;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس .. الحلقة واحد وثمانون 817

2008-11-29 03:43:51

المؤلف/ علي محمد الصلابي

وهاهو ذا التاريخ يعيد نفسه، فالمسلمون ليسوا أمة واحدة وليس لهم دولة واحدة تحكمهم وتدبر أمور حياتهم ولكنهم فرق تفرقوا شذر مذر، قد آلت الأحوال بهم إلى أسوأ مما كانت في الحروب الصليبية التي نتحدث عنها، وأصبحت بلادهم نهبة لأعدائهم وخيراتهم ليست لهم، بل وفرضت عليهم مناهج الأعداء وقوانينهم.

إن الإسلام يوجب على دعاة الوحدة أن يجاهدوا دعاة الفرقة ويحملوهم على ذلك إلى أن يذهب بهم ويؤتى بغيرهم والله غني عن العالمين.

5- الوحدة مطلب شعبي عام لا يقف أمامه حاكم انفصالي:

لما رفض حاكم دمشق استقبال صلاح الدين كارهاً للوحدة والجهاد ضد الصليبيين لم يقبل أهل دمشق منه هذا التخاذل واستقبلوا صلاح الدين وجيش صلاح الدين وأصبح النفوذ والحكم لصلاح الدين المجاهد ومن معه، وها هو ذا المملوك سرخك حاكم قلعة حارم من أعمال حلب قد امتنع عن تسليمها لصلاح الدين الأيوبي وقد راسله في ذلك توحيداً لقوة المسلمين في جهاد الصليبيين، فأبى وأرسل الصليبيين ليحتمي بهم ضد صلاح الدين فسمع من معه من الأجناد أنه يراسل الصليبيين، فخافوا أن يسلمها إليهم وقبضوه وحبسوه، وراسلوا صلاح الدين يطلبون منه الأمان والإقدام، فأجابهم إلى ما طلبوا، وسلموا إليه الحصن.

6- الوحدة بين مصر والشام وأهميتها:

إن الاتحاد بين مصر والشام له أثره الحسن على المسلمين، فهذا يشكل جبهة حربية وقاعدة شعبية عريضة وقوية في التصدي للصليبيين إذا أرادوا غزو أي بلد من البلاد في مصر وفي الشام، فكان إذا اعتدي على أي بلد في مصر هبت جيوش الشام بمساعدة المعتدى عليهم في مصر وذلك إما بإرسال الجيش الشامي للقتال جانب المسلمين في مصر أو بالقيام بالجيش الشامي بفتح جبهة أخرى ضد الصليبيين لتفريق قوتهم وتخفيف الضغط على إخوانهم، وهكذا إذا حدث العدوان على أي بلد من بلاد الشام، يهب الجيش المصري بنجدة إخوانهم على أرض الشام، وسيرة صلاح الدين وضحت كيف كان يتعاون الجيش المصري مع الجيش الشامي للتصدي للصليبيين وبخاصة في فتح عسقلان، والمدن الساحلية أو الدفاع عنها، وقد تمكن صلاح الدين من تحقيق الوحدة أحياناً بالدبلوماسية، وبالتهديد والترهيب أحياناً أخرى، وبالعمل العسكري المحدود في بعض الأوقات، من تحقيق وحدة مصر وبلاد الشام والقسم الأكبر من بلاد شرق الفرات تحت سيادته وقيادته، وإلزام بقية القوى حتى حدود بلاد العجم بالمشاركة في الجهاد ضد الصليبيين وأتم ذلك دون تعطيل الجهاد، إذا استمرت العمليات العسكرية الهجومية بقيادته هو بنفسه أو بقيادة أمرائه من القاعدة الرئيسة في دمشق.

7- القاضي الفاضل وجهوده في التوحيد:

كان القاضي الفاضل العالم الكبير المؤثر في دولة صلاح الدين وكان صلاح الدين يشاوره ولا يقطع أمراً دونه ولا يخفي عنه مكنونه ولا ضميره ولا مكنونه، وكان قلم القاضي يحقق الانتصارات الإعلامية والسياسية والفكرية للدولة الأيوبية سواء في تواصله مع الخليفة العباسي، كما مر معنا أو التواصل مع الأمة الإسلامية من خلال موسم الحج، وكان صلاح الدين يسند إليه مهام إدارية واجتماعية واقتصادية وأمنية بمصر فيقوم بها على خير مقام وكان يراسله ويستفتيه في كثير من الأمور وهذه بعض فصوله كتب وردت من القاضي الفاضل صلاح الدين وهو بالشام.

أ - سور القاهرة: وأما سور القاهرة فعلى ما أمر به المولى شرع فيه وظهر العمل وطلع البناء وسلكت به الطريق المؤدية إلى الساحل بالمقسم، والله يعمر المولى إلى أن يراه نطاقاً مستديراً على البلدين، وسوراً بل سواراً يكون به الإسلام محلى اليدين، محلا الضدين والأمير بهاء الدين قراقوش ملازم الاستحثاث بنفسه ورجاله، لازم لما يعنيه بخلاف أمثاله، قليل التثقيل مع حمله لأعباء التدبير وأثقاله.

ب - في حق نقل القضاء من شرق الدين ابن أبي عصرون:

ولما ذهب بصره إلى ولده، لن يخلو الأمر من قسمين - والله يختار للمولى خيرة الأقسام ولا ينسى هذا التحرج الذي لا يبلغه ملك من ملوك الإسلام - إما إبقاء الأمر باسم الوالد بحيث يبقى رأيه ومشاورته، فتياه وبركته ويتولى ولده النيابة ويشترط عليهما المجازاة لأول زلة، وترك الإقالة لأول عثرة، فطالما بعث حب المنافسة الراجحة على اكتساب الأخلاق الصالحة، وإما أن يفوض الأمر إلى الإمام قطب الدين فهو بقية المشايخ، وصدر الأصحاب ولا يجوز أن يتقدم عليه في بلد إلا من هو أرفع طبقة في العلم منه.

ج- ومنها في إقامة عذر التأخر عن الجهاد:

وأما تأسف المولى على أوقات تنقضي عاطلة من الفريضة التي خرج من بيته لأجلها، وتجدد العوائق التي لا يوصل إلى آخر حبلها فللمولى نية رشده، وأليس الله العالم بعبده وهو سبحانه لا يسأل الفاعل عن تمام فعله، لأنه غير مقدور له ولكن عن النية لأنها محل تكليف الطاعة، وعن مقدور صاحبها من الفعل بحسب الاستطاعة، وإذا كان المولى "آخذاً" في أسباب الجهاد وتنظيف الطرق إلى المراد فهو في طاعة قد امتن الله عليه بطول أمدها وهو منه على أمل في نجح موعدها، والثواب على قدر مشقته، وإنما عظم الحج لأجل جهده وبعد شقته، ولو أن المولى فتح الفتوح العظام في أقل الأيام، وفصل القضية بين أهل الإسلام وأعداء الإسلام، لكانت تكاليف الجهاد قضيت وصحائف البر المكتسبة بالمرابطة والانتظار طويت.

د- في ذكر أولاد السلطان:

وقبل الإجابة عن الفصول فنبشر بما جرت العادة به، لا قطع الله تلك العادة، من سلامة وصحة وعافية شملت موالينا أولاده السادة أطاب الله الخبر إليهم عن المولى وإلى المولى عنهم، وعجل لقاءه لهم ولقاءهم له، فإنهم من يلق منهم. . . فهم بحمد الله - بهجة الدنيا وزينتها وريحان الحياة وزهرتها، وإن فؤاداً وسع فراقهم لواسع وإن طرفاً نام على البعيد عنهم لهاجع، وإن ملكاً ملك تصبره عنهم لحازم، وإن نعمة الله فيهم لنعمة بها العيش ناعم، أما يشتاق جيد المولى أن يتطوق بدررهم؟ أما تظمأ عينه إلى أن تتروى بنظرهم؟ أما يحن قلبه على قلبه؟ أما يلتفظ هذا الطائر بتقبيلهم ما خرج من حبه؟ وللمولى - أبقاه الله تعالى - أن يقول: وما مثل هذا الشوق تحمل مضعغة *** ولكن قلبي في الهوى بقلوب

وفي أخرى: والملوك الأولاد في كفالة العافية لا رفعت عنهم كفالتها وعليهم جلالة السلطنة لا فارقتهم جلالتها، وكل من المولى السادة الأمراء الأولاد، والقلادة كلها جوهر، وكلهم المقدم، وليس فيهم - بحمد الله - من يؤخرهم على ما عود الله من صحة وسلامة وكفاية ووقاية. . . والله تعالى يمد في عمر المولى إلى أن يرى من ظهورهم ما رأى جدهم رحمه الله في أهل بيته من البطن الرابع، فوارس الحرب الرائعة، وملوك الإسلام التي منهم الإسلام أكاسرة وتبابعة:

وما فيهم عند العلاء صغير *** وصغار أبناء الكبار كبائر

نجوم الأرض، وذرية بعضها من بعض والخالف الصالح المحض وهم في الدنيا والآخرة فرسان القوة والتقى يوم الحرب ويوم العرض.

ه- ومنها: وأما المأمور به في معنى المنكرات الظاهرة وإزالة أسبابها، وإغلاق أبوابها، وتحصين كل مبتوتة من عصمة وتطهير كل موسومة بوصمة، فالله يثيب المولى ثواب من غضب ليرضيه بغضبه وحمل الخلق على منهاج شرعه وأدبه.

و- في إسقاط الضرائب والمكوس على الحجاج:

من البشائر التي لا عهد لحاج ديار مصر بمثلها، ولا عهد لملك من ملوك الديار المصرية بالحصول على فخرها وأجرها، انقطاع المكاسين عن جدة وعن بقية السواحل ويكفي أن تمام هذه المثوبة موجب الاستطاعة مقيم لحجة، فقد كان الفتيا على سقوطه مع وجود الجامل، وما أكثر ما أجرى الله للخلائق على يد المولى من الأرزاق، التي تفضل عن الاستحقاق، وما أولاه أن يتوخى بالمعروف مكانه من هذين الحرمين الشريفين المهجورين من إسعاف أهل الاقتدار، والمحروم من قدر فيهما على خير فأضاع فرصته بترك البدار، وغير خاف عن همة الفرنج بلقدس برا وبحراً، ومركباً وظهراً، وسلماً وحرباً، وبعداً وقرباً، وتوافيهم على حمايته وهو أنف في وجه الإسلام، ومسارعتهم إلى نصرة أهليه بالأرواح والأموال على مر الأيام ومعاذ الله أن يستبصروا في الضلال، ونصرف نحن عن الحق وتضيق بنا في التوسعة على أهله سعة المجال والمملوك في مستهل رجب بمشيته الله يعول على السفر إلى الحجار لقضاء الفريضة قولاً وفعلاً، والسائرون في هذه السنة بطمعة وقفة الجمعة وبفسحة وضع المكس خلق لا يحصى والمولى شريك في أجرهم، فليهنه أن الملوك عمرت بيوتها فخربت، وأن المولى عمر بيت الله، فمن كرمه سبحانه أن يعمر بيت المولى، وما أشد خجل الملوك من النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التقصير في قوت جيرانه في هذه السنة وكانت هذه حجة سنة (574ه) وفي عام (576ه) استأذن القاضي الفاضل صلاح الدين في الحج فوافق السلطان ورد على القاضي الفاضل وكتب إليه على رأس الرقعة في سطر البسملة: على خيرة الله تعالى، يا ليتني كنت معكم فأفوز فوزاً عظيماً.

وجاء في رواية أن السلطان صلاح الدين رد على طلب القاضي الفاضل كتاباً وجاء فيه على حجة الأول سنة (574ه): وصلني كتاب القاضي الفاضل وهو يذكر أنه مصمم على الحج، الله يجعله مباركاً ميموناً لا يركب بحر، يسير من العسكر إلى أيلة ومنها يتوجه ويقيم العسكر على أيلة ليلة، وعلى إرم ليلة ودون ليلة، وقاطع إرم ليلة، هو قد بعد وما يبقى عليه خوف إن شاء الله تعالى، وثانية: تأخذ يده وتحلفه أنه لا يجاور وثالثة: تعطيه من مال الجوالي ثلاثة آلاف دينار وتقول له: لا بد ما تخرج هذا عني لا عنك في المجاورين بمكة والمدينة، وفي أهلها، هذا أمر لا بد منه، فإن الناس لا بد لهم من الطلب، ولا بد من العطاء وإن قال: إن الشيء قليل فأنت تقرضين هذا المبلغ من مالك وتعطيه إياه، فلا بد وإلا فلا إذن له في الرواح إلى الحج إلا على هذه الشروط التي قد شرطتها وأما مجيئه فيجيء إلى الشام، فأنا ما بقي لي دار إلا هي حتى يقضي الله بيننا وبين الفرنج "وهو خير الحكمين" (الأعراف: 87) وكتب القاضي الفاضل إلى بعض مشايخ مكة بعد رجوعه: سقى الله الحجاز وحيا كعبته، ويا طول ما ترشقني سهام الشوق الذي أصبح الذكر جعبته، آهاً على تلك المواقف، وتباً لمن رضي أن يكون مع الخوالف فرعياً ونعمى وحسنة وحسنى لمجاوري ذاك الحرم ولعامري أيامه التي هي الأيام لا أيام ذي سلم، فيا لهف الصدور وطول غليلها إلى ورود ماء زمزمه وطوبى لمن استضاء في مضال الظلم بعلمه، ومهما نسيت فلا أنسى برد الكبد بحر صيفها، وموسم الأنس بثلاث مناها وحفيفها:

آهاً عليها ليالٍ ما تركن لنا

إلا الأسى وعدلات من الحلم

عسى الرياح إذا سارت مبلغة

توفي فقد غدر الأحباب بالذمم

ثم قال: فأما الطريق المباركة فقد جرى فيها خطوب وشؤون وأحاديث كلها شجون، وكانت العقبى إلى سلامة ولما قاربنا الكرك نهض العدو، فلم تمكنه الرجعة ولا التعريج جانباً، ثم من الله تعالى بانجلاء النوبة ووصلنا إلى بلاد السلطان ولقينا ذلك الوجه، فلا عدمنا بشره وذلك الفضل فلا فارقت أعيننا فجر ووجدناه في الغزاة جاهداً وللعدو مجاهداً أوقاته مستغرقة وعزماته محققة.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2024-11-29 03:22:14

نوفمبر المتجدد

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد