المؤلف/ علي محمد الصلابي
ز- رغبة صلاح الدين في الحج عام (576ه):
قال العماد: وفيها في رجب وصلت رسل الديوان العزيز الناصري صدر الدين شيخ الشيوخ، أبو القاسم عبدالرحيم ومعه شهاب الدين بشير الخاص بالتفويض والتقليد والتشريف الجديد فتلقيناهم بالتعظيم والتمجيد وركب السلطان للتلقي وعلى صفحاته بشائر الترقي، فلما تراءى الرسل الكرام، ووجب له الإجلال والإعظام، نزل وترجل، وأبدى الخضوع وتوجل، ونزل الرسل إليه، وسلموا عن أمير المؤمنين عليه، فتقبل الفرض وقبل الأرض، ثم ركبوا، ودخلوا المدينة. . وظفر السلطان من صدر الدين بصديق صدوق وكان قد عزم على قصد الديار المصرية، وسلوك طريق أيلة والبرية، فحسن لشيخ الشيوخ مصاحبته ورغبة في زيارة قبر الشافعي رضي الله عنه فقال: قد عزمت في هذه السنة على الحج، فأصل معكم في القاهرة بشرط إقامة يومين ولا أدخلها، وإنما أسكن بالتربة الشافعية وأسير منها إلى بحر عيذاب، فلعلي أدرك صوم رمضان بمكة فالتزم له ذلك وأعاد أصحابه إلى بغداد، ليأتوه من طريقها إلى الحجاز، ورجع شهاب الدين بشير في جواب رسالته ومعه رسوله ضياء الدين الشهرزوري وأنشأ العماد كتاباً في الجواب إلى الديوان وفيه: وقد توجه الخادم إلى الديار المصرية لتجديد النظر فيها، ثم يستخير الله في الحج وأدائه، ويعود إلى مجاهدة أعدائه، وكتب القاضي الفاضل عن الملك العادل إلى الولاة باليمن يعلمهم أن ملوك الشرق قد دخلوا في طاعة السلطان، وأنه عازم على القدوم إلى مصر وصوم رمضان بها، والحج إلى بيت الحرام منها، ويأمرهم بالاستكثار مما يحمل لأجله إلى مكة من المال والأزوار، والخلع مما تشتمل عليه تلك الأعمال وكتب القاضي إلى أمير مكة وأمير ينبع يعلمهما بذلك ليتأهبا لقدومه وكتب القاضي الفاضل إلى السلطان صلاح الدين: جعل الله الملوك ذمة لسيفه وشرد منام الأعداء منهم بطيفه، وأمن أهل الإسلام بعدله من جور الدهر وحيفة وأشهده موقف الحج الأكبر، وزان بمحضره مشهد حنيفة، وجعل وفده الأكرم وضيف بيته منتظمين في هذه السنة في وفده وضيفه، ثم هنأه بما فتح الله عليه من محبة الجهاد، وما أثره في بلاد الأرمن وغيرها من البلاد، وما تبع ذلك من نية الحج، بلغه الله منه المراد ويبدو أن السلطان سنح له الحج من شيخ الشيوخ، ثم حصل له ما منعه منه.
ح- مرض صلاح الدين وأثره على مجرى الأحداث:
في عام (581ه) واتفق أنه مرض مرضاً شديداً وهو يتجلد ولا يظهر شيئاً من التألم حتى قوي عليه الأمر وتزايد الحال حتى وصل إلى حران، فخيم هنالك من شدة ألمه وشاع ذلك في البلاد فخاف الناس عليه وأرجف الكفرة الملحدون وخاف أهل البر والمؤمنون، وقصده أخوه أبو بكر العادل من حلب بالأطباء والأدوية، فوجده في غاية الضعف، وأشار عليه بأن يوصي ويعهد، فقال: ما أبالي وأنا أترك من بعدي أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - يعني أخاه العادل صاحب حلب، وتقي الدين عمر صاحب حماه وهو إذ ذاك نائب مصر، وهو بها مقيم وابنيه العزيز عثمان والأفضل عليا - ثم نذر لله تعالى لئن شفاه الله من مرضه هذا ليصرفن همته كلها إلى قتال الكفار ولا يقاتل بعد ذلك مسلماً، وليجعلن أكبر همه فتح بيت المقدس، ولو صرف في سبيل ذلك جميع ما يملكه من الأموال والذخائر وليقتلن البرنس صاحب الكرك بيده، وذلك لأنه نقض العهد الذي عاهد السلطان عليه فغدر بقافلة من تجار مصر، فأخذ أموالهم وضرب رقابهم صبراً بين يديه، وهو يقول: أين محمدكم ينصركم؟ وكان هذا النذر كله بإشارة القاضي الفاضل رحمه الله وهو الذي أرشده إلى ذلك وحثه عليه حتى عقد مع الله عز وجل، فشفاه الله رضي الله عنه وعافاه مما كان ابتلاه به من ذلك المرض الذي كان فيه، كفارة لذنوبه ورفعاً لدرجته ونصرة للإسلام وأهله، وجاءت البشائر بذلك من كل ناحية وزينت البلاد ولله الحمد والمنة وكتب القاضي الفاضل من دمشق وهو مقيم بها إلى المظفر تقي الدين عمر نائب مصر لعمه الناصر، أن العافية الناصرية قد استفاضت أخبارها، وأنوارها وآثارها وولت العلة ولله الحمد، وأطفئت نارها وانجلى غبارها وخمد شرارها وما كانت إلا فلتة وقى الله شرها، وعظيمة كفى الله الإسلام أمرها، وما كان الله ليضيع الدعاء وقد أخلفته القلوب ولا ليوقف الإجابة وإن سدت طريقها الذنوب ولا ليخلف وعد فرج وقد أيس الصاحب والمصحوب.
