جلال عارف
كان أحد الإنجازات الهامة في حرب أكتوبر 73 هو النجاح العربي في إغلاق البحر الأحمر أمام الملاحة الإسرائيلية. وكان التعاون المصري اليمني حاسماً في تأمين هذه الجبهة.
كما كان تأكيداً على أن التضحيات التي قدمها الشعبان الشقيقان خلال سنوات الحرب في اليمن بعد ثورة سبتمبر لم تذهب سدى، وأن تغييراً استراتيجياً يحدث في موازين القوى في المنطقة إحدى تجلياته أن يكون البحر الأحمر عربياً خالصاً .
أتذكر ذلك ونحن نواجه حوادث القرصنة واختطاف السفن في خليج عدن وقرب سواحل الصومال بكل ما تثيره من شكوك، وبكل ما تنبه إليه من مخاطر على الأمن القومي العربي.. لندرك متأخرين كالعادة كم ابتعدنا عن الهدف الذي كان ماثلاً أمام عيوننا عام 73 ؟
وكيف لم نستثمر نتائج الحرب لبلورة إستراتيجية عربية للحفاظ على أمننا القومي ؟ وكيف انشغلنا (أو تم إشغالنا) بمعاركنا الصغيرة وصراعاتنا غير المبررة.. لنصحو الآن على واقع لا نجد فيه شبراً واحداً آمنا في وطننا العربي ؟!
وحتى لا نغرق في التعميم، ونتوه في حجم المشاكل التي نواجهها، نبقى في نطاق الخطر الداهم الذي تمثله حوادث القرصنة الأخيرة، والتي كان آخرها وأبرزها خطف ناقلة البترول السعودية العملاقة بكل ما تثيره من علامات استفهام وما تفتحه من ملفات تتصل كلها بأمن المنطقة..
بدءاً من تأمين نقل البترول العربي، وحتى سلامة العبور من قناة السويس، مروراً بالمخاطر التي يمثلها استفحال خطر الجماعات الإرهابية التي تقوم بعمليات القرصنة على أمن الدول العربية المطلة على البحر الأحمر، وخطورة استمرار الأوضاع المتدهورة في الصومال واستمرار الاقتتال الداخلي في السودان على مستقبل المنطقة بكاملها .
والسفينة السعودية هي واحدة من حوالي أربعين سفينة نجح القراصنة في اختطافها منذ بداية العام، والمثير أن يتم ذلك بعد أن تحولت المنطقة إلى ساحة عمليات تنتشر فيها السفن الحربية التابعة لحلف «الناتو» القادمة لمواجهة عمليات القرصنة التي تتم باستخدام بضعة قوارب صغيرة .
وعلى أيدي عصابات صومالية محدودة التسليح لا نعرف كيف تنجح في ارتكاب جرائمها، وكيف تحتفظ تحت سيطرتها باثني عشرة سفينة مختطفة مرابضة في الحفظ والصون على سواحل الصومال تحت رقابة (أو رعاية !!) الأساطيل الكبرى ؟!
إننا أمام خطر يهددنا ويهدد العالم حين يكون نقل البترول (و غيره من السلع الأساسية) غير مؤمن.. فهل سيكون تأمين سفن النقل هو مسؤولية (الناتو) بعد ذلك.. وبأي ثمن وبأي شروط ؟!
ونحن أمام خطر يتعلق بقناة السويس . ورغم أن الناقلة السعودية كانت في طريقها للمرور عبر رأس الرجاء الصالح وليس عبر قناة السويس، فقد بدأت بعض شركات الشحن العالمية في الحديث عن تجنب المرور بالقناة.. فهل الهدف فقط هو الضغط لتخفيض رسوم المرور في القناة في ظل الأزمة العالمية الراهنة التي خفضت إيجارات الناقلات بشكل كبير فانخفضت بالتالي تكلفة النقل عبر رأس الرجاء الصالح.. أم أن هناك أهدافا أبعد من ذلك ؟!
حتى الآن لا يبدو الموقف خطيرا على ناقلات البترول التي يمكن تأمينها، كما أن المرور في قناة السويس لم يتأثر كثيراً، ولكن المستقبل ملئ بكافة الاحتمالات، ثم يبقى الجانب الأخطر وهو أمن البحر الأحمر الذي يمثل نقطة مركزية في أمن الدول العربية المطلة عليه وفي الأمن القومي العربي كله .وهو ما جعل الدول العربية المعنية تجتمع أخيرا في القاهرة، وبعد خمسة وثلاثين عاما من حرب أكتوبر !!.. خمسة وثلاثون عاماً ضاع فيها الصومال، ودخل فيها السودان مرحلة التقسيم، وضرب الإرهاب في اليمن والسعودية ومصر، ولم نتمكن من وضع استراتيجية عربية لأمن البحر الأحمر رغم كل المخاطر..
لنجد أنفسنا الآن أمام خطر «تدويل» أمن البحر الأحمر تحت دعوى الحرب ضد القراصنة، وأمام خطر الأطماع الإسرائيلية في لعب دور محوري من خلال إطلالتها على البحر الأحمر، وأمام خطر ابتزازنا باستخدام القرصنة في مواجهة البترول العربي من ناحية وقناة السويس من ناحية أخرى.
والسؤال المطروح اليوم هو نفسه المطروح منذ أن ضاع منا الطريق الذي وجدناه في حرب أكتوبر حين اجتمعت الكلمة العربية، وهو: هل يظل الأمن العربي مكشوفاً في ظل غياب استراتيجية واحدة لتأمين الوطن العربي ؟
وهل سنكتفي هذه المرة ? كالعادة ? بترك «الآخرين» يوفرون الحماية لنا ويتقاضون الثمن غالياً من استقلالنا ومن استمرار ضعفنا رغم كل ما نملكه من إمكانيات.. أم أن الوقت قد حان لكي نبني القوة العربية القادرة على حماية مصالحنا وتحقيق أمننا.. اليوم في البحر الأحمر وغدا في باقي أنحاء الوطن العربي ؟!.
سؤال أرجو ألا يغيب عنا درس حرب أكتوبر المجيدة ونحن نبحث عن الإجابة عليه، لندرك أننا بتضامننا وبما نملكه من إمكانيات قادرون على بناء القوة التي تحمي مصالحنا.. ليس فقط من القراصنة الصغار أمام سواحل الصومال، بل أيضا، وأولا، من القراصنة الكبار الذين يستخدمون أساطيلهم وحاملات طائراتهم ليبقى القرار قرارهم، ولتبقى المنطقة تحت وصايتهم !!.<