كتاب
الاستنتاجية، التي تجتاح الآن العلوم ال"الناضجة" والتي بدأت انطلاقتها من
الرياضيات مع منتصف القرن الماضي، لقد غدا المجهود العلمي يقوم على إنشاء "منظومات
قواعد" جديدة للعمل الذهني، قابلة للتكيف مع الإجراءات التجريبية، وهذه المنظومات
من القواعد تعمل بدورها على خلق عقل جديد ستجعل منه العادة والممارسة عقلاً
"طبيعياً" و"ضروريا"، تماماً مثلما
كان المنطق الأرسطي يبدو طبيعياً وضرورياً، إنه العقل المكوَّن والعقل المكوَّنِ
حسب تعبير لالاند، اللذان يعملان من خلال علاقتهما الجدلية، على جعل العقل يكتشف
حقيقته من خلال صيرورته وبواسطتها، وإذا نحن شئنا الدقة أكثر بالاستناد على
التصور العلمي المعاصر لحقيقة العقل قلنا مع جول أولمو: ليست القواعد التي يعمل
بها العقل هي التي تحدده وتعرفه، بل قدرته على استخلاص عدد لا نهائي منها هي التي
تشكل ما هيته، والعقلانية بهذا الاعتبار، تغدو ، ليس الإيمان بمطابقة مبادئ العقل
مع قوانين الطبيعة وحسب، بل الاقتناع بكون النشاط العقلي يستطيع بناء منظومات تتسع
لتشمل مختلف الظواهر، وبما أن التجربة هي وحدها التي بإمكانها أن تفصل في مسألة
المطابقة التي أصبحت تعني التحقق تجريبياً ، فإن العقلانية المعاصرة هي عقلانية
تجريبية وليست عقلانية تأملية كما كان الشأن من قبل وبعد فماذا يمكن أن نستخلصه من
هذا العرض المجمل الذي قدمناه عن تصور العقل وطريقة التفكير فيه داخل الثقافة
اليونانية والثقافة الأوروبية الحديثة: فلسفة وعلماً؟ لنبرز أولاً أن هذه العرض
الذي تتبعنا فيه خطاب العقل الإغريقي الأوروبي عن نفسه يبرر القول ب"العقل
العربي"، لقد انتهى بنا ذلك الخطاب إلى القول بتعدد "العقل" و"المنطق" باعتبار
أنهما، في نهاية التحليل، جملة من القواعد مستخلصة من موضوع ما.
وهكذا فكلما
توفر لدينا موضوع ذو خصوصية واضحة أمكن القول بوجود عقل أو منطق خاص به، ونحن نعتقد
وهذا ما سنبينه لاحقاً إن الثقافة العربية، وبعبارة أدق: الموضوع الذي تعاملت
معه الفعالية الذهنية لمفكري الإسلام، موضوع ذو خصائص مميزة تختلف عن خصائص الموضوع
الذي تعاملت مع الفعالية الذهنية لمفكري اليونان وفلاسفة أوروبا، وبالتالي فإن
القواعد التي استخلصتها الفعالية الفكرية العاملة داخل الثقافة العربية الإسلامية
ستكون مختلفة عن القواعد التي شكلت جوهر العقل اليوناني والعقل الأوروبي.
وإذن
فنحن عندما نستعمل عبارة "العقل العربي" فإنما نستعملها من منظور علمي نتبنى فيه
النظرة العلمية المعاصرة للعقل، وليس أية نظرة أخرى كتلك التي تصدر عن مفهوم
"العقلية" التي تعني حالة ذهنية فطرية وطبيعية وقارة تحكم نظرة الفرد والجماعة كما
تحكم العوامل البيولوجية الموروثة سلوكهما وتصرفاتهما، إننا أبعد ما نكون عن هذا
التصور الذي لا يقوم على أي أساس علمي، بل نحن نجتهد في التزام التصور العلمي في
أرقى مراتبه، دون أن نجعل من هذا التصور، حتى في قمة تقدمه الحقيقة
المطلقة.
فالحقيقة المطلقة في هذا المجال، كما في المجالات الأخرى، ليست معطى
جاهزاً، بل هي "المعطى" الذي يبتعد عنا كلما اقتربنا منه.
هذا من جهة، ومن جهة
أخرى فإن هذا العرض الذي قدمنا فيه بصورة مجملة تطور مفهوم العقل في الثقافة
الإغريقية والثقافة الأوروبية الحديثة يؤكد تاريخية هذا العقل، أي ارتباطه بالثقافة
التي يتحرك داخلها الشيء الذي ينزع عنه الصبغة الإطلاقية، وكما لاحظنا في فقرة
ماضية فإن "العقل الكلي" هو "كلي" فقط داخل الثقافة التي أنتجته، ليس هذا وحسب ، بل
إن تطور مفهوم العقل في الثقافة الإغريقية الأوروبية يعكس تطور هذا العقل نفسه
وتجدد نظرته إلى ذاته.
هناك نتيجة أخرى توخيناها من هذا العرض الذي قدمناه عن
العقل وطريقة التفكير فيه ونوع تصوره في الثقافة اليونانية والثقافة الأوروبية
الحديثة، نقصد: ما يقدمه لنا هذا العرض رغم كل نواقصه من إمكانية المقارنة مع
"العقل العربي" بهدف التعرف، بصورة أكثر دقة، على هذا الأخير.
فكيف يتميز "العقل
العربي" إذن؟ قد يبدو أننا الآن في وضع يمكننا من الدخول مباشرة في المقارنة، ولكن
هذا ليس سوى وهم، فنحن وإن كنا الآن على بينة من تطور مفهوم العقل في الثقافة
الإغريقية الأوروبية فإننا لم نستخلص بعد من تاريخ هذا العقل ما يمكن اعتباره
بمثابة كيانه الداخلي الثابت، نقصد بذلك هيكله البنيوي الذي ظل ثابتاً رغم كل
التحولات التي عرفها، والذي على أساسه وحده يمكن القيام بالمقارنة.
هذا من جهة،
ومن جهة أخرى فنحن مازلنا لحد الساعة لم نتعرف بعد على مفهوم العقل وطريقة التفكير
فيه ونوع تصوره في الثقافة العربية، حتى تصبح المقارنة بين معلومين لدينا، وليس بين
معلوم ومجهول.
لنبدأ أولاً باستخلاص ما يمكن اعتباره ثوابت العقل ا ليوناني
الأوروبي على ضوء العرض الذي قدمناه آنفاً.
إنه على الرغم من التطور الهائل الذي
عرفه العقل الغربي منذ هير اقليطس إلى اليوم فإن هناك ثابتين اثنين ينتظمان خط سير
ذلك التطور، ويحددان بالتالي بنية العقل في الثقافة الإغريقية الأوروبية.
هذان
الثابتان هما أ اعتبار العلاقة بين العقل والطبيعة علاقة مباشرة من جهة.
ب
والإيمان بقدرة العقل على تفسيرها والكشف عن أسرارها من جهة ثانية.
الثابت الأول
يؤسس وجهة نظر في الوجود، والثابت الثاني يؤسس وجهة نظر في المعرفة، ولهذا فقط
فصلنا بينهما، أما في الواقع فهما يشكلان معاً ثابتاً بنيوياً واحداً قوامه تمحور
العلاقات في بنية العقل الذي نتحدث عنه حول محور واحد قطباه: العقل والطبيعة والذي
لا شك فيه هو أن القارئ قد لاحظ غياب الإله، أو أية قوة أخرى مفارقة، كطرف
ثالث.
والواقع أنه سواء فحصنا بنية الفكر الميثولوجي عند اليونان قبل الفلسفة،
أو بنية العقل الذي أسسته الفلسفة اليونانية، أو حللنا بنية الفكر اللاتيني المسيحي
أو بنية الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر، فإننا سنجد أن الإله لا يشكل طرفاً ثلاثاً
فيها مستقلاً بنفسه عن الطبيعة والإنسان، إن الآلهة في الميتولوجيا اليونانية لا
تظهر إلا بعد تمفصل العماء الكوني إلى كواكب ونجوم وأرض وسماء. . إلخ، فهي متصورة ،
داخل هذه الميتولوجيا، على غرار الإنسان.
أما في الفلسفة فلقد سبق أن لاحظنا عند
هيراقليطس واناكساجوراس أن فكرة الإله ترتبط بنظام الطبيعة الذي عبرا عنه ب"العقل
الكوني" "اللوغوس بالنسبة لهيراقليطس والنوس بالنسبة لآناكساجوراس"، وسواء كان هذا
العقل الإله محايثاً للطبيعة أو مفارقاً لها، فهو في الحالتين معاً نظام ، قوة
منظمة، تتدخل لإضفاء النظام والتميز على شيء موجود، هو الطبيعة في حالة العماء
الأول، حالة الفوضى واللاتميز، وهكذا فالطبيعة في حالتها الأولى تلك توجد مستقلة عن
هذه القوة المنظمة: العقل أو الإله.
أما مثال الخير "إله أفلاطون" فهو وإن كان
على قمة الهرم الذي تشكله المثل العقلية فإنه هو ذاته من جنسها، إنه قمة
العقل.
أما الطبيعة في حالتها الأولى، فهي لا تتوقف في وجودها عليه، بل إن
وجودها مستقل عنه تماماً، ومن طبيعة مختلفة ولذلك افتراض أفلاطون إلهاً آخر هو
الإله الصانع.
أما إله أرسطو "المحرك الأول" فهو يبدو وكأنه مجرد فرضية "علمية"
لتفسير مبدأ الحركة، فهو من هذه الناحية مجرد "مطلب" منظقي أكثر منه شيئاً آخر،
وحتى الصورة الميتافيزيقية التي ترسمها لنا عنه بعض كتابات أرسطو فإنها تجعل منه
عقلاً مشغوفاً بنفسه معرضاً عن كل ما عداه، جاهلا لكل شيء آخر غير ذاته هو، فهو
العقل والعاقل والمعقول، وأما في اللاهوت المسيحي فإن تجسد الله في المسيح جعل
منهما طرفاً واحداً في مقابل الطبيعة، الطرف الثاني.
هذا على صعيد الوجود، أو
المستوى الانطولوجي، أما على صعيد المعرفة، أو المستوى الايبيستيمولوجي، فإن
الإيمان بقدرة العقل على تفسير الطبيعة معناه: الثقة به ثقة كاملة.
هذا الإيمان
هو الذي تأسس عليه المنطق الارسطي الذي يعرف نفسه بأنه مجموعة من القواعد إذا
راعاها الإنسان عصمته من الخطأ، وهذا الإيمان نفسه هو الذي أسس ويؤسس العلم الحديث
والمعاصر: ألم يقل جاليو أن كتاب الطبيعة إنما تمكن قراءته بحروف الرياضيات، وهي
إنشاء عقلي خالص؟ ألم يؤسس ديكارت فلسفته على فكرة البداهة العقلية؟ ألا يعتمد
العلم المعاصر، سواء عند معالجة عالم الذرة أو عالم الفضاء الأوسع، على الصياغة
الأكسيومية أي على الإنشاءات الذهنية التي يشيدها العقل البشري انطلاقاً من مقدمات
يضعها وضعاً، ودون الالتفات خلال عملية البناء إلى أي شيء آخر سوى حرصه الشديد على
تجنب التناقض مع نفسه، مع فروضه وما يلزم عنها من نتائج؟.