نعي زاد فيه الدهر ميماً *** فأصبح بعد بؤساه نعيما
وما صدق النذير به لأني *** رأيت الشمس تطلع والنجوما
وقد استقبل مولانا السلطان الملك الناصر العافية غصة جديدة والنشاط إلى الجهاد، والجنة مبسوطة البساط وقد انقضى الحساب وجزنا الصراط وعرضنا نحن على الأهوال التي من خوفها كاد الجمل يلج في سم الخياط.
وقد وصف العماد مرض السلطان صلاح الدين فقال:. . . . والسلطان كلما زاد ألمه زاد في لطف الله أمله، وكلما بان ضعفه قوي على الله توكله، وأنا ملازمه ليلاً نهاراً وسراً وجهاراً وهو يملي علي في كل وقت وصاياه ويفرق بقلمي على عفاته عطاياه. . . وكان خلقه أحسن ما كان في حال الصحة يخاطبنا بسجاياه السهلة السمحة، ولا يخلو مجلسه من أولي فضل وذوي نباهة ونبل، يتجاذبون بحضرته أطراف الفوائد، ويهزون لمكارمه أعطاف المحامد فتارة في أحكام شرعية، ومسائل فقهية وآونة في صناعات شعرية، وألفاظ عربية، ومعان أدبية، ومرة في أحاديث الأجواد وشيم الأمجاد، ودفعة في ذكر فضائل الجهاد، وفرائض التأهب له والاستعداد وينذر أنه إن خلصه الله من نبوة هذه النوبة، وأعفاه الله من كدر هذه المرضة ومرارتها بالعافية الصافية الحلوة، اشتغل بفتح البيت المقدسي ولو ببذل نفائس الأموال والأنفس، وأنه لا يصرف بقية عمره إلا في قتال أعداء الله، والجهاد في سبيله وإنجاد أهل الإسلام والإقبال على قبيله، وأنه لا يترك شمة الجود والسماحة بالموجود، والوفاء بالعقود والمحافظة على العهود وإنجاز الوعود، وربما استروح في بعض ساعات الليل أو النهار إلى السماع لإشارة الأطباء به لأجل التفريج والإمتاع ولقد كان ذلك المرض تمحيصاً من الله للذنوب وتنزيهاً وتذكرة موقظة من سنة الغفلة وتنبيهاً.
وكانت صادقاته الراتبة دارة، وبالأبرار بارة، على أن جوده مستوعب الموجود ولا يترك فضلاً للوفود. . . فدفع بالصدقة البلاء، ورفع للصدق الولاء، ونظر الله إلى النيات.
8- وفاة شخصيات مهمة في هذه المرحلة:
أ- وفاة عصمة خاتون:
في عام (572ه) تزوج السلطان صلاح الدين بالست خاتون عصمة الدين بنت معين الدين أنر وكانت زوجة الملك نور الدين محمود، فأقامت بعده في القلعة محترمة مكرمة وولي تزويجها منه أخوها سعد الدين مسعود بن أنر، وحضر القاضي ابن أبي عصرون العقد ومن معه من العدول، وبات صلاح الدين عندها تلك الليلة والتي بعدها وكانت من أحسن النساء وأعفهن وأكثرهن صدقة، وهي واقفة الخاتونية الجوانية بمحلة حجر الذهب، وخانقاه خاتون ظاهر باب النصر في أول الشرف القبلي على بانياس ودفنت بتربتها في سفح قاسيون قريباً من باب الشركسية وإلى جنبها دار الحديث الأشرفية والأتابكية ولها أوقاف كثيرة غير ذلك وقد توفيت عام (581ه).
ب- وفاة الأمير الكبير سعد الدين مسعود بن معين الدين:
كان من الأمراء الكبار أيام نور الدين وصلاح الدين وهو أخو الست خاتون عصمة الدين، وحين تزوجها صلاح الدين زوجه أخته الست ربيعة خاتون بنت أيوب، التي تنسب إليها المدرسة الصلاحية بالسفح على الحنابلة، وقد تأخرت مدتها فتوفيت في سنة ثلاثاً وأربعين وستمائة وكانت آخر من بقي من أولاد أيوب لصلبه وكانت وفاته بدمشق في جمادي الآخرة سنة (581ه) من جرح أصابه وهو في حصار ميافارقين.
ج- وفاة توران شاه أخو صلاح الدين:
في عام (576ه) توفي أخو السلطان الأكبر الملك المعظم شمس الدولة توران شاه بن أيوب الذي افتتح بلاد اليمن عن أمر أخيه صلاح الدين، فمكث فيها حيناً واقتنى منها أموالاً جزيلة، ثم استناب فيها، وأقبل نحو أخيه إلى الشام شوقاً إليه، وقد كتب إليه من أثناء الطريق شعراً عمله له شاعره ابن المنجم وكانوا قد وصلوا إلى تيماء:
فهل لأخي بل مالكي علم أنني *** إليه وإن طال التردد راجع
وإني بيوم واحد من لقائه *** لملكي على عظم المزية بائع
ولم يبق إلا دون عشرين ليلة *** وتجنى المنى أبصارنا والمسامع
لدى ملك تغنو الملوك إذا بدا *** وتخشع إعظاماً له وهو خاشع
كتبت وأشواقي إليك ببعضها *** تعلمت النواح الحمام السواجع
وما الملك إلا راحة أنت زندها *** تضم على الدنيا ونحن الأصابع
وكان قدومه إليه في سنة إحدى وسبعين فشهد معه مواقف مشهودة وغزوات محمودة واستنابه على دمشق مدة، ثم سار إلى مصر فاستنابه على الإسكندرية فلم توافقه وكان يعتريه القولنج، فمات بها ودفن بقصر الإمارة فيها، ثم نقلته أخته ست الشام بنت أيوب في تابوت إلى دمشق ودفن بالمدرسة الشامية ومعنى توران شاه: ملك المشرق.
وكان الملك توران شاه كريماً جواداً ممدحاً شجاعاً باسلاً عظيم الهيبة كبير النفس واسع الصدر.
ولما بلغ خبر موته إلى أخيه السلطان الملك الناصر صلاح الدين وهو مخيم بظاهر حمص، حزن عليه حزناً شديداً، وجعل ينشد باب المرائي من الحماسة وكانت محفوظة.
د- وفاة الملك المنصور عز الدين فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب:
توفي في عام (578ه) وهو صاحب بعلبك ونائب دمشق لعمه الملك صلاح الدين، وهو والد الملك الأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك أيضاً بعد أبيه، وكان فروخ شاه شهماً شجاعاً بطلاً عاقلاً ذكياً فاضلاً كريماً ممدحاً، امتدحه الشعراء لجوده وفضله وإحسانه وكان من أكابر أصحاب الشيخ تاج الدين أبي اليمن الكندي وله في الكندي مدائح، ومن مواقفه التي تدل على شهامته ومروءته أنه دخل يوماً إلى الحمام فرأى رجلاً كان يعرفه من أصحاب الأموال، وقد نزل به الحال حتى إنه تستر ببعض يديه حتى لا يبدو جسمه، فرق له وأمر غلامه أن ينقل بقجة وبساطاً إلى موضع الرجل وأحضر له بلغة وألف دينار وتوقيعاً له في كل شهر بعشرين ديناراً، فدخل الرجل من أفقر الناس وخرج وهو من أغنى الناس فرحمة الله على الأجواد الأكياس.
ه- وفاة أحمد الرفاعي مؤسس الرفاعية:
هو الإمام القدوة العابد الزاهد شيخ العارفين أبو العباس أحمد بن أبي الحسن علي بن أحمد الرفاعي المغربي ثم البطائحي قدم أبوه من المغرب وسكن البطائح، بقرية أم عبيدة، وتزوج بأخت منصور الزاهد ورزق منها الشيخ أحمد وإخوته، وكان أبو الحسن مقرئاً يؤم بالشيخ منصور، فتوفي وابنه أحمد حمل فرباه خاله، فقيل: كان مولده في أول سنة خمس مئة، قيل: إنه أقسم على أصحابه إن كان فيه عيب ينبهونه عليه فقال الشيخ عمر الفاروثي: يا سيدي أن أعلم فيك عيباً: قال: ما هو؟ قال: يا سيدي عيبك أننا من أصحابك، فبكى الشيخ والفقراء، وقال: أي عمر: إن سلم المركب حمل من فيه، وقيل: إن هرة نامت على كم الشيخ أحمد وقامت الصلاة فقص كمه وما أزعجها، ثم قعد، فوصله وقال: ما تغير شيء وقال: أقرب الطريق الانكسار والذل والافتقار؛ تعظم أمر الله وتشفق على خلق الله وتقتدي بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان لا يقوم للرؤساء ويقول: النظر إلى وجوههم يقسي القلب وكان كثير الاستغفار، عالي المقدار رقيق القلب غزير الإخلاص، توفي سنة ثمان وسبعين وخمس مئة في جمادي الأولى.