المؤلف/ علي محمد الصلابي
10- موقف العلماء ممن يسب الصحابة:
في عام (574ه) احتيط ببغداد على شاعر للروافض، يقال له: ابن قرايا، يقف في الأسواق ويذكر أشعاراً يضمنها ذم الصحابة رضوان الله عليهم وسبهم وتجويرهم وتهجين من أحبهم فعقد له مجلس بأمر الخليفة واستنطق فإذا هو رافضي جلد داهية فأفتى الفقهاء بقطع لسانه ويديه ففعل به ذلك، ثم اختطفته العامة فما زالوا يرمونه حتى ألقى نفسه في دجلة فاستخرجوه منه وقتلوه حتى مات، فأخذوا شريطاً وربطوه في رجليه وطوفوا به في البلد يجرجرونه في أكنافها، ثم ألقوه في بعض الأتونات مع الآجر والكلس وعجز الشرط عن تخليصه منهم.
11- دخول صلاح الدين بلاد الأرمن:
في سنة (576ه) وفيها هادن السلطان صلاح الدين الفرنج وتوجه إلى بلد الروم فأصلح بين نور الدين محد بن قرا أرسلان بن داود بن أرتق صاحب حصن كيفا وبين السلطان عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان واجتمعوا على نهر يقال له: كوك سو، وكثرت الهدايا والدعوات، والأفراح والهبات وفيها دخل السلطان بلاد الأرمن لقلع ملكهم ابن لاون، لأنه كان استمال قوماً من التركمان حتى يرعوا في مراعي بلاد بالأمان، ثم صبحهم بغدره وحصلوا بأسرهم في أسره، فدخل السلطان بلاده، وأذل أعوانه وأجناده ونصر الله المسلمين بالرعب، فأحرق من الخوف قلعة شامخة تعرف بالمانقير، وبادر المسلمون إلى إخراج ما فيها من الآلات والغلات فتقووا بها وتمموا هدمها إلى الأساس وأذعن الأرمني وذل وأطلق ما بيده من الأسارى ورجع السلطان مؤيداً منصوراً ووصل إلى حماه في أواخر جمادي الآخرة.
12- المنجمون وهلاك العالم:
في سنة (582ه) كان المنجمون في جميع البلاد يحكمون بخراب العالم في هذه السنة في شعبان عند اجتماع الكواكب الستة في الميزان بطوفان الريح في سائر البلدان، وخوفوا بذلك من لا وثوق له باليقين ولا إحكام له في الدين، من ملوك الأعاجم والروم وأشعروهم من تأثيرات النجوم، فشرعوا في حفر مغارات في التخوم، وتعميق بيوت في الأسراب وتوثيقها وسد منافسها على الريح وقطع طريقها ونقلوا إليها الماء والأزواد وانتقلوا إليها وانتظروا الميعاد وكلما سمعنا أخبارهم استغرقنا في الضحك من عقولهم وصلاح الدين متنمر من أباطيل المنجمين موقن أن قولهم مبني على الكذب والتخمين، فلما كانت الليلة التي عينها المنجمون لمثل ريح عاد، ووصف لنا العماد تلك الليلة فقال: وقد شارفنا الميعاد ونحن جلوس عند السلطان في فضاء واسع، وناد للشموع الزاهرات جامع، وما يتحرك لنا نسيم ولا لسرح الهواء في رعي منابت الأنوار مسيم وما رأينا ليلة مثلها في ركودها وركونها وهدوها وهدونها.
13- مراعاة الخليفة العباسي لرعاياه من اليهود:
وفي سنة (573ه) جرت فتنة عظيمة بين اليهود والعامة ببغداد، وكانت بسبب أن مؤذناً عند كنيسة اليهود نال منه بعض اليهود بكلام، فشتمه المسلم فاقتتلا، فجاء المؤذن يشتكي منه إلى الديوان وتفاقم الحال، وكثرت العوام وأكثروا الضجيج، ولما كان يوم الجمعة منعت العامة إقامة الخطبة في بعض الجوامع وخرجوا من فورهم فنهبوا سوق العطارين الذي فيه اليهود وذهبوا إلى كنيسة اليهود فنهبوها، ولم يتمكن الشرطة من ردهم فأمر الخليفة بصلب بعض العامة، فأخرج في الليل جماعة من الشطار الذين كانوا في الحبوس وقد وجب عليهم القتل فصلبوا، فظن كثير من الناس أن هذا كان بسبب هذه الكائنة، فسكنت الفتنة ولله الحمد.
14- مقتل وزير الخليفة عضد الدولة:
وفي سنة (573ه) خرج وزير الخليفة عضد الدولة ابن رئيس الرؤساء ابن المسلمة قاصداً الحج وخرج الناس في خدمته ليودعوه، فتقدم إليه ثلاثة من الباطنية في صورة فقراء ومعهم قصص فتقدم أحدهم ليناوله القصة فضربه بالسكين ضربات وهجم الثاني، وكذا الثالث فهبروه وجرحوا جماعة حوله وقتل الثلاثة من فورهم وحرقوا، ورجع الوزير إلى منزله محمولاً فمات من يومه، وهذا الوزير هو الذي قتل ولدي الوزير ابن هبيرة وأعدمهما، فسلط الله عليه من قتله وكما تدين تدان، جزاءً وفاقاً "وما ربك بظلاّم للعبيد" (فصلت: 46).
15- تعويض الله لخلقه:
استهلت سنة (577ه) والملك الناصر صلاح الدين مقيم بالقاهرة مواظب على سماع الأحاديث جاء كتاب من نائبه بالشام عز الدين فروخ شاه بما من الله تعالى به على الناس من كثرة ولادة النساء من التوائم جبراً لما أصابهم في العام الماضي من الوباء والفناء، وأن الشام مخصب بإذن الله جبراً لما كان أصابهم من الجدب والغلاء.
16- ترتيب صلاح الدين لأموره الإدارية والعسكرية قبل حطين:
عاد صلاح الدين من شرق الفرات إلى دمشق يوم 2 ربيع الأول 582ه فاستقبل استقبالاً كبيراً من عامة الناس وخاصتهم، العامة احتفالاً بشفائه من المرض الذي كثرت حوله الأراجيف واشتد القلق، والخاصة احتفاءً بمثل ذلك وبتحقيقه الهدف الذي جمع كلمة المسلمين بتوحيد البلاد التي تشكل قلب العالم الإسلامي بقيادة الخليفة العباسي في العراق وقيادة السلطان بتفويض الخليفة وعلاماته على كتبه في كل الجزيرة الفراتية والشام ومصر واليمن وغيرها، وكان أول من اجتمع به بعد أهله، وزيره الكبير ومستشاره الخطير وعقل دولته المدبر القاضي الفاضل، يذكر العماد:. . واجتمع السلطان في القلعة بأهله، وأقلع المرجف عن جهله وحسنت الأحوال وشاهدنا الفضل والكرم بالمشاهد الفاضلية واجتمع السلطان به فبثه أسراره واستذال بصفو رأيه أكداره، ودخل جنته وجنى ثماره وزاره مرة واستزاره، وراجعه في مصالح دولته واستشاره.
فما الذي حققه صلاح الدين في حملته على البلاد الموصلية؟ وما الإجراءات الإدارية والعسكرية التي قام بها بعد عودته إلى دمشق لترتيب دولته والاستعداد للمواجهة الكبرى؟:
أ - تم الصلح مع صاحب الموصل من آل زنكي، وقطعت الخطة السلجوقية فيها وخطب للسلطان صلاح الدين بعد الخليفة العباسي وتنازل للسلطان عن كل ما وراء نهر الزاب "من البلاد والحصون والقلاع والضياع وشهرزور، ومعاقلها وأعمالها، وولاية بني قفجان وولاية القرابلي والبوازيج وعانة" مقابل إبقاء الموصل وأعمالها بيده: على أن يكون بحكمنا وينفذ عسكره إلى خدمتنا وتكون الخطبة والسكة باسمنا.
ب - تمت الخطبة والسكة والطاعة لصلاح الدين في بلاد الجزيرة الأخرى، وديار بكر خاصة التي كانت بيد بني أرتق، وتقديم العساكر لمساعدة السلطان في الجهاد عند الطلب، لأن: العزائم إلى الجهاد في سبيل الله نوازع، وقد زالت العوائق وارتفعت الموانع.
ت - أضاف صلاح الدين الرها وقلعتها وولايتها إلى إقطاع كوكبري بن زين الدين علي كوجك الذي كان أول من سانده في عمليات شرق الفرات منذ البداية، وذلك لتوفره في الخدمة السلطانية على حفظ القوانين، وظهر منه ما حق به الاستظهار وأوجب لأمره الإمرار وكان هو الأمير الذي عهد إليه قيادة كل القوات الشرقية في معركة حطين.
ث - ألغى السلطان المكوس (الضرائب غير الشرعية) في كل البلاد حتى خضعت لسلطته المباشرة أو التي خضعت له بصورة غير مباشرة، فهذا هو: دأب السلطان في جميع البلاد واقتصر منها على الرسوم التي يبيحها الشرع وهي: الخراج والأجور والزرع وغيرها.
