المؤلف/ علي محمد الصلابي
قال ابن شداد: إن السلطان رأى أن نعمة الله عليه باستقرار قدمه في الملك وتمكين الله إياه في البلاد وانقياد الناس لطاعته، ولزومهم قانون خدمته، ليس لها شكر سوى الاشتغال ببذل الجهاد والاجتهاد من إقامة قانون الجهاد، فسير إلى سائر العساكر واستحضرها، واجتمعوا إليه بعشترا في التاريخ المذكور 24 ربيع الثاني 583ه ورتبهم واندفع بهم قاصداً نحو بلاد العدو المخذول في وسط نهار الجمعة. . وكان أبداً يقصد بوقعاته الجمع لا سيما أوقات صلاة الجمعة تبركاً بدعاء الخطباء على المنابر، فربما كانت أقرب إلى الإجابة.
لقد كان جيد الإعداد والاستعداد فقد اختار الرماة، وزودهم بالنبال الكافية الكثيرة، فملأ حياتهم بها وقد بلغ ما فرقه على الرماة من نبال أربعمائة جمل، ورصد حمولة سبعين ناقة في ساحة القتال وميدان المعركة، وجعل هذه النوق المحملة بالسهام، لمن تنفذ سهامه أن يأخذ منها ما يحتاج ضماناً لاستمرار القتال والرمي وعدم التوقف فيه حتى يتنزل النصر بإذن الله سبحانه وتعالى وقد خاض صلاح الدين المعركة بجيش قوي ومهارة حربية منقطعة النظير، فضلاً عن اختياره لمكان المعركة وزمن وقوعها، حيث عسكر بجيشه على طبرية حائلاً بين العدو وبين الماء، كما أعلن جهاده في شهر يوليو الذي يعد أشد شهور السنة حرارة، وأقلها ماء في الصهاريج والغدران، حتى أصبح العطش من أقوى الأسلحة بين يديه، لقد مارس صلاح الدين قول الله تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم"، فقد جمع الجيوش الإسلامية واستدرج الجيوش الصليبية واختار المكان المناسب للمعركة.
2- سنة التدرج ووحدة الأمة:
فقد قام أمراء السلاجقة الكثير من أجل دحر الصليبيين، وقد حقق عماد الدين زنكي إنجازاً عظيماً بوضعه لمشروع رائد - ربما رأى الكثيرون - في ذلك الوقت - استحالة تحقيقه على بساطته، وهو مشروعه الوحدوي التحرري، والذي حقق ابنه نور الدين جزئه الأول وحقق صلاح الدين قسماً مهماً من جزئه الثاني ولذلك نرى انتصار صلاح الدين في حطين تتويجاً لمشروع عماد الدين الوحدوي التحرري فلولا متابعة نور الدين لخطى والده في توحيد الشام ثم توحيد مصر مع الشام، لما تحقق هذا النصر، الذي تم بفضل الله وجهود التوحيد التي قامت على عقيدة الإسلام الصحيحة التي تدعو للوحدة الإسلامية التي لا تفرق بين جنس أو لون أو طائفة وإنما جمعتهم الأخوة في الله التي لم تفرق بين الأتراك والأكراد والعرب والفرس ولا غيرها من الأمم التي انضوت تحت راية الإسلام.
ولقد تفاعلت العوامل التي ساعدت على الوحدة في عهد صلاح الدين مع الزمن والوقت وخضعت لسنة التدرج وأعطت ثمارها في معركة حطين وتوجت بفتح بيت المقدس، وأصبح المؤمنون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلها المستعمرون من أجل تمزيق أرجاء العالم الإسلامي، فقد نجحوا في تقطيع أراضي المسلمين لكنهم لم ينجحوا في تمزيق قلوبهم وظل المسلم محباً لأخيه المسلم.
3- بعد نظر صلاح الدين وحنكته السياسية:
من الملاحظ أن صلاح الدين الأيوبي كان يدرك أهمية العمل المزدوج في توحيد الجبهة الإسلامية وجهاد الصليبيين، نظراً لما بينهما من اتصال وثيق، ومما يذكر هنا أن عام (1186م/ 582ه) شهد الاتفاق مع عز الدين مسعود صاحب الموصل على أن يكون تابعاً له، ولذلك استطاع أن يخضع الأربعة مدن الإسلامية الرئيسية التي تحكمت في الظهير البري وهي القاهرة، دمشق، حلب، والموصل وجميعها سيكون لها شأنها البارز في مشروع الجهاد، من زاوية أخرى لا نغفل أن الصليبيين وعلى رأسهم ريموند الثالث كونت طرابلس واتجهوا إلى عقد هدنة مع صلاح الدين وذلك عام (1185م/ 581ه) مدتها أربع سنوات ومن الملاحظ أن كلاً من الجانبين احتاج إليها من أجل تنظيم قواته والتقاط الأنفاس، ومما يدل على بعد نظر صلاح الدين وحنكته السياسية مهادنته لبعض القوى الصليبية من أجل المحافظة على قواته وعدم تبديد فعالياتها في عمليات حربية كبيرة مستمرة لا سيما مع الصليبين ولذا نجده تجنب طوال تلك الأعوام الدخول في معركة حاسمة معهم ولا يتعجل الأمر، بل يترك السلام المؤقت مع الصليبيين، ومن المهم إدراك أن تلك المعاهدات عندما سيتم خرقها ستعطيه المبرر لشن حرب التحرير الشاملة التي من ثمارها معركة حطين، وكانت شرارة الصدام بين صلاح الدين الأيوبي والصليبيين أتت من الفارس الصليبي رينودي شاتيون أو أرناط وهو الفارس الذي أدخلته رعونته التاريخ من أوسع أبوابه، فقد خرق أرناط الهدنة واعتبرها صلاح الدين إعلان حربي صليبي وكان الرد الأيوبي سريعاً وحاسماً كما حدث في معركة حطين عام (583ه/ 1187م) ومن بعد نظر صلاح الدين وحنكته السياسية أنه قبل الدخول في معركة حطين قام بهذه الأدوار:
أ - تنظيم دولته وإقطاعات أمرائه:
كان صلاح الدين بارعاً في تسوياته الرضائية وحفظ التوازنات لإرضاء الجميع، وكان يفوض غيره في أمر الإدارة وينشغل كلياً بالمهمات الحربية، وكان يسند الأمور إلى أهلها ويشترط على نوابه وحكامه في إدارة الأقاليم والإقطاعات معاملة بالمساواة والإسهام في نفقات الجهاد والاحتفاظ بجيوشهم جاهزة دوماً للقتال، وكان يهتم بالولاء المخلص من أتباعه وقال مرة للقاضي ابن شداد: إنني لو حدث لي حادث الموت ما تكاد تجتمع هذه العساكر.
وقد كتب منشوراً في الرقة ذات مرة قال فيه: إن أشقى الأمراء من سمن كيسه وأهزل الخلق وأبعدهم عن الحق من أخذ الباطل من الناس وسماه الحق، ومن ترك لله شيئاً عوضه الله، ومن أقرض الله قرضاً حسناً وفاه ما أقرضه، وقد تم ترتيب الدولة وإقطاعات أمرائه بعد حركة التوحيد التي استغرقت أكثر من عقد من الزمن.
ب - تنظيم أطماع أسرته وإرضاؤها:
وكانت الأسرة الأيوبية هي سنده وشاغله في وقت معاً، وكانت مطامع أفرادها متفقة مع مفاهيم عصره، لكنها لا تتفق مع طموحات صلاح الدين ومفهومه للدولة، وكانوا جديدين على عمليات الحكم، يفهمونه على أنه امتلاك لأراضي الناس ورقابهم، لا على أنه إدارة لشؤونهم وتسيير لرعية هم مسؤولون عنها، ومفهومه أتاه - من تتلمذه على يدي نور الدين محمود الشهيد - أما أسرته فكان مفهومها مستقى من واقع ما يجري في العصر، وقد عانى صلاح الدين من تباين الحالين، وعبر عن هذا التباين يوم قال لأخيه العادل - وهو يطلب عقد تملك لحلب مقابل 150 ألف دينار اقترضها صلاح الدين منه: أظننت أن البلاد تباع وتشترى، أوما علمت أن البلاد لأهلها المرابطين بها، ونحن خزنة للمسلمين ورعاة للدين وحراس لأموالهم، وقد انتهى الأمر بعد عدد من التغيرات والمبادلات في سنة (582ه) كما يلي:
- أعيد تعيين أخيه الملك العادل في مصر لا في ملكية قلعة ولا إقطاع كامل، ولكن بصفة وصي على العزيز عثمان بن صلاح الدين.
- عين ابن أخيه تقي الدين عمر لإقطاع ميافارقين وديار بكر بعد أن تمرد في مصر أو كاد يخرج عن الطاعة وعن مصر، وقد أقنعه القاضي الفاضل بعدم التهور. - وتم إعادة ابن صلاح الدين: الظاهر غازي لولاية حلب. - بقي شيركوه بن ناصر الدين محمد في إقطاعه بحمص لم يتغير.
ج- العمل الدبلوماسي الخارجي:
فقد أدرك صلاح الدين من خلال تجاربه ومسؤولياته خلال عشرين سنة ونيف أن الإطار الخارجي للأحداث له أثره فيها، وقد يمارس عليها تأثيراً خطيراً، وأن القوى المادية التي بنى منها دولته قطعة قطعة لا تكفي لضمان الاطمئنان إلى مسيرة الأمور كما يشتهي ولا بد من صداقات وعلاقات سلام تقوم على القوى الخارجية، بل والمعادية أحياناً، فقد أقام في عام (577ه) علاقات حسنة مع القسطنطينية وتم فتح الجامع الإسلامي فيها وإطلاق مئتي أسير مسلم عندها، وكان من نجاح هذه العلاقة أن زاد العداء بين بيزنطة وفرنجة الشام، مما زاد في اطمئنان صلاح الدين إلى بيزنطة وإلى قبرص، ومن جهة أخرى فإن الأساطيل الإيطالية - أساطيل جنوا وبيزا والبندقية وأمالقى، - كانت متصلة الورود والتكاشف على السواحل الشامية، ولها امتيازاتها في المرافئ كلها، وهي تحمل الرجال والسلاح والمال إليهم دون انقطاع، وترجع بضائع الشرق والتوابل إلى الغرب ودورها الفعال هو الذي ساند الإمارات الفرنجية في المشرق على مدى قرابة قرن، ولولا أشرعتها ما بقيت هذه الإمارات ولا قوية فكان على صلاح الدين أن يكبح من قوتها ما استطاع، لا يجر بها في البحر فلم يكن لديه الأسطول الكافي لذلك، وإنما بفتح بعض مرافئه لمصالحها، وهو يعرف أن مصلحة هؤلاء التجار تغلب تدينهم وتجعلهم ينسون الحرمان الذي يمكن أن يرميهم به البابا، كما أنهم متنافسون فيما بينهم فاستغل منافساتهم فيما بينهم، وبذل كثيراً من الجهود لاجتذاب تجارهم إلى مرافئ مصر مما لا يؤدي إلى تأمين منافعهم، ولكن إلى تأمين منافع الدولة وزيادة مواردها، ومنافع التجار المصريين من وراء الفرنج وقد أقام مع البيازنة والبياشنة تجار بيزا - معاهدة سنة (569ه) وثم فقرة في كتاب أرسله صلاح الدين إلى الخليفة في بغداد تؤكد وجود اتفاق مماثل مع جنوا والبندقية: تقول الفقرة: ما منهم إلا من هو الآن يجلب إلى بلدنا آلة قتاله وجهاده - أسلحة - ويتقرب إلينا بإهداء طرائف أعماله وتلاده وكلهم قد تقررت معهم المواصلة وانتظمت معهم المسالمة.