;

صلاح الدين الأيوبي.. وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس.. الحلقة المائة وواحد 730

2008-12-29 04:56:28

المؤلف/ علي محمد الصلابي

1- دخول الألمان بلاد الأرمن:

واصل الألمان سيرهم رغم تلك المتاعب الشديدة التي تعرضوا لها، حتى وصلوا إلى بلاد الأرمن، فرحب بهم أميرها ابن ولان، وقدم لهم ما يحتاجون إليه من المؤن والأزواد والعلوفات وأرشدهم إلى أسهل الطرق، وكان أمير أرمينية يأمل في أن يتوج ملكاً على أرمينية الصغرى حتى لا يبدو في مكانة أقل من مكانة الأمراء الصليبيين المقيمين ببلاد الشام من جهة، وليبعد عنه أطماع الإمبراطور البيزنطي من جهة أخرى، ويبدو أن أمير أرمينية قد علق آمالاً كبيرة على كل من البابا والإمبراطور الألماني في تحقيق هدفه هذا.

2- وفاة إمبراطور الألمان:

لم يطل مقام الألمان ببلاد ابن لاون بل واصلوا سيرهم بعد أن هداهم الطريق، ونزلوا بطرسوس وقد أنهكهم السفر بسبب ما تعرضوا له من متاعب في طريقهم، فأرادوا الإقامة هناك أياماً ليريحوا أنفسهم إلا أن القدر خبأ لهم خلاف ذلك، فحدث لهم حدث مفاجئ قلب الموازين رأساً على عقب، حيث مات الإمبراطور فردريك بربروسا غريقاً في أحد الأنهار وذلك سنة (586ه/ 10يونيو 1190م) واختلفت آراء المؤرخين في تعليل أسباب وفاته، فذكر العماد وابن واصل أن الألمان عندما عبروا نهر سالف التطم الموج بهم، فطلب الملك موضعاً يعبر فيه وحده، فدخل في مخاضة قوية فاختطفه تيار الماء واصطدم بشجرة شجب رأسه، فاستخرجوه وهو في آخر رمق وهلك بعد قليل، وأشار ابن شداد وغيره إلى أن فردريك بربروسا نزل على شط أحد الأنهار، واستحم في ماء ذلك النهر، فأصابته برودة ذلك الماء بمرض مات على أثره بعد أيام قلائل.

أما ابن الأثير، فقد ذكر أن فردريك دخل النهر يريد الاغتسال فغرق، ومهما يكن من أمر، فإن الذي يهمنا هو أن الإمبراطور صلاح الدين، فضلاً عن أن ذلك الحدث المفاجئ كان له أثر كبير على فشل الحملة الصليبية الثالثة، إذ أن جزءاً كبيراً من الجيش الألماني قد عاد عقب وفاته إلى أوروبا.

بالإضافة إلى أن الصليبيين قد فقدوا بوفاته شخصية كبيرة مخلصة للمشروع الصليبي لو أنها وصلت إلى عكا لوجد منها صلاح الدين متاعب كثيرة.

3- تفرق الألمان بعد موت ملكهم:

وبموت الإمبراطور فردريك بربروسا حلت بالألمان كوارث كثيرة، فقد اختلفوا منذ البداية حول من يخلفه في قيادة الحملة الصليبية الألمانية حيث مال بعضهم إلى تولية ابنه فردريك السوابي، بينما مال بعضهم إلىتولية أخ لفردريك السوابي أكبر منه، وما إنرأى الملك الأرمني ما حل بالألمان من التفكك والضعف بعد موت فردريك بربروسا حتى آثر أن لا يلقي بنفسه بينهم، فإنهلا يعلم كيف يكون الأمر وهم إفرنج وهو أرمني، فاعتصم هو عنهم في بعض قلاعه المنيعة.

وتفرق الألمان بعد موت ملكهم فمنهم من عاد إلى أوروبا، ومنهم من سار مع الأمير فردريك السوابي الذي خلف والده في قيادة الجيش الألماني، وعند مسير بقايا الحملة إلى أنطاكية حل بهم وباء شديد ذهب ضحيته كثير من رجالهم ووصلت البقية الباقية إلى أنطاكية؛ وكأنهمقد نبشوا من القبور على حد قول المؤرخ ابن الأثير.

وما إن وصل الألمان إلى أنطاكية حتى تبرم بهم صاحبها بوهيمند الثالث وثقلت وطأته عليهم، وطمع في الاستيلاء على أموالهم وعتادهم، فأشار عليهم بالمسير إلى حلب وحسن لهم طريقها.

إلا أن فردريك السوابي لم يستجب لمشورة بوهيمند وإنما طلب منه أن يعطيه قلعة أنطاكية ليودع بها ماله وخزائنه وأثقاله فوافق بوهيمند على ذلك على أمل أن يفوز بما يودع فيها من الأموال والعتاد، وكان الأمر على ما أراد، فإن الألمان لما فارقوا أنطاكية لم يعودوا إليها ثانية، ففاز بوهيمند بكل ما أودعوه فيها.

وفي الوقت نفسه تعرضت فرقةمن الألمان لكارثة أخرى كان لها أثر كبير في إضعاف نفسياتهم فقد اتجهت هذه الفرقة الألمانية صوب بغراس وهم يظنون أنها لا تزال في أيدي إخوانهم الصليبيين، وما إن وصلوا إليها حتى فتحت أبواب القلعة وهجم المسلمون على الألمان فاستولوا على ما معهم من الأموال والأسلحة والعتاد، وقتلوا منهم وأسروا العدد الكثير، كما خرج أيضاً بعض سكان حلب وتفرقوا في طريق الألمان وأخذوا يختطفونهم، فأسروا منهم أعداداً باعوهم في الأسواق بأثمان زهيدة، كما أن ذلك يدلنا أيضاً على مدى تلك العزلة التامة التي فرضها صلاح الدين على الصليبيين ببلاد الشام بعد إحكام سيطرته على مدن الساحل حتى أن الصليبين في الغرب الأوروبي لم يكن في مقدورهم التمييز بين المدن والقلاع التي استولى عليها صلاح الدين وبين التي لا تزال في أيدي إخوانهم الصليبيين في الشرق، وأخيراً قرر فردريك السوابي بعد تلك الكوارث التي حلت لجيشه الاتجاه إلى عكا، ففي يوم الأربعاء 25 رجب سنة (586ه/ أغسطس 1190م) سار على رأس جيشه إلى عكا عن طريق جبلة واللاذقية، وانتهز المسلمون في اللاذقية فرصة مرور شراذم الألمان، فخرج رجالها عليهم، فقتلوا وأسروا منهم أعداداً كثيرة، ولما وصل الألمان إلى طرابلس أقاموا بها للراحة، فنزل بهم وباء شديد مات على أثره أكثرهم ولم يبق منهم سوى حوالي ألف رجل ركبوا في البحر يتقدمهم فردريك السوابي قاصدين عكا للانضمام إلى بني جنسهم هناك لمؤازرتهم في حصارها، فوصلوا إلى عكا في 16 رمضان سنة (586ه/ اكتوبر 1190م).

4- موقف صلاح الدين من الحملة الألمانية:

لم يهمل صلاح الدين أمر الحملة الألمانية منذ علمه بمسيرها إليه، فقد استنفر الناس للجهاد، فبعث رسولاً في رمضان من سنة (586ه/ 1189م) من قبله وهو القاضي بهاء الدين ابن شداد إلى الخليفة العباسي في ذلك الوقت الناصر لدين الله أبو العباس احمد بن المستضيء لإعلامه بمسير الألمان إلى بلاد الشام، وأمر صلاح الدين القاضي ابن شداد بالمسير في طريقه إلى أمراء الموصل وسنجار والجزيرة وإربل لاستدعائهم للجهاد، فأجابوا إلى ذلك وتأهبوا للمسير إلى صلاح الدين، كما وعد الخليفة العباسي "بكل جميل" وأمد صلاح الدين بالمال والعتاد، وتابع صلاح الدين في الوقت نفسه تقدم الألمان إليه عن طريق إرسال العيون "الجواسيس" لكشف أخبارهم، كما أرسل نوابه في البلاد الشامية عساكرهم لكشف أخبار العدو واعترض طريقه، فوقعوا على فرقة من جيش الألمان، قد خرجت لطلب العلوفة للدواب فقتلوا وأسروا منهم زهاء خمسمائة نفس ولما تحقق صلاح الدين من وصول الألمان إلى بلاد الأرمن وقربهم من البلاد الإسلامية، جمع أمراء دولته وشاورهم فيما يصنع، فاتفق رأيهم على تسيير عسكر كبير لملاقاة العدو في طريقه وحماية بعض المدن، فسارت تلك الجموع الإسلامية يتقدمها عدد من أمراء المسلمين، فكبدت العدو الألماني في طريقه خسائر جسيمة.

