تقليداً بولاية الموصل ربما يكون الخوف من امتداد سلطان صلاح الدين إلى بغداد القريبة من الخلافة كالموصل والجزيرة، وفي خلاف صلاح الدين مع سيف الدين غازي صاحب الموصل استجاب صلاح الدين لرغبة الخليفة وانسحب من سنجار، ولكن صلاح الدين تجاوز هذا الموقف بعتاب رقيق، ولكنه استمر في طاعته، ومراسلة الخليفة، وإطلاعه على إنجازاته وأعماله أولاً بأول وخاصة معركة حطين، وخاطبه قائلاً: الخادم يشرح من نبأ هذا الفتح العظيم، والنصر الكريم. . . وثق الخليفة بصلاح الدين، وقدر له هذا الإخلاص في صور هدايا أرسلها له بعد فتح بيت المقدس، ومن جملة هذه الهدايا لوحاً منقوشاً عليه بعض الآيات والكلمات لتعليقه على باب بيت المقدس، قال فيه: أجري هذا الفتح على يد محيي دولته وسيف نصرته والقائم بطاعته، المخلص في عبوديته والمجاهد تحت رايته، يوسف بن أيوب معين أمير المؤمنين وقد حاول الوشاة الإيقاع بين الخليفة وصلاح الدين الأيوبي بعد معركة حطين يأتي الحديث عن ذلك في محله بإذن الله.

سابعاً: علاقة صلاح الدين بالدولة البيزنطية:

كان الإمبراطور مانويل كومنين من أكثر المعادين لصلاح الدين والمسلمين، وكان حليفاً للصليبيين، ولكن عندما تولى الإمبراطور أندروس نيقوسي كومنين في عام (578ه/ 1182م) تغيرت الأحوال وأقام علاقات قوية مع صلاح الدين نظراً لمصلحته المشتركة مع صلاح الدين فقد كان عدوه الأول السلاجقة الذين دمروا الجيش البيزنطي في معركة "ميربو كيفالون" في أواخر عام (571ه/ 1176م) كما أن كراهية البيزنطيين للصليبيين اللاتين والإيطاليين لاستيلائهم على مقدرات واقتصاد بيزنطية جعلت أندروس نيقوسي كومنين، يتقرب أكثر من صلاح الدين، وكان هذا التقارب يهدف إلى المحافظة على مصالحهما المشتركة ضد "اللاتين" الصليبية بشكل عام والسلاجقة بشكل خاص، وقد نظر الغرب الأوروبي إلى هذا التقارب على أنه انتهاك لرابطة الدين من بيزنطة وتحطيماً للتقاليد، لأن الحروب بين الجانبين الإسلامي والبيزنطي كادت تكون مستمرة منذ ظهور الإسلام، ومع ذلك فإن أندرو نيقوسي كومنين وخليفته إسحاق الثاني أنجيلوس، بدلا هذه السياسة، وتقربا من صلاح الدين أكبر عدو للصليبيين، بل إنهما حاولا جاهدين أن يقضيا على الإمارات الصليبية في الشرق، وسبق ذلك تقارب شخصي عندما نفي أندرو نيقوسي كومنين إثر عزله عن إمارة كليكلية بعد عام (1116م) فقد لجأ إلى دمشق، فأحسن نور الدين محمود استقباله، وقد وضع أندرو نيقوسي كومنين أساساً لهذه العلاقة عندما أرسل سفيره إلى صلاح الدين في عام (581ه/ 1185م) يعرض عليه قيام تحالف بينهما على أسس أهمها:

- يبذل صلاح الدين الولاء لأندرو نيقوسي كومنين نظراً لأنه إمبراطور.

- يتعاون الطرفان ضد السلاجقة وإذا تم الاستيلاء على آسيا الصغرى من السلاجقة تضاف إلى أملاك الإمبراطورية.

- يتعهد أندرو ينقوسي ببذل المساعدة لصلاح الدين في نضاله ضد الصليبيين في بلاد الشام، ولكن قبل أن يقرر صلاح الدين الرد على هذه الشروط خلع أندرو نيقوسي عن القدس في جمادي الآخرة عام (581ه/ أيلول عام 1185م) ثم قتل وأصبح إسحاق أنجيلوس إمبراطوراً عام (1185-1195م).

وقد رغب صلاح الدين في استمرار التقارب مع الإمبراطور إسحاق الثاني استجابة لرغبة الثاني الذي رأى ضرورة الحفاظ على هذه العلاقة ليواجه أعداءه وهم: النورمان في صقلية الذين هددوا العاصمة القصطنطينية، والصليبيين في بلاد الشام والسلاجقة في آسيا الصغرى، فأقر المعاهدة السابقة مع أندرو نيوقسي بعد أن عدل صلاح الدين بعض شروطها بما يتفق وقوته ومكانته التي لا تضاهيها قوة البيزنطيين المنهارة، وقد أغضب هذا الاتفاق الصليبيين في الشرق، فعهد ريمون أمير طرابلس الصليبي إلى إلقاء القبض على الكسيوس أخي الإمبراطور، وكان في طريقه من دمشق إلى القصطنطينية، حيث كان لا يزال ضيفاً على صلاح الدين، وذلك أثناء مروره، بعكا في عام (582ه/ 1186م) ثم قام بإيداعه السجن، واستنجد الإمبراطور إسحاق بصلاح الدين وحثه على مهاجمة الصليبيين والضغط عليهم لإطلاق سراح أخيه، وهاجم في العام التالي جزيرة قبرص كي يخفف الضغط عن صلاح الدين، غير أن القوات البيزنطية تعرضت للهزيمة، كما جرى تدمير الأسطول البيزنطي، أما صلاح الدين فقد هاجم في تلك الأثناء مملكة بيت المقدس الصليبية مستغلاً الأحداث لتحقيق هدفه الأول وهو ضرب الصليبيين، واستطاع صلاح الدين أن يفتح بيت المقدس والمدن الساحلية، وأطلق الكسيوس الذي عاد إلى القسطنطينية وبعد أن انتصر صلاح الدين على الصليبيين، أرسل رسلاً إلى الإمبراطور البيزنطي تحمل إليه الهدايا، وتخبره بما حققه من انتصارات ونجاحات فاستضاف الإمبراطور صلاح الدين في قصر وسط العاصمة، وجدد التالف مع صلاح الدين ورد الإمبراطور برسالة مماثلة واستقبل صلاح الدين الرسولين البيزنطيين في ذي القعدة عام (583ه/ 1188م) بعد أيام من رفع الحصار عن صور، بحضور أبنائه وأمرائه وموظفيه، وقد أشاد إسحاق الثاني أنجيلوس في رسالته لصلاح الدين بما قام به من جهد في سبيل إطلاق سراح أخيه، أعرب عن امتنانه، وسأل صلاح الدين الرسولين عن أحوال الإمبراطورية، ولعل أهم خبر حملته البعثة، الإشارة إلى ما حدث في الغرب من الدعوة إلى حملة صليبية جديدة، وقد كان صلاح الدين على علم بهذه الأنباء، فتبين له إخلاص إسحاق الثاني، وقد شعر صلاح الدين وإسحاق الثاني بالانزعاج من هذه الأنباء وأراد صلاح الدين ضمان مساعدة إسحاق الثاني أنجيلوس أثناء اجتياز الحملة إلى بلاده التي تعد ممراً طبيعياً للحملات البرية، لذلك أرسل مع الرسولين البيزنطيين عند عودتهما رسلاً من قبله للتفاوض مع الإمبراطور البيزنطي بشأن قيام تحالف عسكري بين الدولتين الأيوبية والبيزنطية للتصدي للغزو الصليبي وكان من بين الهدايا التي أرسلها صلاح الدين إلى إسحاق الثاني أنجيلوس منبراً لتنصيبه في مسجد القصطنطينية مع اهتمامه بعمارته، والمحافظة على الشعائر الإسلامية في العاصمة البيزنطية وأبدى إسحاق الثاني أنجيلوس رغبة في مراعاة الشعائر اليونانية في كنائس فلسطين وسيأتي الحديث مفصلاً عن العلاقة الأيوبية البيزنطية في الحملة الصليبية الثالثة لاحقاً بإذن الله.

ثامناً: علاقة صلاح الدين بالصليبيين قبل حطين:

كان صلاح الدين يهدف إلى توحيد مصر وبلاد الشام من أجل تحقيق النصر على الصليبيين، وفي نفس الوقت أدرك صلاح الدين أن مقاومة الصليبيين إشغالهم لا يجوز أن ينتظر تحقيق الوحدة الشاملة، ولذلك اعتمد صلاح الدين في استراتيجية العمل على هذين الخطين، خط الوحدة، وخط مقاومة الصليبيين واستغلال كل ظرف يمكن أن يفيد منه في مقاومة الصليبيين، ولم يغفل صلاح الدين في خضم ذلك أن يتبع العديد من الاستراتيجيات وكان منها:

أ - العمل على زيادة تحصين مناطق سيطرته في مصر والشام، سواءً أكان ذلك بزيادة قواته العسكرية والاهتمام بقسميها البري والبحري، أم بالعمل على بناء تحصينات وقلاع تؤمن له ولقواته حماية أفضل أو لجعلها مناطق مراقبة لتحصينات الصليبيين، فاهتم بتحصين القاهرة والإسكندرية ودمياط وبنى القلاع في بلاد الشام مثل قلعة عجلون، وفي نفس الاتجاه العمل في سبيل السيطرة على القلاع والحصون الواقعة تحت السيطرة الصليبية أو العمل على منع أو إعاقة العمل الصليبي لبناء قلاع وتحصينات يمكنها أن تهدد المناطق الإسلامية.

ب - العمل على عقد اتفاقيات مع قوى يمكن أن تؤثر على إمداد الصليبيين، كما يمكنها أن تؤثر على الجبهة الإسلامية اقتصادياً وعسكرياً وكان التركيز في هذا المجال على المدن الإيطالية التجارية.

ج- اللجوء إلى عقد هدن مع بعض الأطراف الصليبية بهدف التفرغ لمحاربة طرف صليبي آخر مستغلاً في ذلك أوضاع الصليبيين وخلافاتهم، وخاصة ما كان بين مملكة بيت المقدس وإمارة طرابلس، كما كان يستغل هذه الهدن للتفرغ لإتمام تحصينات عسكرية أو للعمل على إتمام الوحدة منطلقاً في ذلك من أن طبيعة الأوضاع لا تتيح له المحاربة على أكثر من جبهة واحدة في نفس الوقت. <

 

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2024-11-29 03:22:14

نوفمبر المتجدد

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد