المؤلف/ علي محمد الصلابي
4- مآثر المسجد الأقصى:
فهو موطن أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها من ابتداء الإسلام، وهو مقر الأنبياء، ومقصد الأولياء ومفر الرسل، ومهبط الوحي، ومنزل تنزل الأمر والنهي وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين، وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه، عيسى الذي شرفه الله برسالته، وكرمه بنبوته، ولم يزحزح عن رتبة عبوديته، فقال تعالى: "لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله" وقال: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم".
وهو أول القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين ولا تُشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد المواطنين إلا عليه.
5- تهنئة صلاح الدين وجنده المسلمين بالنصر:
لولا أنكم ممن اختاره الله من عباده، واصطفاه من سكان بلاده لما خصكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجارٍ ولا يباريكم في شرفها مبارٍ فطوبى لكم من جيش ظهرت على أيديكم المعجزات النبوية والوقعات البدرية، والعزمات الصديقية، والفتوح العمرية والجيوش العثمانية والفتكات العلوية جددتم للإسلام أيام القادسية، والوقعات اليرموكية والمنازلات الخيبرية والهجمات الخالدية فجزاكم الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم أفضل الجزاء وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء وتقبل منكم ما تقربتم إليه من مهراق الدماء وأثابكم الجنة فهي دار السعداء.
6- شكر الله على النصر:
فاقدروا - رحمكم الله - هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها فله النعمة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة وترشيحكم لهذه الخدمة، فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء وابتهج به الملائكة المقربون وقر به عيناً الأنبياء والمرسلون فماذا عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يفتح عليه البيت المقدس في آخر الزمان، والجند الذي تقوم بسيوفهم بعد فترة من النبوة أعلام الإيمان فيوشك أن تكون التهاني به بين أهل الخضراء أكثر من التهاني به بين أهل الغبراء.
7- فضائل الأقصى والقدس:
أليس هو البيت الذي ذكره الله في كتابه ونص عليه في خطابه، فقال تعالى: "سبحان الذين أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" أليس هو البيت الذي عظمته الملوك وأثنت عليه الرسل وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من إلهكم عز وجل؟ أليس هو البيت الذي أمسك الله عز وجل الشمس على يوشع لأجله أن تغرب وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب؟ أليس هو البيت الذي أمر الله موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان وغضب عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان؟
8- شكر الله وحمده:
فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل وقد فضلهم على العالمين ووفقكم لما خذل فيه من كان قبلكم من الأمم الماضين وجمع لأجله كلمتمكم وكانت شتى وأغناكم بما أمضته "كان" و"قد" عن "سوف" و"حتى".
9- الملائكة يشكرون الله للمجاهدين:
فليهنكم أن الله قد ذكركم به فيمن عنده وجعلكم جنده وشكركم الملائكة المنزلون على ما أهديتم إلى هذا البيت من طيب التوحيد ونشر التقديس والتحميد وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث والاعتقاد الفاجر الخبيث، فالآن يستغفر لكم أملاك السماوات وتصلي عليكم الصلوات المباركات.
10- نهى عن الغرور وارتكاب المعاصي:
فاحفظوا - رحمكم الله - هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم، بتقوى الله التي من تمسك بها سلم ومن اعتصم بعزوتها نجا وعصم واحذروا من اتباع الهوى وموافقة الردى ورجوع القهقري والنكول عن العدى وخذوا في انتهاز الفرصة وإزالة ما بقي من الغصة وجاهدوا في الله حق جهاده وبيعوا عباد الله أنفسكم في رضاه إذ جعلكم من عباده.
11- وما النصر إلا من عند الله:
وإياكم أن يستزلكم الشيطان، وأن يتداخلكم الطغيان، فيخيل لكم هذا النصر بسيوفكم الحداد، وبخيولكم الجياد وبجلادكم في مواطن الجلاد لا والله "وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم".
12- البعد عن المعاصي:
واحذروا عباد الله - بعد أن شرفكم بهذا الفتح الجليل والمنح الجزيل وخصكم بهذا الفتح المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين - أن تقترفوا كبيراً من مناهيه، وأن تأتوا عظيماً من معاصيه فتكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً والذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين.
