كتاب
الثقافية " في فكر المثقف العربي ، هو ما يفسر ظاهرة مزعجة في الفكر العربي
المعاصر، ظاهرة "المثقفين الرحل" ، المثقفين الذين يرحلون عبر "الزمن الثقافي"
العربي من "المعقول" إلى "اللا معقول"، من اليسار إلى اليمين بسهولة تكاد لا
تصدق.
وبدون
ذكر أسماء معينة تكفي الإشارة إلى القفز، على صعيد المواقف "المبدئية" ، حول قضايا
"الوحدة" و"الاشتراكية" و"الديمقراطية" و"الإسلام" و"العروبة" و"العلمانية" ، وهي
القضايا الرئيسية في الفكر العربي المعاصر.
كما قد يكفي التلميح من جديد
إلى ظاهرة "الهجرة" من المعقول إلى اللامعقول التي سادت وتسود منذ بضع سنين في
أوساط المثقفين و"العلماء" العرب.
ولا تكتسي ظاهرة "الترحال الثقافي " في الفكر
العربي المعاصر صورة التراجع و"التوبة" وحسب، بل تتخذ مظهراً آخر قوامه تغيير
الاتجاه عند كل لحظة معرفية، مما يؤكد أن المشكلة في عمقها ليست مشكلة تقلب
الاختيار على الصعيد الأيديولوجي وإنما هي أساساً مشكلة انعدام الاستقرار
الايبستيمولوجي.
لقد كان أجدانا إذا أدلوا برأي ختموه بالقول: "الله أعلم"
أو"المسألة فيها قولان. . " ، أما اليوم فإن التعقيب الذي حل محل تواضع العلماء
القدامى يكتسي صيغة التأكيد التالي : "هذا أعلم".
ذلك أن الحقيقة لدى كثير من
"المثقفين القراء" العرب ، بل ولدى كثير من الكتاب والباحثين في الوطن العربي،
فضلاً عن المثقف العادي، هي ما يقوله آخر كتاب قرأوه ولربما آخر حديث استمعوا له،
الشيء الذي يدل على رسوخ الاستعداد للتلقي وغياب الروح النقدية في نشاط العقل
العربي " المعاصر" ، هذا العقل الذي يتقبل المشاهد الفكرية بنفس الطريقة تقريباً
التي يتقبل بها الطفل الرضيع المشاهد الحسية البصرية التي تترى أمام ناظريه مشكلة
عالماً خاصاً يفتقد إلى البعد الثالث، عالماً شريطياً ينسي فيه اللاحق السابق وكأنه
لم يكن.
3 هذه الظاهرة المضاعفة، ظاهرة تداخل الأزمنة الثقافية والترحال
الثقافي في حياتنا الفكرية الراهنة تطرح مهمة مستعجلة، مهمة إعادة كتابة التاريخ
العربي بصورة تعيد إليه تاريخيته.
والحق أن التاريخ الثقافي العربي السائد الآن
هو مجرد اجترار وتكرار وإعادة إنتاج، بشكل رديء، لنفس التاريخ الثقافي الذي كتبه
أجدادنا تحت ضغط صراعات العصور التي عاشوا فيها وفي حدود الإمكانيات العلمية
والمنهجية التي كانت متوافرة في تلك العصور، وبالتالي فنحن ما زلنا سجناء الرؤية
والمفاهيم والمناهج القديمة التي وجهتهم مما يجرنا ، دون أن نشعر ، إلى الانخراط في
صراعات الماضي ومشاكله، إلى جعل حاضرنا مشغولاً بمشاكل ماضينا وبالتالي النظر إلى
المستقبل بتوجيه من مشاكل الماضي وصراعاته. .
نحن إذن في حاجة إلى إعادة كتابة
التاريخ الثقافي العربي بروح نقدية وبتوجيه من طموحاتنا، نحن العرب، في التقدم
والوحدة.
إن التراث يشكل بالفعل المقوم الأساسي للنزوع الوحدوي لدى العرب في كل
العصور، وهو يغذي هذا النزوع في العصر الحاضر بصورة أقوى. .
ولكن مع ذلك لابد من
الاعتراف بأننا لم نتمكن بعد من ترتيب العلاقة بين أجزاء هذا التراث من جهة، وبينه
وبيننا من جهة أخرى بالصورة التي تجعله يؤسس ذاتنا العربية وفق متطلبات
العصر.
ولعل الملاحظات التالية تبرز إلى أي مدى يفتقد تاريخنا الثقافي إلى إعادة
كتابة. .
إلى إعادة بناء.
التاريخ الثقافي العربي كما نقرأه اليوم في الكتب
والمدارس والجامعات هو تاريخ "فرق" وتاريخ "طبقات" وتاريخ "مقالات"
. .
إلخ. .
إنه تاريخ مجزأ، تاريخ الاختلاف في الرأي وليس تاريخ بناء
الرأي.
نعم إن طريقة القدماء هذه كانت تمليها عليهم ظروفهم، بل يمكن أن نبررها
نحن كذلك بالنظر إلى المعطيات التي حركتهم.
إن طريقتهم في التاريخ هي نفسها جزء
من التاريخ ولذلك فلا معنى للومهم ، وإنما اللوم كل اللوم لانقيادنا الأعمى لما كان
نتاجاً لظروف تاريخية خاصة ولتعاملنا معه وكأنه حقيقة مطلقة.
إن هذا الانقياد
يصرفنا عن اكتشاف الكل الذي يحمل فعلاً الوحدة الثقافية العربية.
ذلك أنه وراء
"تاريخ" الاختلاف والتعدد والصراع والانفصال يثوى تاريخ الوحدة والتكامل والاتصال،
وإذن فعلى أنقاض تاريخ الأجزاء، الممزق المبعثر، يجب أن نبني تاريخ الكل.
