كتاب
أن كل كلام للفرس وكل معنى للعجم فإنما هو عن طول فكره وعن اجتهاد وخلوة ومشاورة
ومعاونة وعن طول تفكر ودراسة الكتب وحكاية الثاني علم الأول وزيادة الثالث في علم
الثاني حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم "لنلاحظ أن هذا غير ممكن إلا إذا اتجه
التفكير إتجاهاً موضوعاً".
وكل
شيء عند العرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليس هناك معاناة ولا مكابدة،
ولا إجالة فكر ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف وهمه على الكلام وإلى رجز يوم الخصام،
أوحين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير أو عند المقارعة أو المناقلة أو عند صراع أو
في حرب ، فما هو إلا أن يصرف وهمه إلى جملة المذهب وإلى العمود الذي يقصد فتأتيه
المعاني إرسالاً وتنثال علم غيره واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما
علق بقلوبهم والتحم بصدورهم واتصل بعقولهم، من غير تكلف ولا قصد ولا تحفظ ولا
طلب.
إن الجاحظ الذي ساق ملاحظاته هذه في إطار الإشادة بالعرب ورد هجمات
الشعوبية، ربما لم يكن منتبهاً إلى أنه يسلبهم القدرة على "التعقل" بمعنى الاستدلال
والمحاكمة العقلية.
إن العقل العربي حسب الجاحظ قوامه البداهة والارتجال ،
وهو يريد بذلك سرعة الفهم وعدم التردد في إصدار الأحكام، وهذا معناه تحكم النظرة
المعيارية التي تؤسسها ردود أفعال آنية، وذلك في مقابل النظرة الموضوعية التي
قوامها "المعاناة والمكابدة واجالة النظرة" والتي يجعلها الجاحظ من خواص "العقل"
عند العجم من فرس ويونان.
ويأت الشهر ستاني وقد هدأ الصراع مع الشعوبية ليقف
موقفاً "محايداً"، موقف المؤرخ للفكر من منظور فلسفي يعتمد المقارنة فعلاً، ولكن مع
نظرة تحليلية أعمق.
يقول الشهر ستاني إن العرب والهنود أكثر ميلهم إلى
"تقرير خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات والحقائق واستعمال الأمور الروحانية" ،
أما العجم "الروم والفرس" ف"أكثر ميلهم إلى تقرير طبائع الأشياء والحكم بأحكام
الكيفيات والكميات واستعمال الأمور الجسمانية".
ويؤكد الشهر ستاني نفس الحكم في
مكان آخر من نفس الكتاب حيث يضع "الفطرة" و"الطبع" موضع "الأمور الروحانية" ،
و"الإكتساب" و"الجهد" مكان "الأمور الجسمانية".
يطرح علينا الشهر ستاني مقارنة
تقوم على التعارض : فتقرير خواص الأشياء، في مقابل تقرير طبائعها، معناه التعامل مع
الشيء من خلال صفاتها وخصائصه المميزة له عن غيره، لا من خلال طبيعته أي ما يشكل
قوامه الداخلي: بنيته ونظام العلاقات فيه.
هذا ولابد من التذكير هنا بأن كلمة
"طبائع" في الاصطلاح القديم تفيد في آن واحد نظام السببية الثابت "نوع من الضرورة"
والتركيب الماهوي للشيء، وبالمثل ف"الحكم بأحكام الماهيات والحقائق | يعني الحكم
على الشيء من خلال أهم صفاته بالنسبة لمن يقوم بالحكم، الشيء الذي تكفي فيه النظرة
الإجمالية التي تقوم على "البديهة والارتجال. . "، والحكم الذي من هذا النوع حكمي
قيمي ولابد، وعلى النقيض من ذلك تماماً "الحكم بأحكام الكيفيات والكميات واستعمال
الأمور الجسمانية" أي الحواس والتجربة" التي يربطها الشهرستاني ب"الاكتساب والجهد"
اللذين يضعهما مقابل "الفطرة والارتجال".
وإذا نحن استعدنا الحقل المعرفي الذي
كان يتحدث داخله الشهر ستاني عرفنا أن "الحكم بأحكام الكميات والكيفيات" يعني بيان
ما منه يتركب الشيء، أي النظر إليه نظرة موضوعية، لنضف أخيرا أن النظرة الموضوعية
هذه تختلف عن النظرة الذاتية من حيث أنها تعتمد الاستدلال والبرهان لا الحدس
والوجدان.
**** نستطيع الإسترسال في تقرير "النزعة المعيارية" التي تحكم وتوجه
"العقل العربي" ، وأيضاً نظرة العرب إلى العقل، فنستشهد بنصوص أخرى لمؤلفين قدامى
أو محدثين عرباً وغير عرب، ولكن وجهتنا ليست جمع الوثائق للحكم على "العقل العربي"
بهذا الحكم أو ذاك، فنسقط بذلك في ذات "النظرة المعيارية". .
إن وجهتنا هي تحليل
الأساس الايبيستيمولوجي لثقافة العربية التي أنتجت "العقل العربي".
أما المقارنة
بين العرب والعجم في مجال الفكر سواء على طريقة الجاحظ أو طريقة الشهرستاني، فليس
يهمنا منها إلا ما تقدمه لنا من تحديدات أولية لمفهوم "العقل العربي". .
أما ما
عدا ذلك فلم يحن الوقت بعد، بالنسبة لنا، للخوض فيه.
