;

صلاح الدين الأيوبي .. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس.. الحلقة الرابعة والتسعون 966

2008-12-20 04:34:11

المؤلف/ علي محمد الصلابي

د- احترام صلاح الدين مشاعر المسيحيين:

احترم صلاح الدين مشاعر المسيحيين، فعندما أشار بعض المسلمين عليه عقب دخوله بيت المقدس بهدم كنيسة القيامة، وإزالة آثارها وقالوا: إذا هدمت بنايتها، وألحقت بأسافلها أعاليها ونبشت المقبرة وعفيت، وأخمدت نيرانها وأطفيت ومحيت رسومها ونفيت، انقطعت عنها إمداد الزوار، وانحسمت عن قصدها مواد أطماع أهل النار، ومهما استمرت العمارة، استمرت الزيارة.

بينما أشار عليه البعض بأنه: لما فتح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه القدس في صدر الإسلام أقرهم على هذا المكان ولم يأمرهم بهدم البنيان، فأعرض صلاح الدين بتسامحه عن هدمها.

ه- بقاء بعض النصارى بالقدس:

وتضرع بعض النصارى إلى صلاح الدين ليسمح لهم بالبقاء داخل بيت المقدس بعد أدائهم الفدية المقررة عليهم، وتعهدوا له بألا يزعجوا أحداً، وأن يقوموا بالخدمة بالمدينة، فوافق صلاح الدين على ذلك واشترط عليهم شروطاً قابلوها بالالتزام والقبول وأعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وعوملوا معاملة أهل الذمة، فأصبح لهم ما للمسلمين وعليهم من الحقوق والواجبات.

وهكذا أبدى المسلمون الرحمة نحو المدينة التي سقطت في أيديهم وإذا استعاد الإنسان ذكرى دخول الصليبيين بيت المقدس سنة (1099م) عندما نشر جودفري وتانكرد الموت في الشوارع وعندما أغرق المدافعون المسلمون وأحرقوا وألقوا في بحار من الدماء، حيث كان الصليبيون يخوضون حتى كعوبهم في دماء القتلى، فضلاً عما قاموا به من نهب وسلب وسبي فإنه يدرك الفرق الشاسع بين تسامح صلاح الدين ووحشية القادة الصليبيين، إذ يتضح مدى تمسك صلاح الدين بمبدأ التسامح وأحكام الشريعة الإسلامية السمحاء وبعده كل البعد عن تحكيم عواطفه وأهوائه تجاه الصليبيين الذين لم يمض على ارتكابهم تلك الجريمة الشنعاء قرن من الزمان.

يقول جيمس رستون: وهكذا سلك جنود صلاح الدين سلوكاً مثالياً في احتلالهم  للقدس سنة (1187م) وقد نظر صلاح الدين لنفسه وسمعته بعد الانتقام لما فعله الصليبيون في الحرب الأولى سنة (1099م) وبسبب حمايته لكنيسة القيامة وأماكن مسيحية أخرى كثيرة، سيتذكر الجميع تسامحه تجاه أهل الأديان الأخرى، وتجاه الأماكن المقدسة للدين المسيحي ويبدو أن أفعاله اعتبرت علماً ونموذجاً على كيفية سلوك المسلك الصالح، فبسبب عفوه ووجوه الخير المتعددة في طبيعته، وسلوكه تجاه أعدائه، سيظل مشهوراً إلى الأبد باللطف والتسامح والحكمة.

و- رأي ستيفن رنسيمان:

والفضل ما شهدت به الأعداء قال ستيفن رنسيمان وهو من المؤرخين الفرنجة: الواقع أن المسلمين الظافرين اشتهروا بالاستقامة والإنسانية فبينما كان الفرنج ومنذ ثمان وثمانين سنة، يخوضون في دماء ضحاياهم لم تتعرض الآن دار من الدور للنهب، ولم يحل بأحد من الأشخاص مكروه إذ صار رجال الشرطة بناء على أوامر صلاح الدين يطوفون بالشوارع والأبواب يمنعون كل اعتداء يقع على المسيحيين ومن المناظر التي تدعو للحزب والأسى، ما حدث من التفاف العادل إلى أخيه صلاح الدين يطلب منه إطلاق سراح ألف أسير، على سبيل المكافأة على خدماته له، فوهبهم له صلاح الدين فأطلق العادل سراحهم على الفور، وإذ ابتهج البطريرك هرقل لأن يلتمس هذه الوسيلة الرخيصة لفعل الخير، لم يسعه إلا أن يطلب من صلاح الدين أن يهبه بعض الأرقاء ليعتقهم، صلاح الدين أنه سوف يطلق سراح كل شيخ وكل امرأة عجوز، ولما أقبل نساء الفرنج اللاتي افتدين أنفسهن، وقد امتلأت عيونهن بالدموع، فسألن صلاح الدين أين يكون مصيرهن بعد أن لقي أزواجهن أو آباؤهن مصرعهم أو وقعوا في الأسر، أجاب بأن وعد بإطلاق سراح كل من في الأسر من أزواجهن، وبذل للأرامل واليتامى من خزانته العطايا كل بحسب حالته والواقع أن رحمته وعطفه كانا على نقيض أفعال الغزاة المسيحيين في الحملة الصليبية الأولى.

ح- قال غروسيه ما نصه بالحرف أيضاً:

بعكس الصليبيين نفذ صلاح الدين وعوده بشرف وبشعور إنساني، وبروح فروسية، مما أثار إعجاب المؤرخين الذين سردوا أحداث تلك الفترة. . . ويستطرد "غروسيه": طلب بعض المتعصبين من صلاح الدين هدم معابد المسيحيين وتدمير كنيسة القيامة بهدف إلغاء حج المسيحيين "المؤمنين بالثالوث المقدس" فصدهم عن ذلك بكلمة منه، قال: لماذا الهدم والتدمير، طالما أن هدف عبادتهم هو مكان الصليب والقبر المقدس، وليس البناء الخارجي؟ وحتى لو سويت الأبنية بالأرض، فإن مختلف الطوائف المسيحية لن تتخلى عن السعي للوصول إلى هذا المكان لنفعل، إذن كما فعل الخليفة عمر الذي احتفظ بهذه الأبنية عندما فتح القدس في السنوات الأولى للإسلام.

ويعلق غروسيه على ذلك بالقول: إن كل ما يتحلى به هذا السلطان العظيم من حرية الرأي المعتقد يبرز في هذه العبارة الجميلة.

لقد بهر صلاح الدين بأخلاقه الإسلامية ملوك الغرب وقوادهم حيث كانوا يقودون جحافل جيوشهم في الشام حتى أن الفرنسيين كانوا يقولون: إن دماءه دماء فرنسية، والألمان والإنكليز والإيطاليون كلهم كانوا ينسجون قصصاً رائعة عن أخلاق صلاح الدين ويتحدثون عنها في قراهم ومدنهم ومسرحياتهم لقد كان صلاح الدين فعلاً رجلاً إسلامياً بكل معنى الكلمة مقتدياً بالرسول محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في عفوه وحمله وسماحته.

ولقد قال عنه أحد المؤرخين الأوروبيين: سيظل في الذاكرة أن الزمان الدموي والقاسي مثل ذاك الزمان، لم يتمكن من إفساد إنسان ذي سلطة عظيمة، إنه صلاح الدين وأكبر دليل على تقدير الإفرنج لهذه البطولة النادرة والسماحة السمحة اهتمام إمبراطور ألمانيا بزيارة قبر صلاح الدين عندما زار بلاد الشام سنة (13151899م) وكانت معه الإمبراطورة، وقد خطب خطبة أشاد فيها صلاح الدين، وأرسلت الإمبراطورة إكليلاً من الزهر ليوضع على ضريح البطل العظيم.

رابعاً: أول صلاة جمعة في بيت المقدس:

لما نزه البيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس، والرهبان والخنازير والقساقيس، ودخله أهل الإيمان ونودي بالأذان وهرب الشيطان وقرئ القرآن وطهر المكان فكانت إقامة أول جمعة في يوم الرابع من شعبان بعد يوم الفتح بثمان فنصب المنبر إلى جانب المحراب المطهر وبسطت البسط الرفيعة في تلك العراض الوسيعة وعلقت القناديل وتلي التنزيل عوضاً عما كان يقرأ من التحريف في الإنجيل، وجاء الحق وبطلت تلك الأباطيل، وصفت السجادات وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات وأديمت الدعوات ونزلت البركات وانجلت الكربات وأقيمت الصلوات، ونطق الأذان، وخرس الناقوس، وحضر المؤذنون وغاب القسوس وطابت الأنفاس واطمأنت النفوس، وأقبلت السعود وأدبرت النحوس، وحضر العباد والزهاد. . . وعبد الواحد وكثر الراكع والساجد والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع وسالت لرقة القلوب المدامع: هذا يوم كريم وفضل عظيم وموسم وسيم وهذا يوم تجاب فيه الدعوات وتصب البركات وتسيل العبرات وتقال العثرات فأذن المؤذنون للصلاة وقت الزوال، وكادت القلوب تطير من الفرح بتلك الحال ولم يكن السلطان إلى تلك الساعة عين خطيباً، وقد تهيأ لها خلق من العلماء خوفاً أن يدعى إليها أحدهم فلا يكون نجيباً، فبرز للخطباء المرسوم السلطاني الصلاحي وهو في قبة الصخرة الغراء أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيباً فلبس الخلعة السوداء وصعد المنبر، وقد كساه الله البهاء وأكرمه بكلمة التقوى وأعطاه السكينة والوقار والسناء فخطب بالناس خطبة عظيمة سنية فصيحة بليغة، ذكر فيها شرف البيت المقدس وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات وما فيه من الدلائل والإمارات وما من الله به على الحاضرين من هذه النعمة التي تعدل الكثير من القربات وقد أوردها الشيخ شهاب الدين أبو شامة في "الروضتين" بطولها فكان أول ما قال حين تكلم: "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين" ثم أورد تحميدات القرآن كلها ثم قال:

1- قدرة الله على تحقيق النصر:

الحمد لله مذل الشرك بقهره ومصرف الأمور بأمره ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره الذي قدره الأيام دولاً بعدله وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاء على عباده من ظله وأظهر دينه على الدين كله القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع أحمده على إظفاره وإظهاره وإعزازه لأوليائه ونصره لأنصاره، وتطهيره بيته المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره.

2- الثناء على الرسول الكريم وعلى صحابته:

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً احداً شهادة من طهر بالتوحيد قلبه وأرضى به ربه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رافع الشك وداحض الشرك وراحض الإفك الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى وعرج به منه إلى السموات العلا إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاع البصر وما طغى صلى الله عليه وسلم وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عليه ذي النورين جامع القرآن وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسر الأوثان وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان.

3- رضي الله عن المجاهدين:

أيها الناس أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى والدرجة العليا لما يسره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمة الضالة وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مئة عام وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يرفع وأن يذكر فيه اسمه وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه واستقر فيها رسمه ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بني عليه وبالتقوى فإنه أسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه.

 

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2024-11-29 03:22:14

نوفمبر المتجدد

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد