المؤلف/ علي محمد الصلابي
وقد استفاد صلاح الدين لتحقيق ذلك من ظروف كانت تميل لصالح الجبهة الإسلامية التي تسير إلى طريق الوحدة، في حين أن الجبهة الصليبية كانت تسير في خط الانحدار حسب تعبير المؤرخ روبرت باينه، كما استفاد صلاح الدين من الروح الجهادية التي بدأت معالمها بالوضوح منذ أيام عماد الدين زنكي ومن بعده ابنه نور الدين، وعند الحديث عن المعارك التي خاضها صلاح الدين الأيوبي ضد الصليبيين في هذه الفترة علينا أن ندرك بأنها كانت معارك متعددة، وفي أكثر من موقع، ولكنها لم تكن في هذه المرحلة لتصل إلى مرحلة خوض حرب شاملة مع الصليبيين وأهم تلك المعارك هي:
1- غارات الصليبيين على أملاك صلاح الدين: 570ه 572ه:
كان أول ما التزم به ريموند الثالث من واجبات، بوصفه وصياً على عرش مملكة بيت المقدس، أن يحد من نمو قوة صلاح الدين ومنعه من ضم حلب، لذلك لم يتوقف الصليبيون عن شن الغارات على أملاكه، خلال الصدام بينه وبين الزنكيين، وإن كانت هذه الغارات ضعيفة الأثر، محدودة النطاق، بسبب اضطراب أوضاعهم ففي شهر محرم عام (571ه/ شهر آب عام 1175م) انتهز الملك الصليبي بلدوين الرابع فرصة انشغال صلاح الدين مضطراً لتهدئة الجبهة مع الصليبيين ليتفرغ لقتال سيف الدين غازي أمير الموصل، حتى لا يحارب على جبهتين في وقت واحد: الزنكيين في الشمال والشرق والصليبيين في الجنوب والغرب فجدد الهدنة مع مملكة بيت المقدس ونقض الصليبيون الهدنة في العام الثاني، في غمرة استمرار النزاع بين صلاح الدين والزنكيين، فهاجموا الأراضي التي يسيطر عليها صلاح الدين، فأغار ريموند الثالث صاحب طرابلس على إقليم البقاع، في حين زحف الجيش الملكي من الجنوب بقيادة الملك وهمفري سيدتبنين، ويبدو أن ريموند الثالث تعرض للهزيمة على يد ابن المقدم أمير بعلبك، غير أن الجيشين الصليبيين اجتمعا سوياً، واصطدما بشمس الدولة توران شاه، أخي صلاح الدين ونائبه في دمشق، عند عنجر في البقاع، وكان قد خرج لنجدة بعلبك غير أن اللقاء لم يكن حاسماً، ولم يكد صلاح الدين يقدم من الشمال حتى انسحب الصليبيون من المنطقة، ولم يشأ أن يتعقبهم وإنما فضل العودة إلى مصر تاركاً أخاه توران شاه في دمشق.
2- الصليبيون يغيرون على حمص وحماه:
لا شك بأن الصليبين أضاعوا من أيديهم فرصة ذهبية لضرب صلاح الدين في مصر، في الوقت الذي لم يثبت أقدامه في شمالي بلاد الشام، ذلك أن الظروف كلها كانت مهيأة لهم بعد أن وضع الإمبراطور البيزنطي كل ثقله لنجاح الحملة، وقد أثبتت الأيام أن تلك الفرصة لم تتح للصليبيين بعد ذلك، وإذا كان مشروع الحملة الصليبية - البيزنطية المشتركة على مصر قد باء بالفشل، فإن ذلك لم يمنع الصليبيين من الاستفادة من الحملة الفلمنكية لمهاجمة الأراضي الإسلامية التي يسيطر عليها صلاح الدين في بلاد الشام، ففي 4 ربيع الأول عام (572ه/ 11 أيلول 1176م) غادر صلاح الدين بلاد الشام إلى مصر بعد أن عقد الصلح مع الملك الصالح اسماعيل صاحب حلب، فانتهز بلدوين الرابع الفرصة، وكرر الطلب من فيليب الألزاسي بضرورة مواجهة القوات الإسلامية المتمركزة على الحدود الشرقية لإمارتي الرها وطرابلس، فوافق الأخير على طلبه ثم غادر بيت المقدس في شهر ربيع الآخر عام (573ه/ نهاية شهر تشرين الأول عام 1177م) متوجهاً إلى الشمال لمساعدة كل من ريموند الثالث صاحب طرابلس وبوهيمند الثالث صاحب أنطاكية بناءً على طلبهما، حيث بدا ممكناً إنجاز شيء ما في ظل غياب صلاح الدين، وأمده الملك بمائة فارس وألفين من الشاة، وأغارت كتيبة من الجيش على بلاد حمص، فوقعت في كمين وفقدت كل ما حصلت عليه من غنائم، بينما أغار كل من فيليب وريموند الثالث بقواتهما على حماه، التي كادت أن تسقط لولا صلابة المسلمين في الدفاع عنها، وارتدا خائبين بعد حصار دام أربعة أيام دون أن يحققا شيئاً، ويبدو أن الجدب الذي عم المنطقة في تلك السنة كان من بين أسباب هذه الغزوة، وفي الكتاب الفاضلي المرسل إلى بغداد بتوقيع صلاح الدين، ما يدل على ذلك: خرج الكفار إلى البلاد الشامية، فاسخين لعقد كان محكماً، غادرين غدراً صريحاً، مقدرين أن يجهزوا على الشام لما كان بالجدب جريحاً، ونزلوا على ظاهرة حماه يوم الاثنين الحادي والعشرين من جمادي الأولى.
3- الإغارة على حارم:
كانت حارم مدينة تقع شرقي نهر العاصي على بعد اثني عشر ميلاً من أنطاكية، وقد طلب أمير أنطاكية بوهيمند الثالث من فيليب الألزاس أن يشن هجوماً على مدينة حارم ووعده ببذل المساعدة، فتوجه فيليب إليها بصحبة ريموند الثالث، وكانت آنذاك تحت حكم كمشتكين، الأتابك السابق للملك الصالح اسماعيل، وقد سادها الاضطراب الداخلي بسبب مساندة أهلها لكمشتكين الذي كان على خلاف مع الملك الصالح اسماعيل، حوصرت حارم على يد الصليبيين في أوائل شهر جمادي الآخرة/ شهر تشرين الثاني فتناسى أهل حارم خلافاتهم وقاوموا الحصار، الذي استمر أربعة أشهر، وكانت مقاومتهم باسلة في الوقت نفسه أخذ الحلبيون يشنون غارات على الأراضي الصليبية القريبة، وأرسل الصالح اسماعيل فرقة عسكرية اجتازت خطوط الصليبيين، وانضمت إلى حامية المدينة وخرج صلاح الدين في هذا الوقت من مصر ليهاجم مملكة بيت المقدس الخالية ممن يحميها، فخشي الصليبيون أن يستنجد الحلبيون به كما عزموا على مساعدة مملكة بيت المقدس، لكن الملك الصالح اسماعيل فاوضهم على فك الحصار لقاء دفع مبلغ من المال، كما أنذرهم بأنه سيسلم المدينة إلى صلاح الدين، فقاموا بفك الحصار، وفشلوا في الاستيلاء عليها.
4- معركة الرملة:
كانت هذه المعركة تجربة مريرة لصلاح الدين ولعله تعلم منها أن الخطأ مقارعة الصليبيين قبل أن يحقق توحيد الجبهة الإسلامية فبتحقيقه لهذه الوحدة سيحصل على قوة زاخرة هائلة مستعدة للبذل في سبيل تحطيم قوة العدو المحتمل، إضافة إلى أنه سيكون بوسع جيشه التحرك في رقعة أوسع على الرغم من أن صلاح الدين قد ألحق جزءاً لا يستهان به من بلاد الشام بدولته في مصر، منذ أن توجه إلى دمشق عام (570ه/ 1174م) ثم ضم حمص وحماه، وحارم، إلا أن أجزاءً واسعة ظلت خارج نطاق نفوذه، وبعد أن عاد صلاح الدين إلى مصر سنة (572ه/ 1176م) قرر أن يقوم بحملة ضد الصليبيين، فخرج من القاهرة في عشرين ألف مقاتل في شهر جمادي الأولى 573ه/ تشرين الثاني 1177م وخيم بمدينة بلبيس المصرية الواقعة على بعد عشرة فراسخ من مدينة مصر على طريق الشام، ثم توجه منها إلى الأجزاء الجنوبية من فلسطين، فنزل على عسقلان التي يحتلها الصليبيون، وتمكن من أسر بعض الصليبيين، فأمر بضرب أعناقهم، ولم يجد صلاح الدين أية مقاومة تذكر من العدو، فتفرق جنده يكتسحون القرى مغيرين، وأخذوا يجمعون الغنائم، ثم جمع صلاح الدين بعض جنوده وتقدم بهم نحو بلدة الرملة القريبة من الساحل والتي كانت من أكبر المدن الفلسطينية يومئذٍ فاعترضهم نهر تل الصافية فتفرقوا يبحثون عن مكان يصلح لعبورهم، وبينما هم في هذه الحالة هجمت عليهم قوة صليبية، قبل أن يرتبوا أوضاعهم، والظاهر أن الصليبيين كانوا يراقبون تحركاتهم، فباغتوهم في الوقت المناسب، وكان يقودهم الأمير الشهير أرناط ويسانده في مهمته بلدوين الثالث ملك بيت المقدس ولم يكن مع صلاح الدين في تلك اللحظة سوى عدد ضئيل من أمرائه وجنده، لأن أكثرهم تفرقوا في طلب الغنيمة ثم بدأت المصادمات وتجمع جند صلاح الدين، واشتبكوا مع الصليبيين وقد أبلى بعض قادة صلاح الدين وأقاربه بلاءً حسناً، لا سيما تقي الدين عمر وابنه أحمد، وكذلك ضياء عيسى الهكاري وأخوه ظهير الدين، وقد أسرا وبقيا في الأسر سنتين، فافتدى صلاح الدين الفقيه عيسى بستين ألف دينار فقد تقدم تقي الدين عمر وباشر القتال ببسالة بين يدي عمه وقتل عدداً من الصليبيين، ثم تقدم ابنه أحمد، وأبدى ضروباً من الشجاعة، وقتل عدداً من أفراد العدو، وعاد إلى أبيه سالماً ثم أمره أبوه بالعودة إليهم ثانية قائلاً له: عد يا أحمد فإن العدو أحمد فعاد إليهم وقاتلهم فاستشهد إلا أن المسلمين لم يستطيعوا الصمود بوجههم وقد تحدث صلاح الدين عن الهزيمة، وكيف أدى تغيير مواقع الجنود وأجنحة الجيش إلى هذه النتيجة المؤسفة قائلاً: في وقت صار العدو على مقربة منهم رأى بعض الجنود أن يعبروا الميمنة إلى جهة الميسرة والميسرة إلى جهة القلب ليكون التل الموجود بأرض الرملة خلف ظهورهم، وليس أمامهم فبينما هم مشغولون بهذه الخطة هاجمهم العدو.
أسباب الهزيمة في معركة الرملة:
- مباغتة الصليبيين للجيش الأيوبي أثناء تفرق أفراده قبل أن يرتبوا أنفسهم في الوقت المناسب.
- هذه المباغتة أثرت إلى حدوث خلل في صفوف وأجنحة الجيش الأيوبي وتفرق قادة الجيش ولجوئهم إلى أسلوب المبارزة الفردية التي لم تجد نفعاً في مثل هذه الحالة.
- اختفاء صلاح الدين عن الأنظار حتى ظن أنه قتل.
- ابتعاد الجيش الأيوبي عن خطوط التموين وانقطاع الزاد والماء عنه ومما يؤكد فداحة الخسارة التي ألحقت بالجيش الأيوبي في هذه الموقعة قول المؤرخين إن الهزيمة: كانت وهناً لم يجبره الله إلا بوقعة حطين وقد قتل في هذه المعركة وجرح وأسر معظم من كان مع صلاح الدين، وخرج هو من وسط المعركة سالماً بأعجوبة، فبعد أن تمت الهزيمة، حمل أحد الصليبيين عليه، فقاربه حتى كاد أن يصل إليه فقتل الصليبي بين يديه: وتكاثر الفرنج على صلاح الدين فمضى منهزماً يسير قليلاً ويقف ليلحقه العسكر، إلى أن دخل الليل فسلك طريق البرية ومضى في نفر يسير إلى مصر، ولقوا في طريقهم مشقة شديدة، وقل عليهم القوت والماء، وهلكت دوابهم جوعاً وعطشاً وسرعة سير وفي الطريق إلى مصر اختفى صلاح الدين عن الأنظار، فأوقع ذلك الرعب في الصفوف، فخرج القاضي الفاضل مع بعض رفاقه يلتمس مكانه، وبثهم وسط الصحراء حتى اهتدوا إلى مكانه، وأسعفوه بما كان معهم من الزاد ثم وصل الركب إلى القاهرة في منتصف جمادي الآخرة (573ه/ كانون الأول 1175م) إلا أن خبر سلامته قد وصل إلى مصر على الهجن السريع قبل وصوله هو، لكي يضع حداً لكل من تسول نفسه التمرد على حكمه لا سيما من أعوان الفاطميين وليؤكد أنه ما زال على قيد الحياة، ولدى وصوله إلى القاهرة حمل الحمام الزاجل بطائر البشرى إلى أنحاء مصر، لتهدئة الخواطر. <