وأما أمور بيته الخاصة وبيت عمه فقد اتخذ إجراءات أولى في حلب وصحب معه العادل إلى دمشق حتى يتقرر الأمر في التراتيب النهائية بعد التشاور مع القاضي الفاضل وغيرها وفي الطريق رتب أمور حمص التي توفي صاحبها ابن شيركوه، فعين ابنه مكانه وألزمه بحفظ الثغر الحدودي هناك كما ألزمه بالتقيد بالضرائب الشرعية.
وأمضى صلاح الدين بقية سنة (582ه/ حزيران 1187م - آذار 1187م) في استكمال التراتيب الإدارية والاستعدادات العسكرية في مصر وبلاد الشام.
- عين صلاح الدين ابنه الظاهر غازي على حلب مكان أخيه الملك العادل، والد زوجة الظاهر، باتفاق بين الأخوين، وولى قلعة حلب الأمير بشاره والمدينة الأمير شجاع الدين عيسى بن بلاشو.
- استدعى الملك الأفضل ابنه الأكبر، في مصر إلى دمشق ليعينه نائباً فيها، وعين ابنه العزيز عثمان نائباً في مصر ورتب معه أخاه الملك العادل لإدارة مصر، وأقطعه إقطاعاً مناسباً فيها رضي به العادل عن طيب خاطر.
- وأثار هذا الإجراء الأخير تقي الدين عمر ابن أخيه الذي قرر التوجه إلى المغرب والسيطرة عليه وإقامة ملك فيه، لكن ذلك سيؤثر حتماً على مخططات صلاح الدين العسكرية، إذ كان تقي الدين من أبرز رجال دولته وقادة عسكره ومشورته، فأرسل صلاح الدين إليه يسترضيه ومما يؤثر عن السلطان قوله: لعمري إن فتح المغرب مهم، لكن فتح بيت المقدس أهم، والفائدة به أتم، والمصلحة منه أخص وأعم وإذ توجه تقي الدين، واستصحب معه رجالنا المعروفة، ذهب العمر في اقتناء الرجال وإذا فتحنا القدس الساحل طوينا إلى تلك المماليك المراحل.
ثم كتب إلى تقي الدين يأمره بالقدوم إلى الشام، كما كتب القاضي الفاضل إليه أيضاً وقول القاضي مسموع: سبب هذه الخدمة "الكتاب" وما اتصل بالمملوك "القاضي الفاضل" من تردد رسائل مولانا في التماس السفر إلى المغرب يا مولانا ما هذا الواقع الذي وقع وما هذا العريم من الهم الذي ما اندفع، بالأمس ما كان لكم في الدنيا إلا البلغة واليوم قد وهب الله هذه النعمة، وقد كان الشمل مجموعاً والهم مقطوعاً ممنوعاً أفتصبح الآن الدنيا ضيقة علينا وقد وسعت، والأسباب بنا مقطوعة ولا والله ما انقطعت يا مولانا إلى أين؟ وما الغاية؟ وهل نحن في ضائقة عيش أو في قلة من عدد؟ أو في عدم من بلاد؟ أو في شكوى من عدم؟ كيف نختار على الله وقد اختار لنا؟ وكيف ندبر لأنفسنا وهو قد دبر لنا؟ وكيف ننتجع الجدب ونحن في دار الخصب؟ وكيف نعدل إلى حرب الإسلام المنهي عنها ونحن في المدعو إليها من حرب أهل الحرب؟ معاشر الخدام والجيش وأرباب العقول والآراء أليس فيكم رجل رشيد:
تعقب الرأي وانظر في أواخره
فطالما اتهمت قدما أوائله
لا زال مولانا يمضي الآراء الصائبة، ويلحظها بادية وعاقبة، ولا خلت منه دار إن خلت، ولا عدمته أيام إن لم تطلع فيها شمس وجهه دخلت في عداد الليالي فلم تذكر، فكيف يستطيع الأمير الكبير بعد هذه الحجج ألا يستجيب للأمر السلطاني فيتوجه بجميع أهله وعساكره إلى دمشق فتلقاه السلطان في مرج الصفر في 23 شعبان 582ه، 10 تشرين الثاني 1186م، ودخلا معاً إلى دمشق وأقطعه السلطان حماه وبلادها وأمره بحماية ثغورها فتوجه إليها حتى تأتيه أوامر السلطان، وبهذه التراتيب المحكمة تمكن صلاح الدين والقاضي الفاضل من ترتيب أمور الدولة من أقصى شرقها إلى أقصى غربها، وتفرغ للاستعداد والتجهيز لحملته الكبرى التي كان ينتظر قدوم وقتها. <