على أن هناك عاملاً منهجياً
آخر يفرض علينا الوقوف في هذا النقطة التي نحن فيها الآن، حتى لا نستمر في إصدار
أحكام عامة قبل تبريرها وتوثيقها: لقد انطلقنا في تلمس بعض العناصر التي تشكل، أو
تساهم في تشكيل، خصوصية"العقل العربي" من اللغة التي تحتفظ لنا بها المعاجم، لغة
عرب الجاهلية، وأكدنا ذلك من خلال طرح مضمون آيات من القرآن، وهو كتاب عربي ينطق
بلغة العرب، عرب الجاهلية، كما كانت في عهد النبي.
وعندما تحدث الجاحظ
والشهرستاني عن "العقل العربي" فإنما كان يتحدثان عن "عقل" عرب الجاهلية
أساساً.
نحن إذن لم نخرج عن "العصر الجاهلي" بكل ما يتحدد به هذا العصر من عناصر
بيئية: جغرافية واقتصادية واجتماعية وثقافية، فهل يجوز لنا تعميم خصائص "العقل
العربي" في العصر الجاهلي على العصور الإسلامية التالية؟ إنه نفس السؤال الذي
اعترضنا في مستهل هذا الفصل والذي نج أنفسنا، من جديد مضطرين، رغم التوضيحات
السابقة بل بسبب منها، إلى تأجيل الجواب عنه إلى أن نستكمل العناصر الضرورة
لذلك.
ولعل في الفصل التالي ما سيمكننا من إعادة طرح نفس السؤال بصيغة أخرى،
أشمل وأعمق.
* الفصل الثاني * الزمن الثقافي العربي ومشكلة التقدم عندما تعرضنا
، في الفصل السابق، للتمييز الذي أقامة لالاند بين" العقل المكون" و"العقل المكون"
أشرنا إلى أن مفهوم "العقل العربي" كما نستعمله هنا ينطبق أكثر على "العقل المكون"
كما تشكل في الثقافة العربية بواسطتها، أي بوصفه جملة المبادئ والقواعد التي تقدمها
الثقافة العربية للمنتمين إليها كأساس لاكتساب المعرفة، ويمكن أن نقول: تفرضها
عليهم :"نظام معرفي".
لنغض الطرف الآن عن علاقة تبادل التأثير التي تربط العقل
المكون بالعقل المكون والتي أبرزناها في الفصل السابق، ولنوجه اهتمامنا في هذا
الفصل إلى هذا "العقل العربي" المكون بوصفه النظام المعرفي القائم الذي يؤسس
المعرفة وكيفية إنتاجها داخل الثقافة العربية ولنتساءل: ماذا نقصد ب"النظام
المعرفي" وكيف يمارس فعاليته داخل ثقافة ما؟ ثم إذا كان العقل المكون هو بتعبير
لالاند نفسه: "منظومة من القواعد المقررة والمقبولة في فترة تاريخية ما" ، فأية
فترة تاريخية من فترات الثقافة العربية نقصد عندما نتحدث عن "العقل العربي" بوصفة
هذه "المنظومة من القواعد"؟ وأخيراً ما هي إستراتيجيتنا العامة في هذه الدراسة
النقدية؟.
أسئلة مترابطة متداخلة سنحاول تقديم الجواب عنها ضمن هذا الفصل الذي
يطرح قضية المنهج والرؤية، ويشرح المفاهيم المؤسسة لهما.
يمكن أن نلتمس لمفهوم
"النظام المعرفي" Episteme تعريفاً أولياً ومجرداً في العبارة التالية: النظام
المعرفي هو جملة من المفاهيم والمبادئ والإجراءات تعطي للمعرفة في فترة تاريخية ما
بنيتها اللاشعورية، ويمكن اختزال هذا التعريف كما يلي: النظام المعرفي في ثقافة ما
هو بنيتها اللاشعورية.
فما يعني هذا؟ عندما نتحدث عن "بنية" فإننا نعني أساساً
وجود ثوابت ومتغيرات، وبالتالي فإننا حينما نتحدث عن بنية "العقل العربي" ، فإنما
نقصد في الحقيقة ثوابت ومتغيرات الثقافة العربية التي صنعته.
هل يعني هذا أننا
نوحد هنا بين "العقل" و"الثقافة"، التي ينتمي إليها، على أساس أنهما مظهران
ل"بنية" واحدة؟ ليكن ذلك ولكن شريطة أن نأخذ بهذا التعريف المشهور للثقافة، والذي
يقول: "الثقافة هي ما يبقى عندما يتم نسيان كل شيء"، وهكذا فإذا قلنا أن "العقل
العربي" هو ما خلفته وتخلفه الثقافة العربية في الإنسان العربي، بعد أن ينسى ما
تعلمه في هذه الثقافة، لم نبعد عن الصواب.
إن ما يبقى هو "الثابت" وما ينسى هو
"المتغير". .
إن ما يبقى هو ثوابت الثقافة العربية، هو العقل العربي ذاته.
بعد
هذا التعريف، العام والمجرد ، للعقل العربي، التعريف الذي يسمح لنا الآن برفع
المزدوجتين عن هذا المفهوم، مفهوم العقل العربي، ننتقل الآن إلى إلقاء ما يمكن من
الأضواء على مضمونه، فنتساءل: وماذا بقي ثابتاً في الثقافة العربية منذ "العصر
الجاهلي" إلى اليوم؟ "نقول منذ "العصر الجاهلي" الذي نضعه هو الآخر بين مزدوجتين
إلى حين لأن هناك اجتماعاً ، ضمنياً على الأقل، بأن الثقافة العربية بدأت في
التكون في نقطة ما داخل ذلك العصر.
وسنعود لمناقشة هذه القضية في الفصل
القادم.