والتاريخ الثقافي العربي كما هو سائد اليوم هو تاريخ علوم وفنون من المعرفة منفصلة
بعضها عن بعض، فتاريخ المذاهب الفقيهة إن وجد معزول تماماً عن تاريخ المذاهب
النحوية، وهما معاً منفصلان، كلاً على حدة عن تاريخ المذاهب الكلامية
والفلسفية. . إلخ.
نعم نحن لسنا ضد التخصص، ولكن يجب أن نراعي داخل دائرة التخصص
ذاتها الترابط بين الاختصاصات في ثقافة الماضي، فالفقيه كان نحوياً والنحوي فقيهاً،
وربما نجدهما معاً من ا لمتكلمين أو البلاغيين، وكما عرف تاريخنا الثقافي فقهاء
علماء في الرياضيات أو الفلك أو النبات عرف كذلك فقهاء فلاسفة كالغزالي وابن حزم
وفلاسفة فقهاء كابن رشد. .
وهكذا فوراء التعدد والتنوع في ثقافتنا الماضية يقوم
التكامل والوحدة، وهذا شيء يغفله تاريخنا الثقافي السائد الآن.
والنتيجة من هذا
الإغفال هي أن الفقيه منا لا يرث من فقه الماضي إلا خصومة بعض الفقهاء للفلسفة
مثلاً، كما لا يرث نحاة اليوم من نحو الماضي إلا خصومة بعض النحاة للمناطقة، في حين
أن هذه الخصومات جميعها كانت إما خصومات علمية أي اجتهادات، وأما امتداد لخصومات
سياسية، وفي كلتا الحالتين كانت تمليها عوامل ظرفية، فيجب إذن أن تبقى هناك مرتبطة
بظروفها لينفسح المجال لما هو تاريخي حقاً، أي لما هو صيرورة وتكامل ووحدة.
والتاريخ الثقافي العربي الراهن زمنه راكد، كما أوضحنا ذلك قبل، وبالتالي فهو لا
يقدم لنا تطور الفكر العربي وانتقاله من حال إلى حال بل يقدم لنا "معرضاً" أو
"سوقاً" للبضاعة الثقافية الماضية التي تحيا كلها زمناً واحداً يعاصر فيه القديم
والجديد، تماماً مثلما تعاصر البضاعة القديمة البضاعة الجديدة خلال فترة المعرض أو
السوق، والنتيجة من ذلك تداخل الأزمنة الثقافية في وعينا بتاريخنا الثقافي، مما
يفقدنا الحس التاريخي ويجعل حلقات الماضي تترى أمامنا كمشاهد متزامنة وليس كمراحل
متعاقبة.
وهكذا يتحول حاضرنا إلى "معرض" لمعطيات ماضينا، فنعيش ماضينا في حاضرنا
هكذا جملة واحدة، بدون تغاير، بدون تاريخ.
وكما يتسم تاريخنا الثقافي بتداخل
الأزمنة الثقافية يتسم كذلك بتداخل الزمان والمكان فيه.
إن تاريخنا الثقافي
يرتبط في وعينا بالمكان ربما أكثر من ارتباطه بالزمان: تاريخنا الثقافي هو تاريخ
الكوفة والبصرة ودمشق وبغداد والقاهرة والقيروان وفاس واشبيلية وقرطبة. .
مما
يجعل منه تاريخ "جزر ثقافية" منفصلة بعضها عن بعض في الزمان انفصالها في
المكان.
والنتيجة حضور هذه الجزر الثقافية في الوعي العربي المعاصر حضوراً، لا
على التعاقب ولا على التزامن، بل حضوراً لا زمانياً، الشيء الذي يجعل وعينا
"التاريخي" يقوم على التراكم وليس على التعاقب، على الفوضى، وليس على النظام.
وأخيراً وليس آخراً لا بد من ملاحظة ما يسود العلاقة بين تاريخنا الثقافي والتاريخ
الثقافي العالمي من اضطراب وانقطاع ، وذلك على حساب تاريخنا، على حساب دوره ومكانته
في التاريخ العالمي.
لقد بني التاريخ الثقافي الأوروبي على الاستقلال الذاتي،
فهو يبدأ من أثينا لينتقل إلى روما ثم إلى فلورنسا ومنها إلى أوروبا
الحديثة.
والعملية قائمة كلها على غبن العرب، على الاستغناء عن تاريخهم الثقافي،
على إقصاء تعسفي لدور الثقافة العربية الأساسي في التاريخ الثقافي العالمي.
وإذا
مال بعض المستشرقين إلى "الموضوعية" صرحوا بأن العرب كانوا حلقة وصل بين اليونان
وأوروبا، وهم يجعلون حلقة الوصل هذه مؤقتة استغنت عنها أوروبا سريعاً بعودتها إلى
الأصول اليونانية.
هذا في حين أن الثقافة العربية لم تكن في الواقع مجرد حلقة
وصل بين الثقافة الأوروبية الحديثة، بل لقد كانت بالفعل إعادة إنتاج للثقافة
اليونانية، وكانت الثقافة الأوروبية الحديثة في بداية أمرها إعادة إنتاج للثقافة
العربية الإسلامية.
وإذن فحضور الثقافة العربية الإسلامية في التاريخ الثقافي
العالمي" الأوروبي" حضور مؤسس، وليس مجرد حضور الوسيط المؤقت.
وعلينا نحن اليوم
أن نثبت ذلك، ليس بمجرد الادعاء والتنويه الذاتي، العاطفي، بل بالعمل على إعادة
كتابة تاريخنا الثقافي وإعادة ترتيب العلاقة بينه وبين التاريخ الثقافي العالمي على
أسس علمية موضوعية، وبروح نقدية.