أشجار الحدائق وأزهار البساتين وثمار الحقول ..كلها كانت حَبًّا "بفتح الحاء" هذا قبل أن تصل سن البلوغ لتتزاوج وتزهر وتثمر ثم تموت ليولد سواها من الحَب أيضاً ..تماماً كما بدأت هي من قبل وفي النهاية كلٌ من
التراب وإليه .
في آخر دراسة أوروبية حول امتلاك الأشجار للإحساس بما حولها كشف العلماء عن سر كان غامضاً لديهم لكنه كان جلياً لدينا كمسلمين حين توصلوا إلى أن للأزهار بمختلف أنواعها وأشكالها شفرة حسية تجعلها تشعر بالطقس من
حولها فتزهر في الربيع وتنكفئ في الشتاء وتتساقط في الخريف وتتلاقح في الصيف .
والحقيقة أن لا شيء إلا ويسبح بحمد الله ..فهل سيسبح كل هؤلاء دون أن يكون لديهم إحساس بكل ما حولهم من متغيرات ؟! قال تعال " تسبح له السماوات والأرض وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون
تسبيحهم إنه كان حليماً غفورا" الإسراء آية 44.. نعم وإلا كيف بكى جذع الشجرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! .
إنما خطرت لي مفارقة جميلة ولذيذة وأنا أتأمل في أمر الحَب "بفتح الحاء" والحُب "بضم الحاء" فبذرة الحَب تحتاج إلى قطرة الماء لتصبح شجرة مثمرة بينما تحتاج نُطفة الماء "البشرية" تحتاج إلى بذرة حُب "بضم
الحاء" لتبقى وتثمر وتتجذر ..إذاً فالحَب "بفتح الحاء" والحُب "بضم الحاء" توأمان لصيقان لا يمكن لأحدهما أن ينفصل عن الآخر وهما يشتركان في قطرة ماء واحدة أحدهما تحمل شفرات وراثية والأخرى تحمل
أسرار الحياة بأكملها ..غير أن الثانية تسقط من السماء بينما الأولى مكانها الأرض .
ولو فتحنا باباً للتفريق بينهما لما كفتنا أطنان من الحبر والورق لأن كليهما أصلٌ للحياة وليس فرعاً فيها ،كما أنهما يعيشان وفق علاقة تبادلية وتكاملية منتظمة في سلسلة لا متناهية من المصالح الطبيعية التي لا تشوبها الأحقاد .
القرآن الكريم صور نشوء كلاهما تصويراً عظيماً في كيفية الوصول إلى منتهى المقاصد وغاية الفرائض ضمن انصياع لا متناهٍ للقدرة العظيمة الرابطة بينهما ..التراب هو الشيء الآخر المشترك بين الإنسان كنطفة وحَب الأرض
كسبب من أسباب البقاء للإنسان والحيوان ومساحات الأرض الشاسعة التي تحترق رئتها إذا لم يمدها هذا البساط الأخضر بالأكسجين .
إذاً فالماء والتراب والهواء وبعض الحَب هو كل ما يحتاجه الإنسان ليعيش ..إذا اكتفينا بالعبادة كنشاط فطري إلى جانب استصلاح الأرض وتسخيرها وتوجيه طاقة الماء لخدمة الإنسان .
أشعر دائما بالخوف حين أتأمل في ناطحات السحاب ،الطائرات العملاقة ،معدات وعتاد وآلات ليست من الفطرة في شيء ـقد تكون مساهمة بقوة في إثارة العجب لكنها من المستحيل أن ترفع العتب !! .
لأنها أظهرت الجزء الغامض والقاسي والشرس والأكثر ضراوة من شخصية الإنسان ،ولأنها أيضاً دمرت جزءاً كبيراً من إحساسه بقيمة الزمن ..نعم فلكل منا زمن محدود في الحياة غير إننا نتجاهل كثيراً أنه قصير جداً وأن
أحداً ما لا يعيش على وجه الأرض إلا مرة واحدة وفي تلك المرة يشهد التاريخ لحظة ولادته وساعة موته وتلتقي جغرافيا الأرض باحتضانه رفاتاً حتى تقوم الساعة ..بين حَب الأرض وخلف الإنسان رواية طويلة تبدأ بـ"كن"
وتنتهي بـ"يكون" .
ألطاف الأهدل
بين كُن ويكون 1933