كما أمر صلاح الدين بهدم أسوار طبرية ويافا وأرسوف وقيسارية وصيدا وجبيل وذلك لأنه خشي سيطرة الصليبيين عليها واستخدام تلك الأسوار في محاربة المسلمين، والحقيقة أن حملة الألمان الصليبية فشلت عندما غرق قائدها الإمبراطور فردريك بربروسا في أحد أنهار آسيا الصغرى، وتشتت جموع الألمان في الشام مما حال دون وصولهم إلى بيت المقدس، وتحقيق هدفهم باسترجاعه من أيدي المسلمين، وأخيراً فإذا كان فردريك بربروسا قد عجل الخروج إلى المشرق على رأس حملته الصليبية، واختار لها الطريق البري إلى بلاد الشام فإن فيليب أوغسطس ملك فرنسا، وريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا لم يتركا الغرب الأوروبي في حملة صليبية إلا في صيف (586ه/ 1190م) واختار الذهاب إلى عكا بحراً.

ثالثاً: الصليبيون يحاصرون عكا:

كان الفرنج المتجمعون في صور قد وردتهم الكثير من الإمدادات من الرجال والسلاح وأهم من ذلك وصلتهم الوعود البابوية بأن ملوك أوروبا قادمون لنجدتهم وهذا ما جعل مقاومتهم أشد ضراوة وعنفاً لصلاح الدين حين عاد إليهم، وفيما كانت أوروبا كلها تضطرب حماسة للهجوم على المشرق واسترجاع القدس، كان صلاح الدين يحاول فتح صور، وكان روح المقاومة فيها هو الكونت "كونراد دي منتفرات" الطامع بعرش المملكة، ولهذا لم يقبل أن يسمح لجاي لوزينان ملك القدس حين أطلقه صلاح الدين من الأسر أن يدخل المدينة، فبقي ستة أشهر في نواحي طرابلس بمعسكر بعيد عنها يجمع بعض القوى حوله ليقف بوجه الزعيم الجديد مونتفرات ثم اصطلح الاثنان على الاشتراك في قتال صلاح الدين وترك مسألة القرار بالعرش للبابوية وملوك أوروبا القادمين، وهكذا قرروا الخروج من صور التي ضاقت بهم لحصار عكا، وكان صلاح الدين قد عهد بإعادة تحصين عكا وتزويدها بالسلاح والمؤن إلى خادمه بهاء الدين قراقوش، الذي جعلها مع قلعتها وسورها تحفة معمارية منيعة، وجلب بأمر صلاح الدين - المقاتلة إليها، والأسطول من مصر إلى مينائها.

وقد خرج الفرنج في رجب سنة (585ه/ أغسطس سنة 1189م) وسارت مراكبهم معهم بحذائهم في البحر ولم يؤخذ صلاح الدين على غرة بمقصدهم إلى عكا، فقد كان اليزك (الطلائع والحرس) التي تركها عند صور قد نبهت حامية عكا لتكون على استعداد ونزل الفرنج على عكا من البر والبحر يحاصرونها بأعداد كبيرة في رجب سنة (585ه/ أغسطس 1189م) وكان رأي صلاح الدين مقاتلة الفرنجة أثناء تحركهم نحو عكا، لأنهم إن وصلوا إليها لصقوا بأرضها، ولكن قواده لم يرضوا قتالهم إلا إذا وصلوا إلى عكا بحجة أن الطريق التي سلكها الفرنجة وعرة وضيقة ولا يسهل قتالهم فيها، للإجهاز عليهم دفعة واحدة، ورغم ذلك رتب صلاح الدين للفرنجة كمائن على شكل عصابات من البدو تتخطفهم أثناء سيرهم، لكنهم تابعوا المسير حتى عسكروا أمامها من البر والبحر وانقطع اتصال الجيش الإسلامي بها، وكان صلاح الدين قد كتب يستدعي عسكره المتفرق أمام أنطاكية وطرابلس وصور وعلى سواحل مصر في الإسكندرية ودمياط مع أخيه العادل، فجاءه منهم الأعداد الغفيرة ثم جاء جند الشام والجزيرة وطوق بهذا الجند الطوق الفرنجي لعكا؛ فكان الفرنج بين حامية المدينة وبين الجند الصلاحي. <

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2024-11-29 03:22:14

نوفمبر المتجدد

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد