كتاب
هيراقليطس وآناكساجوراس ومن بعدهما كل الفلسفة اليونانية والأوروبية الحديثة بين
العقل ونظام الطبيعة؟ ألا يفهم العلم المعاصر العقل على أنه جملة من القواعد
مستخلصة من موضوع ما. .
الشيئ الذي يعني ضمنياً المطابقة بينه وبين قواعد
الموضوع؟ وأخيراً وليس آخراً ألا تقول الفلسفة اليونانية والفلسفية الأوروبية
الحديثة والعمل المعاصر بهذه الحقيقة وهي أن العقل يكتشف نفسه في الطبيعة التي هي
ذاتها "عقل". . .
بمعنى نظام أو قوانين؟ المطابقة بين العقل ونظام الطبيعة
والقول بأن العقل يكتشف نفسه في الطبيعة ومن خلال التعامل معها ثابتان أساسيا في
بنية الفكر الغربي، اليوناني الأوروبي.
فلننظر إلى ما عليه الحال بالنسبة
ل"العقل العربي"؟ إذا نحن أردنا أن نبدأ الحديث عن "العقل العربي" من حيث انتهى
حديثنا عن العقل اليوناني الأوروبي، فإنه سيكون علينا أن نلاحظ أولاً ما يميز
"العقل العربي" بوصفه عقل الثقافة العربية الإسلامية، وبالتالي من أجل إضفاء
المصداقية على المعرفة العقلية، أي جعلها يقينة، وبعبارة أخرى أن فكرة الله تقوم
هنا بدور "المعين" للعقل البشري على اكتشاف الله وتبين حقيقته.
هنا في الثقافة
العربية الإسلامية يطلب من العقل أن يتأمل الطبيعة ليتوصل على خالقها: الله، وهناك
في الثقافة اليونانية الأوروبية يتخذ العقل من الله وسيلة لفهم الطبيعة أو على
الأقل ضامناً لصحة فهمه لها، هذا إذا لم يستغن عنه بالمرة، أو لم يوحد
بينهما.
بإمكاننا أن ننطلق من هذا النوع من المقارنة بين البنية الميتافيزيقية
للعقل اليوناني الأوروبي والبنية الميتافيزيقية ل"العقل العربي" فنضع النتائج
أولاً ثم نعرض للبرهنة عليها أو محاولة تبريرها بعد ذلك، وسنكون قد اختصرنا الطريق،
ولكن ذلك سيتم حتماً على حساب المعرفة بالطريق أي على حساب موضوعنا نفسه، إن هدفنا
ليس المقارنة في ذاتها ولا تكريس نوع من الفروض أو "النتائج".
كلا، إن ما نهدف
إليه أساساً هو التعرف على "العقل العربي" من خلال القيام برحلة في "أروقة" الثقافة
التي أنتجته وساهم هو في إنتاجها وتشكيلها، فالتعرف على الشيئ من داخله أفضل بكثير
من الوقوف عند وصفه من خارجه، خصوصاً عندما يصدر الباحث عن نظرة نقدية، هذا ولا بد
من التأكد هنا من جديد على أن ما يهمنا أساساً ليس العقل كبنية ميتافيزيقية بل
العقل كأداة للإنتاج النظري ك"منطومة من القواعد". .
قواعد النشاط الذهني، فكيف
يمكن فهم هذه الأداة المنظومة إذا لم نتتبعها في عملها ومن خلال طريقتها في العمل
والإنتاج؟ لنبدأ إذن من البداية، ولنبق دائماً في إطار التحديدات الأولية التي
يضطلع هذا الفصل بقسم منها.
إذا كان مفهوم العقل في الثقافة اليونانية والثقافة
الأوروبية الحديثة والمعاصرة يرتبط ب"إدراك الأسباب" أي بالمعرفة، كما بينا ذلك
قبل، فإن معنى "العقل" في اللغة العربية، بالتالي في الفكر العربي يرتبط أساساً
بالسلوك والأخلاق.
نجد هذا واضحاً في مختلف الدلالات التي يعطيها القاموس العربي
لمادة "ع. ق. ل" حيث يكاد يكون الارتباط بين تلك الدلالات وبين السلوك الأخلاقي عاماً
وضرورياً.
نعم، لقد امتد مفهوم "العقل" في الثقافة اليونانية الأوروبية إلى
ميدان الأخلاق، وبكيفية خاصة منذ الرواقين الذي رأوا الحكمة كل الحكمة، في العيش
وفق الطبيعة، أي وفق "اللوغوس" أو "العقل الكلي"، ومن هنا دشن الرواقيون بل
فصَّلوا، القول في "أخلاق العقل"، الأخلاق التي ترتكز على فكرة الواجب، وبإمكاننا
أن نؤكد منذ الآن أن مفهوم "العقل" في الفكر العربي سيمتد هو الآخر إلى ميدان
المعرفة، ولكن فرق كبير بين الاتجاه من المعرفة إلى الأخلاق والاتجاه من الأخلاق
إلى المعرفة، في الحالة الأولى، وهي حالة الفكر اليوناني الأوروبي، تتأسس الأخلاق
على المعرفة، أما في الحالة الثانية حالة الفكر العربي، فتتأسس المعرفة على
الأخلاق.
إن المعرفة هنا، في حالة الفكر العربي، ليست اكتشافاً للعلاقات التي
تربط ظواهر الطبيعة بعضها ببعض، ليست عملية يكتشف العقل نفسه من خلالها في الطبيعة،
بل هي التمييز في موضوعات المعرفة "حسية كانت أو اجتماعية" بين الحسن والقبيح، بين
الخير والشر، ومهمة العقل ووظيفته ، بل وعلامة وجوده، هي حمل صاحبه على السلوك
الحسن ومنعه من إتيان القبيح.
نجد هذا الجانب الأخلاقي، القيمي، ليس فقط في
الكلمات التي جذرها "ع. ق. ل" بل أيضاً في جميع الكلمات التي ترتبط معها بنوع من
القرابة في المعنى مثل ذهن، نُهى، حجا، فكر، فؤاد.
وهذه أمثلة قال في لسان
العرب:"العقل: الحجر والنهي، ضد الحمق، والعاقل هو الجامع لأمره ورأيه، مأخوذ من
عقلت البعير إذا جمعت قوائمه" وأيضاًَ: "العاقل هو الجامع لأمره ورأينه، مأخوذ من
عقلت البعير إذا جمعت قوائمه" وأيضاً: "العاقل من يحبس نفسه ويردها عن هواها، اخذ
من قولهم اعتقل لسانه إذا حبس ومنع الكلام. . .
وسمي العقل عقلاً لأنه يعقل صاحبه
عن التورط في المهالك أي يحسبه". . . .
وجاء في لسان العرب كذلك "النهي جمع نهية،
والنهية تنهي عن القبيح"، أما الحجا فهو "التفطن إلى المغالط ومنه الأحاجي
الأغاليط".
وواضح أن الأمر يتعلق هنا، حتى في هذه الكلمة التي تفيد التفطن"،
بالجانب القيمي وليس بالجانب المعرفة وحده(" الأغاليط وليس الأسباب". . .
وعلى
الرغم من أن كلمة "ذهن" تفيد الفهم أساساً، إلا أن هذا "الفهم" يرتبط هو الآخر
بالحكم القيمي، ففي لسان العرب:" يقال ذهنني عن كذا بمعنى ألهاني عنه". . .
والذهن
أيضاً: القوة.
أما "الفؤاد" فهو "من التفؤود" أي التوقد، ويورد صاحب لسان العرب
حديثاً نبوياً وصف فيه الفؤاد بالرقة والقلب باللين مما يوحي بأنه ذو بطانة وحدانية
مثله مثل القلب، ويضيف لسان العرب: "والمفؤود: المصاب في فؤاده بوجع" مما يؤكد
الدلالة العاطفية التي اشرنا إليها، أما كلمة "فكر" فعلى الرغم من أنها تفيد
أساساً: "أعمال الخاطر في الشيئ"، فهناك ما يضفي على هذا "الخاطر" معنى قيمياً، فقد
ورد في لسان العرب: "يقال ليس لي في هذا الأمر فكر، أي ليس لي فيه حاجة. .
أما
إذا استشرنا الكتاب العربي المبين، القرآن الحكيم، فإننا سنجد هذا المعنى القيمي
المرتبط بكلمة "عقل" وما في معناها، يعبر في الأغلب الأعم عن التمييز بين الخير
والشر، بين الهداية والضلال، ولعل مما له مغزه في هذا الصدد أن القرآن لا يستعمل
مادة "ع.
ق.
ل" في صيغة الاسم، وإنما وردت هذه المادة في صيغة الفعل في معظم
الحالات: فالقرآن يؤنب المشركين لكونهم لا يميزون بين الحق والباطل بالمعنى
الأخلاقي: "لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها ، ولهم آذان لا يسمعون
بها، أولئك كالأنعام بل هو أضل، أولئك هم الغافلون" "الأعراف آية 179".
وهكذا
فالقلب والعقل هنا بمعنى واحد، ولا يفقهون يفسرها :"الغافلون".
والمعنى القيمي
واضح في الكلمتين معاً، وفي نفس هذا المعنى وردت الآية التالية: "إن شر الدواب عند
الله الصم البكم الذين لا يعقلون" "الأنفال 22".
وأيضاً: "ولا تقف ما ليس لك به
علم ، إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولاً" "الإسراء 36".
وواضح
أن السمع والبصر والفؤاد والكلام كلمات تؤخذ هنا في مستوى واحد، فهي كلها "آلات"
للتمييز بين الحسن والقبيح، وبالتالي فهي كلها تقع تحت طائلة المسؤولية، وهناك آيات
عديدة أخرى تربط بين العقل والهداية والمسؤولية، من ذلك الآية التالية: "وإذا قيل
لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أو لو كان آباؤهم لا
يعقلون شيئاً ولا يهتدون، ومثل الذي كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء
ونداء، صم بكم عمي فهم لا يعقلون" "البقرة 170 171".
نعم يمكن أن نلمس من خلال
الدلالات المختلفة لكلمة "عقل" والكلمات الأخرى التي في معناها ما يمكن ربطه
بالنظام والتنظيم، ولكن حتى في هذه الحالة يظل الجانب القيمي حاضراً دوماً، فالنظام
والتنظيم في المجال التداولي للكلمات العربية المذكورة متجه دوماً إلى السلوك
البشري لا إلى الطبيعة وظواهرها، ومن هنا يمكن القول أن "العقل" في التصور الذي
تنقله اللغة العربية المعجمية يرتبط دوماً بالذات وحالاتها الوجدانية وأحكامها
القيمية، فهو في نفس الوقت عقل وقلب، وفكر ووجدان، وتأمل وعبرة. .
أما في التصور
الذي تنقله اللغات الأوروبية فالعقل مرتبط دوماً بالموضوع، فهو إما نظام الوجود،
وإما إدارك هذا النظام، أو القوة المدركة.
إن المعطيات السابقة تجعلنا، من
الناحية المبدئية على الأقل، في وضع يسمح لنا بالقول ان " العقل العربي" تحكمه
النظرة المعيارية إلى الأشياء، ونحن نقصد بالنظرة المعيارية ذلك الاتجاه التفكير
الذي يبحث للأشياء عن مكانها وموقعها في منظومة القيم التي يتخذها ذلك التفكير
مرجعاً له ومرتكزاً.
وهذا في مقابل النظرة الموضوعية التي تبحث في الأشياء عن
مكوناتها الذاتية وتحاول الكشف عما هو جوهري فيها، إن النظرة المعيارية نظرة
اختزالية، تختصر الشيئ في قيمته، وبالتالي في المعنى الذي يضفيه عليه الشخص
"والمجتمع والثقافة" صاحب تلك النظرة، أما النظرة الموضوعية فهي نظرة تحليلية
تركيبية تحلل الشيئ إلى عناصره الأساسية لتعيد بناءه بشكل يبرز ما هو جوهر
فيه.
ولعل هذا نفسه هو ما أبرزه النقاد القدماء أمثال الجاحظ والشهرستاني ممن
تعرضوا للمقارنة بين العرب والعجم في مجال الفكر والثقافة.