13- دعوة للاستمرار في الجهاد:
والجهاد هو من أفضل عباداتكم وأشرف عاداتكم، انصروا الله ينصركم، واذكروا الله يذكركم، واشكروا الله يزدكم ويشكركم جدوا في حسم الداء وقطع شأفة الأعداء وتطهير بقية الأرض التي أغضبت الله ورسوله، واقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية والملة المحمدية الله أكبر فتح الله ونصر غلب الله وقهر أذل الله من كفر.
14- دعوة لتحرير ما تبقى من الأرض المقدسة:
واعلموا - رحمكم الله - أن هذه فرصة فانتهزوها وفريسة فناجزوها ومهمة فأخرجوا لها هممكم وبرزوها وسيروا إليها سرايا عزاماتكم وجهزوها فالأمور بأواخرها، والمكاسب بذخائرها فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول وهم مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى في قبالة الواحد منكم عشرون وقد قال الله تعالى: "إن يكن منكم عشرون صابرين يغلبوا مائتين".
أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره والازدجار بزواجره وأيدنا معشر المسلمين بنصر من عنده "إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده".
15- أدعية للسلطان صلاح الدين وللمسلمين في دينهم ودنياهم:
وتمام الخطبة الثانية قريب مما جرت به العادة، وقال بعد الدعاء للخليفة: اللهم وأدم سلطان عبدك الخاضع لهيبتك الشاكر لنعمتك المعترف بموهبتك سيفك القاطع، وشهابك اللامع والمحامي عن دينك المدافع والذاب عن حرمك الممانع السيد الأجل الملك الناصر جامع كلمة الإيمان وقامع بعدة الصلبان صلاح الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين مطهر البيت المقدس أبي المظفر يوسف بن أيوب، محيي دولة أمير المؤمنين.
- اللهم عم بدولته البسيطة واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأحسن عن الدين الحنيفي جزاءه واشكر عن الملة المحمدية عزمه ومضاءه.
- اللهم أبق للإسلام مهجته ووق للإيمان حوزته وانشر في المشارق والمغارب دعوته.
- اللهم كما فتحت على يده البيت المقدس بعد أن ظنت الظنون، وابتلي المؤمنون فافتح على يده أداني الأرض وأقاصيها، وملكه صياصي الكفرة ونواصيها، فلا تلقاه منهم كتيبة إلا مزقها ولا جماعة إلا فرقها ولا طائفة بعد طائفة إلا ألحقها بمن سبقها.
- اللهم اشكر عن محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وأنفذ في المشارق والمغارب أمره ونهيه اللهم وأصلح به أوساط البلاد وأطرافها وأرجاء الممالك وأكنافها.
- اللهم ذلل به معاطس الكفار وأرغم به أنوف الفجار، وانشر ذوائب ملكه عن الأمصار وابثث سرايا جنوده في سبل الأقطار.
- اللهم ثبت الملك فيه وفي عقبه إلى يوم الدين، واحفظه في بنيه وبني أبيه الملوك الميامين، واشدد عضده ببقائهم واقض بإعزاز أوليائه وأوليائهم.
- اللهم كما أجريت على يده في الإسلام هذه الحسنة التي تبقى على الأيام وتتخلد على مر الشهور والأعوام فارزقه الملك الأبدي الذي لا ينفد في دار المتقين وأجب دعاءه في قوله: "رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" ثم دعا بما جرت به العادة وبعد الصلاة جلس الشيخ زين الدين أبو الحسن علي بن نجا المصري على كرسي الوعظ بإذن السلطان فوعظ الناس وكان وقتاً مشهوداً وكالاً محموداً فلله الحمد والمنة واستمر القاضي محيي الدين بن الزكي يخطب بالناس في أيام الجمع أربع جمعات، ثم قرر السلطان للقدس خطيباً مستقراً وأرسل إلى حلب فاستحضر المنبر الذي كان الملك العادل نور الدين محمود قد استعمله لبيت المقدس، وقد كان يؤمل أن يكون فتحه على يديه، فما كان إلا على يدي بعض أتباعه بعد وفاته.